عن إسرائيل وانتخاباتها: الديموقراطية كذريعة للتملّص من التسوية!
ماجد كيالي
على عكس الترويجات السياسية المطلقة والوصفات الإيدلوجية الجاهزة، تبدو الديموقراطية في إسرائيل عائقاً أمام عملية السلام، ووسيلة لتملّصها من استحقاقات اتفاقات التسوية التي عقدتها مع الفلسطينيين، منذ 15 عاماً!
هكذا تمخّضت الانتخابات الإسرائيلية، التي جرت اخيراً عن نتيجتين: أولاهما، تتمثل بصعود مكانة اليمين، في مقابل تراجع تيارات اليسار والوسط في المجتمع الإسرائيلي. وثانيتهما تتمثل بعدم استقرار السياسة الإسرائيلية للمرحلة المقبلة، فأي كان رئيس الحكومة (من كاديما أو الليكود)، ومهما كانت صيغتها (ضيقة أو موسعة أو حكومة وحدة وطنية)، فإنها لن تستطيع الاستمرار بالحكم، وستفضي، آجلاً أم عاجلاً الى التوجه نحو صناديق الاقتراع، لإجراء انتخابات مبكرة جديدة.
هكذا تمضي إسرائيل في طريقها، بفضل “ديموقراطيتها”، غير آبهة بالفلسطينيين ولا بمصيرهم، ما دامت تقيم الأسوار لعزلهم، وما دامت راضية عن استقرار وضعها، وقوتها، وتفوّقها، وعن ضمان الدول الكبرى لأمنها واستقرارها.
أما كيف لعبت ديموقراطية إسرائيل على الضد من عملية التسوية، فيمكن تبين ذلك في المجالات الآتية:
1 ـ إن طبيعة الديموقراطية السياسية في إسرائيل، خصوصاً تبني مبدأ الانتخابات النسبية، تتيح لكل المجموعات والتيارات التعبير عن ذاتها، والوصول الى مقاعد الكنيست. وقد أتاح هذا النظام للأحزاب الصغيرة، وضمنها الأحزاب المتطرفة، ابتزاز الأحزاب الكبيرة وفرض أجندتها عليها. ومنذ توقيع اتفاق أوسلو باتت أحزاب من مثل: إسرائيل بيتنا (لليهود الروس من القادمين الجدد)، وشاس (لليهود المتدينين الشرقيين) ويهوديت هاتوراه (لليهود المتدينين الغربيين) والاتحاد الوطني، تبتز الأحزاب الكبيرة (كاديما والليكود والعمل)، خصوصاً أن أياً من هذه الأحزاب لا يستطيع بمفرده، أو حتى بمعونة حزب آخر، تشكيل الحكومة. طبعاً هذا لا يعني أن الأحزاب الكبيرة كانت جاهزة، أو ناضجة للتسوية، من الأصل، وإنما هذا يوضّح كيف لعبت الديموقراطية لصالح تملّصات إسرائيل، وسهلت عليها أمام العالم التهرّب من عملية التسوية، وإلقاء المسؤولية زوراً وبهتاناً على الفلسطينيين!
2 ـ اعتماد السياسة الإسرائيلية في القضايا المصيرية على الإجماع. والمعنى من ذلك أن قضية مصيرية، كقضية التسوية مع الفلسطينيين، بأبعادها التاريخية والرمزية، لا يمكن حسمها في إسرائيل على أساس من المعادلة الديموقراطية التي تتعلق بموازين القوى في الكنيستـ أو عبر خضوع الأقلية للأكثرية، فهذه القضية تحتاج الى نوع من التوافق يضم معظم التيارات السياسية. وكما هو معروف لم يكن بالمستطاع تحقيق مثل هذا التوافق، طوال المرحلة الماضية، وهذا الأمر ينطبق حتى على الليكود. فهذا الحزب، رغم معارضته للتسوية واعتباره الضفة والقطاع جزءاً من أرض إسرائيل الكاملة (“أرض الميعاد”)، إلا أنه لم يستطع ترجمة ذلك بضم هذه الأراضي لإسرائيل، رغم وجوده طويلاً في الحكم (1977 ـ 1992)، وتشكيله مرات عدة حكومة يمينية صرفة. أيضاً، فإن حزب العمل، عندما كان في الحكم، ما كان بمستطاعه الذهاب بعيداً في أطروحته بشأن الانسحاب من المناطق كثيفة السكان في الأراضي الفلسطينية المحتلة؛ خصوصاً من الضفة الغربية. وبين هذه وذاك تم تجميد حدود الانسحاب (أو إعادات الانتشار) عند المناطق المتوافق عليها، وهذا ينطبق على الانسحاب الأحادي من قطاع غزة (2005).
3 ـ ثمة تغيرات كبيرة دخلت على تركيبة المجتمع الإسرائيلي، في التسعينات، بنتيجة وفود ما يقارب مليون مهاجر من دول الاتحاد السوفياتي السابق. وكما هو معلوم فإن الدولة الإسرائيلية التي قامت على الهجرة والاستيطان وصهر القادمين في المجتمع الإسرائيلي، مباشرة، تمنح القادمين الجدد الجنسية، وحقوق المواطنة، بما في ذلك حق الانتخاب والترشيح. وبالنتيجة فقد ساهمت هذه الهجرة برجحان كفة اليمين في النظام السياسي، خصوصاً أن هؤلاء المهاجرين جاؤوا مشبعين بالروح الصهيونية الاستعمارية، وبروح الغطرسة ونبذ الآخر. وقد تضافر ذلك مع تحولات اقتصادية واجتماعية وثقافية، شهدتها إسرائيل، كما شهدها العالم، وتمثّلت بالتحوّل نحو الخصخصة، وتضاؤل دور الدولة، وصعود الفردانية. وهذا يفسر تراجع حزب العمل، حيث انحسرت مؤسسات هذا الحزب، التي كان ارتكز عليها في بنائه الدولة، وفي تعزيز شعبيته، من مثل الكيبوتزات، والهستدروت، والقطاع العام؛ وحتى مؤسسة الجيش لم تعد قبلة جاذبة للشباب.
4 ـ عدم تمكن أي حكومة منذ توقيع أوسلو من استكمال فترتها الدستورية، إذ شهدت إسرائيل، خلال الفترة الماضية، حالاً من عدم الاستقرار السياسي. وهكذا فإن مختلف الحكومات، سواء في ظل حزب كاديما أو الليكود أو العمل، ومن حكومة بيريز الى نتنياهو الى باراك الى شارون الى أولمرت، ذهبت الى الانتخابات المبكرة في المفاصل الحاسمة، بدعوى دعم قدرتها في ظروفها على تمرير استحقاقات التسوية وتنفيذ الاتفاقات مع الفلسطينيين؛ وتهرباً من الضغوطات الدولية والإقليمية.
وهذا ما سيتكرر، على الأرجح، مع الحكومة التي تمخّضت عنها الانتخابات الحالية، سواء ترأستها تسيبي ليفني، زعيمة حزب كاديما، أو بنيامين نتنياهو زعيم حزب الليكود، أو تم فيها التوافق على تبادل ترؤس الحكومة (حكومة برأسين).
هكذا، فثمة أسباب إسرائيلية متعددة، سياسية وأيديولوجية، محلية ودولية، أدت الى انهيار عملية التسوية مع الفلسطينيين، برغم الالتباسات والتناقضات والإجحافات، التي تعتوره.
ولكن ما يمكن التأكيد عليه هنا هو أن آليات وديناميات صنع القرار، وطبيعة النظام السياسي في إسرائيل، بما في ذلك انتخاباتها وديموقراطيتها، ساعدت كثيراً على الإطاحة بهذه التسوية، وسهلت على إسرائيل التملّص منها، وهو الأمر الذي لم توله القيادة الفلسطينية عنايتها، كما لم تلحظه كثير من التحليلات التي فسّرت انهيار هذه التجربة.
على أي حال فإن الفوضى الفلسطينية ساهمت هي الأخرى بدورها، بتسهيل التحوّلات نحو التطرّف واليمين في المجتمع الإسرائيلي، إن عبر الخطابات الديماغوجية، أو عبر العمليات التفجيرية والصاروخية. ولكن حتى لا نحمّل الوضع الفلسطيني فوق طاقته، فمما لا شك فيه أن تغير المعطيات الدولية والإقليمية، لصالح إسرائيل، خصوصاً بدفع من التداعيات الناجمة عن الحرب الدولية ضد الإرهاب، سهّلت هذه التحوّلات ودفعت إسرائيل نحو التملّص من عملية التسوية برمتها.
هكذا تستثمر إسرائيل ديموقراطيتها لتعزيز الإجماعات داخلها، في حين ما زلنا نبحث عن معنى وجدوى الديموقراطية عندنا! وما دام الوضع هكذا، فبإمكان العرب والفلسطينيين، في حال أصروا على البقاء في حالهم الراهنة من التشتّت والعجز، انتظار انتخابات إسرائيلية الواحدة تلو الأخرى.
المستقبل