بكل جرأة .. إحذروا التسييس المضاد
سركيس نعوم
ليس سراً ان الاشتباه بالمسؤولية عن اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري في 14 شباط 2005 اتجه نحو سوريا بشار الاسد، لاعتبارات كثيرة بعضها منطقي يستند الى ادلة او ما يشبه الادلة، وبعضها الآخر عاطفي وسياسي. وقد عبّر عن هذا الموقف الفريق السياسي الذي صار اسمه بعد شهر من الاغتيال “فريق 14 آذار” والذي وضع نصب عينيه اهدافاً عدة اولها معرفة الحقيقة واحقاق العدالة من خلال لجنة دولية تحقق في الاغتيال المذكور اعلاه، ومحكمة دولية تتولى محاكمة المشتبه في انهم قرروه وخططوا له ونفذوه.
وليس سراً ايضاً ان حلفاء سوريا (وايران) من اللبنانيين الذين نظموا انفسهم في ما سمي “فريق 8 آذار” اعتبروا الموقف المفصّل اعلاه تسييساً غير مبرر لعملية الاغتيال ومحاولة لتصفية الحسابات والخلافات في الداخل، ولدفع الاوضاع اللبنانية في اتجاه تحقيق مصالح فريق واحد وتجاهل مصالح الفريق الآخر. كما اعتبروه محاولة لتصفية الحساب مع سوريا من فريق لبناني اساسي، وكذلك من فريق اقليمي ودولي لم ينظر بارتياح الى المواقف السورية المعلنة، سواء من غزو اميركا للعراق، او دعمها لـ”حزب الله” في لبنان وحركة “حماس” في فلسطين، او تحالفها الاستراتيجي مع ايران الاسلامية.
ومن يعود الى “الارشيف”، اي المحفوظات في وسائل الاعلام كلها منذ 2005 الى ما قبل مرحلة قصيرة جداً، يلاحظ ان التحذير الاساسي لحلفاء سوريا ولسوريا نفسها كان من تسييس اغتيال الرئيس الحريري. ويلاحظ امراً آخر هو مبادرة هؤلاء، بالتعاون والتكافل في ما بينهم، الى العمل الجاد بغية تحقيق هدفين بالغي الاهمية لهم. الاول، تغيير ميزان القوى في لبنان والذي كان “طابشاً” لمصلحة اخصامهم، اي فريق 14 آذار وحلفائه الخارجيين من عرب ومجتمع دولي. والثاني، تغيير موقف الخارج بشقيه العربي والدولي من سوريا بحيث يزول التشنج والتوتر والقطيعة احياناً من علاقاتهما ويسود الصفاء هذه العلاقات وتتكوّن ظروف ملائمة لبحث جدي في ايجاد تسويات للقضايا المختلف عليها، وتالياً لتطبيع العلاقات بين الفريقين.
ويبدو، استنادا الى المتابعة اليومية والدقيقة للتطورات في لبنان والمنطقة والعالم، ان الهدف الاول، اي المحلي اللبناني، أوشك ان يتحقق، وإن انجاز تحقيقه ينتظر الانتخابات النيابية المقررة في 7 حزيران المقبل. ويبدو ايضاً ان كثيراً من العقبات امام تحقيق الهدف الخارجي بشقيه العربي والدولي قد ازيح من الطريق، وان احتمالات التطبيع السوري – العربي الدولي لم تعد ضعيفة كما في السابق.
لماذا هذا الكلام الآن واللبنانيون او بالاحرى قسم مهم منهم او ربما نصفهم لا يزالون يعيشون فرحة انطلاق المحكمة الخاصة بلبنان التي يسمونها “المحكمة الدولية”؟
انه للاشارة الى ان الخوف من التسييس الذي كان مسيطراً على سوريا وحلفائها اللبنانيين ولم يتخلصوا منه في صورة نهائية بعد قد اصيب به ايضاً اخصامهم ولا سيما منهم اللبنانيون أي فريق 14 آذار او قسم منه على الاقل، رغم كل التصريحات الاخيرة. وقد عبّرت عن ذلك “بكل جرأة” وشجاعة الشهيدة الحية مي شدياق اثناء الاحتفال الحاشد بــ”المحكمة” الذي اقامه “14 آذار” في وسط بيروت يوم الاحد الماضي اذ قالت: “ليس هم من يخافون تسييس المحكمة، بل نحن من يجب ان نخاف…”. الا ان ذلك لم يمنعها من الدعوة الى رفض التهويل وعدم الخضوع له.
هل “التسييس المعكوس”، اذا جاز التعبير على هذا النحو، ممكن؟
قال رئيس لجنة التحقيق الدولية دانيال بلمار في الاحتفال بانطلاق المحكمة ان “قرار انشائها كان سياسيا (في مجلس الامن)، ولكن من ضمن عملية قانونية”. ودعا الى “ان يسمو اداؤها فوق السياسة ويظل محكوما بنهج حيادي يستند الى القانون”.
ويعني ذلك انه ومحققيه الذين سيستمرون في عملهم، رغم انطلاق المحكمة بكل قضاتها واقسامها سيتقيدون بالقانون فقط ولن يخضعوا للتسييس.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ماذا يحصل في حال امتنع لبنان اذا تغيرت “السلطة” فيه و”السياسة” وامتنعت دول اخرى وربما منظمات عن تنفيذ طلبات المحكمة مثل حق استجواب شهود وتسليم مشتبه فيهم الى آخر ما هنالك من امور؟
والجواب هو احالة ذلك على مجلس الامن ربما لان المحكمة انشئت تحت الفصل السادس وليس السابع من شرعة الامم المتحدة. واللبنانيون يعرفون الفارق بين الاثنين. وفي هذا المجلس لا تسير الامور وفقاً للقانون، بل وفقاً للسياسة والمصالح في معظم الاحيان.
فماذا يحصل اذا قضت المصالح والصراعات او التنافس بين الدول الكبرى على النفوذ في العالم، الى تعطيل اي قرار يسهّل امور المحكمة بواسطة استعمال حق النقض (الفيتو)؟
وماذا يحصل ايضاً اذا تغيّرت المرحلة السياسية الدولية والاقليمية مئة في المئة عنها عام 2004 وعام 2005 ثم عام 2007 تاريخ انشاء المحكمة؟ ومعروف ان عداء، او بالاحرى خصاماً سافراً وتوتراً شديداً سادا علاقة سوريا بجهات دولية اساسية، وان الصراع على النفوذ بين الدول الكبرى (وخصوصاً اميركا وروسيا) لم يكن حاداً كما كان في نهاية عهد جورج بوش الابن بل كما هو الآن في انتظار مبادرة ما من خلفه اوباما تُحسِّن العلاقات؟
ومعروف ايضاً ان جواً من الانفراج بدأ يسيطر على المنطقة والعالم (قرار اميركا اوباما الحوار مع سوريا وايران. مفاوضات سوريا – اسرائيل. تحديد موعد لانسحاب اميركا من العراق. بدء مصالحات عربية – عربية وتحديداً سعودية – سورية وربما لاحقاً سورية – مصرية…). ولا شيء يمنع ان يؤثّر ذلك على “المحكمة الخاصة” اي الدولية بحسب التعبير اللبناني.
ومعروف اخيراً ان هناك أنظمة عربية تقليدية يحرص اطرافها على رفض التضحية باي من قادتها تلافياً لعدوى قد تصيبهم كلهم. وما يحصل حالياً من تضامن مع رئيس السودان الذي يُجمع العالم على مسؤوليته عن “مأساة” دارفور وتصر محكمة الجنايات الدولية على اصدار مذكرة بتوقيفه فيما يحاول العرب كل العرب انقاذه من هذه الورطة، خير دليل على ذلك.
هل هذه دعوة الى اليأس؟
قطعاً لا. فالدول العربية التي ناصرت لبنان وقضاياه العادلة، ومنها المحكمة، لم تتحول “جزءا” من المحور السوري – الايراني ولن تتحول وقد تستمر في العمل لفرطه او للتخفيف من اثره “السلبي”. والدول الكبرى وفي مقدمها اميركا، تؤكد على لسان رئيسها الجديد ومعاونيه تمسكها بسياسة سلفه بوش حيال لبنان.
لكنها دعوة الى التحوط واستمرار الحذر لان الماضي (1969 – 2005) أثبت ان المصالح الدولية والعربية كانت دائمة وليس السياسات تجاه المنطقة وتحديدا تجاه لبنان هذا الوطن الصغير. وقد آذاه ذلك كثيراً. ولأن التاريخ نفسه يثبت مرة جديدة ان لا خروج للبنان من انفاقه المتشعبة الكثيرة الا بوحدة شعوبه التي ستبقى كلها معرضة للاستهداف والاستعمال من الداخل والخارج اذا بقيت منقسمة.
النهار