بعد إعلان قيام المحكمة الدولية متى المحاكمات، ومتى الأحكام؟
اميل خوري
انطلقت امس المحكمة ذات الطابع الدولي الخاصة بلبنان بعد اطلاق نار كثيف عليها أخر قيامها اربع سنوات. فمن استقالة الوزراء الشيعة من الحكومة، الى التظاهرات والاعتصامات بهدف اسقاطها، واخيرا الى اقفال ابواب مجلس النواب للحؤول دون اقرار النظام الاساسي للمحكمة، الى حملة سياسية شرسة ضد قيام المحكمة، وذلك من قول البعض انها “طبخة بحص” الى تشبيه بعض آخر اياها بـ”الصرماية”… وكان الرد على كل ذلك بصمود الحكومة والمثابرة على العمل بصبر وأناة من اجل قيام المحكمة وتخطي كل الصعوبات والعراقيل بدعم عربي ودولي عبرت عنه وزيرة الخارجية الاميركية السابقة كوندوليزا رايس في مقال لها في جريدة “النهار”، في ايار 2007 تحت عنوان: “محكمة من اجل لبنان”: حان الوقت لوضع حد لحصانة الاجرام” ومما جاء فيه: “هناك في لبنان وفي اماكن اخرى من يريد ان يحرم الشعب اللبناني حقه في العدالة. ان اعداء الحقيقة قد لجأوا الى الحيل واساليب التهويل للحيلولة دون انشاء هذه المحكمة وقد اقاموا مخيما حول السرايا الحكومية ودعوا الى ازالة الحكومة اللبنانية الشرعية المنبثقة من انتخابات ديموقراطية، وتسبب احتلالهم الوسط التجاري باغلاق سبعين مؤسسة تجارية وفقدان خمسمئة وظيفة لدفع الشباب اللبناني الى الهجرة”، واضاف المقال: “ان انشاء محكمة خاصة لمحاكمة قتلة رئيس الوزراء رفيق الحريري واكثر من 20 آخرين تتولى مساءلة اولئك الذي استخدموا الارهاب في محاولة لتخويف الشعب اللبناني، سوف تحمي اولئك الذين يسعون الى الحرية والديموقراطية، وتؤكد بما لا يقبل الجدل استقلال لبنان وسيادته في وجه اي تدخل من الجيران. وعلى كل حال، ليس الهدف كشف الحقيقة فحسب، وانما ايضا تعزيز الاستقرار والامن في لبنان”. ويختم المقال: “ان اولئك الذين يخشون “تسييس” المحكمة هم انفسهم الذين سيَّسوها من خلال ربط ولادة هذه المحكمة بمطالبتهم بحكومة جديدة، ان المحكمة الخاصة بلبنان ستساعد على انهاء هذه الحقبة الحزينة من حصانة الاجرام في لبنان”.
وتقول اوساط سياسية انه اذا كان عهد الرئيس بوش المنصرم استطاع بصبر وعناد ومدعوما من غالبية الشعب اللبناني تجاوز كل الصعوبات والعقبات والحواجز التي وضعت في طريق انشاء المحكمة الخاصة بلبنان، واعلن امس في لاهاي بدء قيامها، وهو انجاز تاريخي، فهل يواظب عهد الرئيس اوباما على العمل من اجل ان تبدأ المحاكمات ثم الاحكام بدون مساومات وصفقات تعقد على حساب الحقيقة والحق والعدالة، فتبقى المحكمة التي انشئت بدون محاكمات او بدون احكام ولو بعد سنوات.
لقد اكد الرئيس اوباما للرئيس ميشال سليمان في اتصال هاتفي دعمه للمحكمة الدولية المكلفة محاكمة المتهمين باغتيال الرئيس الحريري ودعم الولايات المتحدة الدائم للبنان. ولكن ذلك لن يثني المتضررين من قيام هذه المحكمة عن مواصلة السعي الحثيث والجاد في محاولة منهم لتسييس المحاكمات لقاء عقد صفقات، كما حاولوا ان يفعلوا في عهد الرئيس السابق جورج بوش من اجل عرقلة قيام المحكمة، مستخدمين لبلوغ ذلك كل وسائل الترهيب والترغيب، وكل العروض المغرية والسخية.
لقد سئل رئيس اللجنة الدولية المكلفة التحقيق في جريمة اغتيال الرئيس الحريري المحقق الالماني السابق ديتليف ميليس في حوار اجرته معه صحيفة “الحياة”: “بعد ان تبدأ المحكمة اعمالها، هل تعتقد بانها ستتمكن من التوصل الى العدالة ومن انهاء الافلات من العقاب؟”، فأجاب: “اعتقد أنه في تقرير تشرين الثاني او كانون الاول استخدمنا جملة مثل: يجب على التحقيق ان يوضع على منبر دولي. فحالما ادركت اللجنة الخاصة ان المتورطين في الاغتيال ليسوا حصرا لبنانيين، كان واضحا لها ان لا مناص من قيام الاسرة الدولية بشيء ما حول هذا الامر عندما تصل الامور الى المحكمة، وبالتالي كان لا بد من محكمة دولية لمحاكمة افراد من دول ثالثة، وبالتالي فتأسيس المحكمة كان حتميا بعدما تحققنا من ارجحية تورط افراد من خارج لبنان في الاغتيال. ويمكنني القول ان انشاء المحكمة امر بالغ الاهمية فهي الاصبع المرفوع للاسرة الدولية في وجه من يسعى وراء اهدافه السياسية في لبنان من خلال الاغتيالات، وآمل ان يأتي اليوم الذي يتحول فيه الاصبع المرفوع الى اصبع اتهام في وجه الذين ارتكبوا هذه الجرائم”، واضاف ردا على سؤال آخر: “اعتقد بأن إبرام صفقة حول المحكمة امر مستحيل، وما يمكن ان يحدث هو ان يطول التحقيق وتطول معه المحكمة، وعندئذ يزول اهتمام الناس بالمسألة وينسونها برمتها، فاذا سارت الامور، من دون محاكمة ومن دون مثول الافراد المشتبه فيهم امام المحكمة، سينحسر اهتمام الناس والحكومات، ومثل هذا الامر قد يحدث”…
وسئل هل في امكان حكومة لبنانية جديدة تقويض المحكمة اذا شاءت، فأجاب: “يمكن حكومة ما ان تقول انها لن تقوم بالتمويل، وعندئذ يعتمد الامر على جاهزية دول اخرى للتمويل. انما مع انشاء المحكمة لن تكون ازالتها ممكنة بحكومة لبنانية مختلفة ولا بحكومة اميركية مختلفة، ولا بأمين عام للامم المتحدة مختلف، فالجهة الوحيدة التي يمكنها ازالة المحكمة هي مجلس الامن الدولي”. واضاف ردا على سؤال آخر: “ان الافراد الذين سيواجهون التهم اذا كانوا من دول ثالثة، وكانت هذه الدول مستعدة لاعتقالهم وارسالهم الى لاهاي لمواجهة العدالة كما فعل الليبيون في قضية لوكربي، فالامر يعتمد على مسائل مختلفة عدة، فالمشكلة التي ترافق التحقيق في ارهاب دوافعه سياسية، ففي كثير من هذه القضايا توجد السياسية من جهة والعدالة من جهة اخرى، واحيانا يتصادمان”. وختم بالقول: “ان صورة معرفة الحقيقة وراء الاغتيالات في لبنان جلية تماما في ذهني، لكن هناك حاجة الى ادلة قضائية لتقديم الصورة بكاملها امام المحكمة”.
ويقول الوزير السابق مروان حماده في حديث له في هذا الصدد: “ان العدالة بدأت تطل والحقيقة بدأت تظهر، اولها مؤشرات التقرير الاخير لرئيس لجنة التحقيق الدولية دانيال بلمار الذي اشار بوضوح الى تقدم في التحقيق والى اسماء اصبحت في حوزته، والمؤشر الآخر هو الهلع الذي انتاب واصاب المجرمين المحتملين وردود فعلهم وفعل محيطهم، وقد استهدفت حتى الرئيس الجديد لفريق المحققين نك كلداس، وهذه تذكر بالحملة على ميليس وقبله على فيتزجيرالد واخيرا على بلمار نفسه.
والسؤال الذي يبقى مطروحا بعد الاعلان عن قيام المحكمة ذات الطابع الدولي في لاهاي هو: هل تستمر محاولات تمييع ما تبقى لجلاء الصورة الاخيرة للتحقيق في الوقت الذي يتم فيه التوجه الى المحكمة، وتأخير المحاكمات التي توقع المدعي العام دانيال بلمار ان تستغرق ما بين ثلاث او خمس سنوات، وبعد ان استغرق التصول الى قيام المحكمة اربع سنوات… واذا جرت المحاكمات، فكم يتطلب صدور الاحكام من وقت، ولا يكون خلال ذلك قد حصلت تطورات امنية او سياسية، تغير المعطيات والنظرة الى الامور، خصوصا ان الامين العام للامم المتحدة بان كي مون يتوقع ان تبدأ محاكمة المتورطين والمشتبه بهم في جريمة اغتيال الرئيس الحريري ورفاقه مع بداية العام 2010. وان كان القاضي دانيال بلمار سيباشر عمله كمدع عام اعتبارا من يوم امس الاحد وسيتم بعد ذلك اختيار رئيس المحكمة ورئيس مكتب الدفاع وقضاة المحكمة لممارسة المهام في اصدار قرارات الاستجواب والتحقيق وكل اجراءات تهيئة بدء جلسات المحكمة، وبعد مشاورات يجريها الامين العام مع رئيس المحكمة.
واذا كان الصراع على المحكمة قد انتهى باعلان قيامها رسميا، فهل يبدأ الصراع حول المحاكمات في محاولات لجعل المحكمة بلا محاكمات، ومن ثم جعل الاحكام بدون تنفيذ سواء كانت وجاهية او غيابية، باعتبار انه في كثير من القضايا كهذه توجد المصالح السياسية من جهة وقوانين الحق والعدالة من جهة اخرى واحيانا يتصادمان كما قال بلمار ولا احد يعرف لمن تكون الغلبة، أللعدالة مهما كانت العواقب السياسية، ام للسياسة مهما اصابت العدالة…؟
النهار