المحكمة.. وكبار الممثلين
حنا عبود
دعاني سعد الله ونوس، يوم كان في قمة إنتاجه، إلى حضور التدريب الأخير (بروفه جنرال) لمسرحية «حنظلة»، وهي آخر دعوة حضرتها معه. وكان المخرج فواز الساجر يتحرك في القاعة أثناء الأداء، وهو يبدي بعض السخط في مشهد من المشاهد، أو في حركة من حركات الممثل أو الممثلة… أو حتى في ابتسامة يبديها الممثل قبل حلول أوانها بثوانٍ.
حشد فواز الساجر لهذه المسرحية كبار الممثلين المتدربين والمشهورين في سورية. وكان حريصاً على الأداء الرشيق، فكان يعد الخطوات التي يجب أن يخطوها الممثل على المسرح من دخوله حتى وصوله إلى المكان المعيّن، لتظهر حركة الممثل طبيعية، فلا يوسّع الخطوة، ولا يضيّقها، فيصل مرتاحاً ويؤدي ما عليه.
ومع أنه التدريب الأخير، ولا يجوز تكرار أي مشهد، في انتظار المناقشة بعد التأدية، فإن الساجر اضطر إلى الطلب من الممثلين تكرار بعض المشاهد والحركات، كما تدخّل سعد الله نفسه وطلب من أحد الممثلين أن يدير وجهه قليلاً حتى يكون كلامه مسموعاً من الجمهور، إذ كان العرض سيقدم على مسرح أبي خليل القباني، من دون استخدام المكبّرات، حتى يكون الصوت طبيعياً.
بعدما أنهى الممثلون ما عليهم جرت مناقشة عامة، وأعيدت بعض المشاهد. ولما سألني، وكنا وحدنا، ليس معنا سوى فواز الساجر، قلت له: أنا لا أفقه في الإخراج والتمثيل، هذه صنعة فواز، ولكني أعتقد أن نصك المسرحي لم يظهر كما تريده أنت، وإلا لما كنت سألتني. قال سعد الله إنه وفواز غربلا الممثلين، ولم يجدا أفضل من هؤلاء الذين يقومون الآن بالعمل. وأضاف إن مشكلة الممثل الكبير أنه يمثّل على كيفه، بحيث يضع مصلحته فوق النص. أنا أرى أن لكل نص ممثليه الملتزمين، وليس الكبار. الممثل الكبير يلتهم النص، ويعمل لحسابه، ولكن ما العمل؟
عادتني هذه الذكرى لدى إعلان المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في هولندا في الأول من شهر آذار (مارس) من هذا العام، العام 2009. تذكرت الممثلين وكيف كانوا يؤدون أدوارهم بما يجلب لهم المنفعة وليس للنص. وسألت أهل القانون وكثيراً من المختصين، كما وقفت على رأي أحد المحامين الأميركيين من أصل عربي، كان في زيارة للقطر، واطلعت على حيثيات المحاكم الدولية التي أنشئت منذ «عصبة الأمم» المرحومة، وحتى محاكم «الأمم المتحدة» القائمة اليوم، فلم أجد لهذه المحكمة سنداً يجيز للممثلين أن يؤدوا هذه الأدوار. فقد اعترف المحقق (الذي تسلم الآن مهمة الادعاء العام) بأنه لا يملك حتى الآن قرار اتهام، وبأنه سيتابع التحقيق، وسوف يقدم كل اتهام يتأكد من صدقه وواقعيته، كلما توافر لديه دليل ثابت. ومعنى ذلك أنه سيكون مثل الحاضنة: كلما فقس لديه فرخ دفعه إلى المسرح، فنكون أمام مسلسل من الاتهامات قد نمضي عشرات السنوات ولا نصل إلى شيء، مثل المحكمة الدولية التي أنشئت لراوندا، بل مثل كل المحاكم الدولية المتعددة التي لم تصل إلى شيء، باستثناء بعض المحاكم التي رسمت نتائجها قبل تأليفها، كالمحكمة التي أنشئت ضد الصرب، والتي اعترف وزير خارجية فرنسا بأنهم كانوا يعدلون صور مجازر الحرب العالمية الثانية ويلصقونها بالصرب… ومثل المحكمة الدولية التي تشكلت على أثر حادث إرهاب في ألمانيا وتسلمها المدعي «ميليس» وقدم الأدلة «القاطعة» ضد المتهم المقترف، فحوكم بناء على هذه الأدلة الجنائية الدامغة، وقضى في السجن أحد عشر عاماً بالتمام والكمال، فتبين فيما بعد أنه لا علاقة له بالحادث من أصله، فقبضوا على الجاني الحقيقي، وأطلقوا سراح الموقوف، بعد أن اشتروا صمته بعشرة ملايين يورو.
منذ الأول من مارس (آذار) راح بعض رجال القانون الدولي من العرب يدرسون المحاكم التي شكلتها الأمم المتحدة من كمبوديا، في أقصى آسيا، وحتى قلب إفريقيا، وحدثونا عن التمثيل الظاهر، والنتائج المخيبة (وبعضها لا يزال مستمراً حتى اليوم من غير الوصول إلى نتيجة) التي لم يستفد منها إلا من أصر على تأليف المحكمة، لاستغلالها في الميدان السياسي، والمساومة عليها، فإذا تمت المساومة تميعت المحكمة واستمرت دون الوصول إلى نتائج، وإذا لم تتم، لوحق المتهمون سياسيا،ً وليس جنائياً حتى تتم المساومة، وإلا كيف تستمر محكمة مدة ثلاثين عاماً تقريباً من غير أن تهتدي إلى الجاني؟
والمحاكم الدولية انتقائية، يفرضها الممثلون الكبار، ففي باكستان اغتيلت رئيسة وزراء، فلم تشكل محكمة ولا لجنة، بل لم يصدر تصريح واحد من الممثلين الكبار يسأل عن الجاني وسبب الاغتيال. وفي أفريقيا يجري اغتيال الرؤساء والوزراء بالجملة، مثل تساقط «حب الآس» في فصل الخريف، من غير أن يبدي الممثلون أي اهتمام. ففي الأول من مارس (آذار) اغتيل رئيس جمهورية أفريقي، فلم يذكره أحد، بل لم تذكر اسمه معظم صحف الممثلين الكبار.
وهناك حرب أهلية في دارفور مضى عليها عشرات السنين، لم يفطن إليها أحد ليطالب بمعاقبة من يقترف الإبادة الجماعية، ولكن عندما تكشفت دارفور عن ثروات هائلة، وعندما استعانت الحكومة السودانية بالصين لاستثمارها، علت الصيحات بأن هناك مجزرة جماعية. كما تحركت المنظمات الإنسانية ومنظمات حقوق الإنسان (!) التي راحت تشرح المسألة بدءاً من 2003 فقط.
وعلى مرأى ومشهد من العالم، تبيد إسرائيل الأبنية والسكان والأطفال في غزة، فيصفق لها الممثلون الكبار ويؤيدون عملها، في السر والعلن.
القائلون إن محكمة الأول من مارس (آذار) عبارة عن أداة من أدوات ولادة الشرق الأوسط الجديد، يقدمون المؤتمر الصحافي الذي عقده رئيس المحكمة مع أعضاء آخرين، دليلاً على ذلك، ما جعل الآذان تصغي لحجتهم.
لم يبق سوى أن نترحم عليهما، أقصد سعد الله ونوس وفواز الساجر، فقد لمسا على أرض الواقع كيف يلتهم الممثلون الكبار النص المسرحي على المسرح الصغير، ولو بقيا على قيد الحياة وشاهدا ما يجري اليوم على «المسرح الكبير» لكانوا أشد استياء وأكثر غيظاً، وربما قدما مسرحية كوميدية ساخرة، حول ما يجري.
كاتب من سورية