الأزمة الاقتصادية في الولايات المتحدة بين رؤيتين
حسن منيمنة
لم تتضح بعد، للمواطن الأميركي العادي، الأبعاد الحقيقية الكاملة للأزمة الاقتصادية التي تعيشها بلاده، ومعها العالم أجمع. فالبطالة بلغت مستويات لم تشهدها الولايات المتحدة منذ عقود، وإن كانت ما تزال متدنية بالمقارنة مع ما هو اعتيادي في الخارج، وتراجع قيمة العقارات كما الأسهم والأوراق المالية قد أرسى شعوراً بخسائر مالية فادحة لعموم المواطنين، وإن لم تكن متحققة إلا لقلة منهم. والأنباء الاقتصادية القاتمة تتوالى يومياً مخلفة وراءها شعوراً بالخوف والتوجس من جهة، وفرصاً بارزة للتوظيف السياسي من جهة أخرى.
ويجـــوز موضوعياً إدراج ما يحصل اليوم في إطار دورة اقتصادية طويلة الأمد تبتدئ بالانكماش الذي عاشتــه الولايات المتحدة قبل ثلاثة عقود، مروراً بالتنشيط التحفيزي للاقتصاد الذي سعى إليه الرئيس الأسبق رونالد ريغان من خلال تخفيف القيود الرقابية والعبء الضريبي، والذي تضاعفت نتائجه في أعقاب انتهاء الحرب الباردة والقفزة البارزة في قطاع الاتصالات والمعلوماتية في العقد الأخير من القرن الماضي. فما تحقق في عهد الرئيس بيل كلينتون كان نمواً غير مسبوق تمكنت خلاله الحكومة الأميركية من تحقيق فائض في ميزانياتها، بدلاً من العجز المعضل، وسارت باتجاه تسديد بعض الدين العام. وما لا شك فيه أن «الاقتصاد الجديد» الذي ضاعف يومها ثروات العديدين بين ليلة وضحاها كان ينطوي على الكثير من الوهم والإفراط في الحماسة إزاء التقنيات الجديدة وما توفره من فرص. والأزمـــة المالية الخانقة التي تبدو اليوم وكأنها قد قصمــــت ظهـــر الاقتصــــاد الأميركي تعود في أسبابها إلى محــاولات استيعاب خيبة الأمل من ذاك الاقتصاد الجديد، والتي تجسدت بتراجع حاد في مستويات الأسواق المالية، إذ أتيح للمصارف التجارية تداول الاستثمارات، ما أدى إلى تداخل غير مسبوق بين التمويل العقاري والمشتقات الاستثمارية، وساهم بالتالي بمضاربات متفاقمة أقحمت العديدين بترتيبات مالية متهورة أثقلت كاهل الاقتصاد وأوصلته إلى مشارف الانهيار.
ولكن هذه النظرة للمدى الطويل لا تعفي حكومة الرئيس السابق جورج دبليو بوش من المسؤولية، بنظر منتقديه الكثر. فلا هي سعت إلى استباق الانهيار بخطوات كان من شأنها تجنبه أو على الأقل تلطيفه، ولا هي امتنعت عن سلوك يسير باتجاه مضاعفة الوهن في الاقتصاد، ولا سيما الإنفاق الهائل على حروب خارجية مكلفة. ولا شك أن حكومة الرئيس بوش قد عانت من تناقض جدي في توجهها، إذ هي كانت من حيث المبدأ ملتزمة بالأساس المحافظ القاضي بتقليص دور الدولة ومنعها من اتخاذ الخطوات الاقتصادية التوجيهية انطلاقاً من القناعة بأن السوق أعلم بأموره، ولكنها، وإن بحجّة المقتضيات الأمنية المستجدة في أعقاب اعتداءات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر)، سارت في اتجاه مضاعفة الإنفاق وتوسيع دور الدولة على أكثر من صعيد.
وحصيلة الأعوام الماضية، والتي تراكمت فيها نتائج كل من الدورة الاقتصادية الطويلة والسياسة الملتبسة، وإن للضرورة، لحكومة الرئيس بوش، هي واقع مؤلم للمواطن الأميركي، وتشخيصان متواجهان لسبل الحل والخروج من الأزمة. فالتشخيص الديموقراطي والتقدمي، والذي يعمل الرئيس باراك أوباما على تنفيذه، يرى أن الاعتماد على عقلانية السوق قد فشل، بل ما أثبتته الوقائع هو جشع رأس المال، ولا بد بالتالي من تدخل عميق للدولة في آليات السوق، تخطيطاً وتنفيذاً، ومن ضخ مبالغ ضخمة من المال العام منعاً للانهيار. أما الرؤية المحافظة المعارضة، وهي التي يسعى الجمهوريون إلى إعادة صياغتها بعد هزيمة انتخابية واضحة، فهي أنه إذا كانت ثمة مسؤولية للعهد السابق فهي في إنفاقه المخالف للمبادئ المحافظة، وليس في امتناعه عن اعتراض مسار الأسواق. وإذا كان من خطر يواجه الاقتصاد اليوم، ويهدد مصير البلاد، فهو في محاولات حكومة الرئيس أوباما توجيه هذا الاقتصاد بعيداً عن منطق السوق. فتدخل الدولة لن يأتي بالنتائج المرجــــوة، بل سوف يتسبب بتفاقم الأزمة من خلال إطالة عمر المؤسسات والشركات السقيمة والتي من الأجدى تركها لمصيرها المحتوم بدلاً من إتاحة المجال لها لمزيد من الاستنزاف لعموم الاقتصاد، ومن خلال فرض قيود إداريـــة واستحـــداث دوائر ومؤسسات عامة تشكل لا مــحالة عبئاً إضافياً على الاقتصاد، وتتطلب رفعاً خطيراً للمتوجباـــت الضريبية في وقت البلاد بأمس الحاجة إلى تخفيف الضرائب تنشيطاً للمبادرات الاقتصادية.
والخطاب الجمهوري الموجه إلى عامة المجتمع الأميركي اليوم هي أن الرئيس أوباما يتحصن بالخوف المستتب نتيجة للتردي الاقتصادي، بل ربما يعمل على تأجيج هذا الخوف، ليحقق رؤية عقائدية تتعارض مع القناعات التاريخية المبدئية للولايات المتحدة، وهي رؤية أقرب إلى التصور الاشتراكي تتولى فيه الدولة مسؤوليات احتفظ بها المجتمع الأميركي لنفسه، وثمن هذه الرؤية هو المزيد من الأعباء الضريبية، الجلي منها والخفي، والمزيد من التدخل الحكومي بالقرارت الفردية، في الصحة والتعليم والضمان الاجتماعي والحريات الشخصية. وإذا كانت الرؤية التقدمية تطرح نفسها على أنها اعتراض لجشع السوق وسعي لعدالة اجتماعية اقتصادية، فإن النقد المحافظ لها يرى فيها التفافا على الحرية الفردية وتكريسا لفكرة وصاية الدولة على المجتمع، بدلاً من تفويض المجتمع للدولة بمهام محددة. ثم أن الإنفاق التنشيطي الذي تقدم عليه الحكومة الأميركية، كما الخطوات الإنقاذية المرتقبة، تفيد على الغالب الجهات والمواطنين الذين تورطوا بأوضاع مالية صعبة نتيجة سوء التقدير أو التهور، أما أولئك الذين التزموا الحذر والمسؤولية، فعليهم فحسب المساهمة في إنقاذ الآخرين تجنباً للكارثة المفترضة.
غير أن من الصعب أن يلقى الطرح الجمهوري اليوم الأذن الصاغية لدى المواطن الأميركي الذي يخشى أن يخسر منزله ووظيفته واستثماراته، والذي سحب لتوّه الثقة من الحزب الجمهوري في الانتخابات الأخيرة. فالمسألة ليست التاريخ ولا الرؤية، بقدر ما هي الوعد بالعودة إلى الازدهار، وهو وعد يجسده اليوم، وإلى حين حدوث خيبات أمل لا مفر منها، باراك أوباما، لا الحزب الجمهوري.
الحياة