المحاكم الدولية سيف ذو حدين
سعد محيو
أشرنا بالأمس إلى أن العدالة العالمية الوليدة مهددة في كل حين بأحد خطرين:
الأول، استمرار تدخل الدول الأمم الكبرى الاستنسابي في عمل القضاء الدولي، سواء من ناحية “انتقاء” القضايا التي يجب طرحها على العدالة أو توقيت طرحها.
والثاني، احتمال وقوع المحاكم الدولية في قبضة جناح من الكوزموبوليتيين (العالميين) الذين يفسرون العالمية على أنها إجازة عمل لهم لفرض سيطرة حضارة الغرب على العالم.
بصمات الخطر الأول جلية في محكمتي السودان ولبنان.
ففي السودان، كانت الولايات المتحدة الأكثر تهليلاً لمذكرة القبض على البشير التي أصدرتها محكمة الجنايات، على الرغم من أنها كانت، ولاتزال، ترفض الاعتراف بشرعية هذه المحكمة. ومع هذا، كان المسؤولون الأمريكيون حريصين كل الحرص على القول قبل صدور قرار الاعتقال وبعده إنه إذا ما تجاوب البشير مع المطالب والشروط الدولية، فقد تتحرك واشنطن لإقناع مجلس الأمن بوقف عمل محكمة الجنايات الدولية ضده.
وهذا يعني أن واشنطن مستعدة لتبرئة الرئيس السوداني من التهم الموجهة ضده، إذا ما نفذ شروطها: تسليم كل صنابير النفط لها، ومنع الصين وروسيا وأوروبا وأي دولة أو قارة أخرى من الاقتراب، مجرد اقتراب، من هذه الصنابير.
وفي لبنان، يجب ألا ننسى أن قرار تأسيس محكمة الحريري جاء في عهد الرئيس السابق بوش الذي كان قد أوصد كل الأبواب أمام أي حوار مع سوريا وإيران ما لم تنفذا كل شروطه، الأمر الذي عنى أن بوش كان ينوي أصلاً استخدام المحكمة كورقة ضغط إقليمية رئيسية.
هذا عن الخطر الاول. أما الثاني فيتمثل في وجود تيار عريض داخل فريق الكوزموبوليتيين المناصرين للعدالة العالمية، والذي تشبه مواقفه إلى حد بعيد مواقف المحافظين الجدد الأمريكيين الذين سعوا إلى إعادة رسم خرائط العالم على شاكلة أمريكا وصورتها.
أبرز ممثلي هذا الجناح هو جون رولز الذي نشر مؤخراً كتباً بعنوان “قانون الشعوب”، قال فيها إن العدالة الدولية يجب أن تميز بين أربعة أنواع من الشعوب: الأمم الليبرالية (الغربية أساساً)، والأمم المهذبة ولكن الهَرَمِية، الأمم الخارجة على القانون، والأمم المثقلة بالأعباء. ويرى رولز (كما المحافظون الجدد) أن العدالة ممكنة سلماً لدى النوعين الأولين، وغير ممكنة إلا بالقوة بالنسبة للنوعين الأخيرين (…).
وتنحو جوديث باتلر وسونيرا كوباني المنحى ذاته، لكن على نحو أخطر وأوضح، حيث تقولان إن “حيوات بعض البشر (الغربيين) أجدر بالحماية من الآخرين”، وإنه يجب تقسيم المسلمين إلى مسلمين أخيار (وهم الذين يتبنون كل القيم الغربية) والمسلمين الأشرار (الذين يرفضون كل أو حتى بعض هذه القيم)، ثم اعتبار المسلمين الأخيار وحدهم “إنسانيين تماماً”.
أفكار وحشية تطرح باسم مفهوم العدالة العالمية الإنساني.
بالتأكيد. وهي تتفاقم خطراً حين نضيف إليها الخطر الآخر المتعلق بتدخل الدول الكبرى في مجرى العدالة العالمية.
بيد أن هذا يجب ألا يفقدنا الأمل بهذه الظاهرة الجديدة في العالم، وهذا لسبب بسيط ولكن مهم: العدالة العالمية سيف ذو حدين،حين يستخدم أحد حديه، لا يعود في الوسع تبرير عدم استخدام الحد الثاني.
والآن وليس غداً، وقت استخدام هذا الحد في ضد “إسرائيل” وإدارة بوش.
الخليج