هل تصطدم الطموحات الإيرانية بالطموحات التركية في الشرق الأوسط؟
خالد غزال
يشهد الحراك التركي نشاطاً متميّزاً منذ أشهر عدة في الشرق الأوسط، وتحديداً في مديات الصراع العربي-الإسرائيلي. من خلال علاقتها الجيدة مع اسرائيل، لعبت تركيا دوراً مركزياً في المفاوضات غير المباشرة بين سورية والدولة العبرية، وهو دور لايزال مستمراً، ووقفت إلى جانب حركة حماس، خصوصاً، والقضية الفلسطينة عموما،ً خلال العدوان الاسرائيلي على غزة، وصولاً إلى الموقف الذي اتخذه رئيس وزرائها رجب طيّب أردوغان في مؤتمر دافوس، حيث تجادل مع الرئيس الاسرائيلي شمعون بيريز، وما أعقبه من تصريحات تركية غير مألوفة ضد السياسة الإسرائيلية.. إذا كان البعض يرى في هذا الدور نوعا من الحنين إلى المجد الإمبراطوري العثماني، الذي هيمن على المنطقة لقرون، إلاّ أنّ مصالح داخلية وخارجية تملي على تركيا مثل هذا الحراك.
لا ينفصل الدور التركي الشرق أوسطي عن التناقضات التركية الداخلية، فمنذ مجيء حزب العدالة والتنمية الإسلامي إلى الحكم، يسود تناقض، معلن أحيانا وخفي أحيانا أخرى، مع الجيش الذي يرى في نفسه ضمانة استمرار النظام العلماني، والتصدي لمحاولات السلطة الجديدة، ذات الطابع الإسلامي، تمرير قوانين تتجاوز فيها هذه العلمانية، ولذلك يسود توجس دائم بين الحكومة والجيش. في هذا السياق يبدو توجّه حزب العدالة والتنمية إلى الفعل في قضايا الشرق الأوسط واحتضان القضية الفلسطينية نوعاً من الاستقواء بعالم عربي وإسلامي لزيادة نفوذ الحزب خارجياً بعد تثبيت أقدامه شعبياً في الداخل. تدل التظاهرات التي انطلقت في تركيا خلال اجتياح غزة وبعدها لدى عودة أردوغان من «دافوس»، والتي كانت الأضخم في التاريخ التركي، على مدى إفادة الحزب من هذا الزخم في توازن القوى بينه وبين الجيش.
تقوم وظيفة ثانية لهذا الدور في التوازي مع العلاقة بالغرب. إذ تخوض تركيا منذ سنوات معركة انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، من دون أن تنجح في ذلك. إنّ التوجه نحو دور فاعل في أزمة الشرق الاوسط واستقطاب مجموعات عربية، ترى فيه تركيا نوعاً من الضغوط على الأوروبيين، ووسيلة لتقوية النفوذ سعيا إلى تليين الموقف الاوروبي.. ولا يعني هذا التوجه تحوّلا تركياً تتخلى بموجبه عن العلاقة مع الغرب، بل العكس هو الصحيح، فالدور التركي يصب في الهدف المركزي لهذه العلاقة وهو الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
لا ينفصل الحراك التركي عن صراع النفوذ الإقليمي الدائر في المنطقة، والذي تلعب فيه إيران دوراً مركزياً، تراه تركيا على حساب مصالحها من جوانب متعددة.. إذ تتخوّف تركيا من الدور الإيراني ذي الطابع المذهبي المحدد، ومن تدخل إيراني في المكونات الطائفية لتركيا، حيث توجد مجموعات كبيرة من الأتراك الذين يرون في إيران امتداداً طائفياً لهم.
من ناحية اخرى، ترى تركيا أنّ ايران منافس مركزي لها في سعيها للعب دور اقليمي، تسعى فيه ايران لاحتلال الموقع الاول، سياسيا واقتصاديا، استناداً إلى قوى تعتمد عليها في الداخل العربي، سواء عبر حزب الله في لبنان أو حركة حماس في فلسطين، أو بشكل أكبر الدور المستجد لإيران والفاعل بقوة في العراق بعد الاحتلال الأميركي، وتغيّر موازين العلاقات بين القوى السياسية والطائفية لمصلحة إيران، هذا من دون أن ننسى التمدد الإيراني في التدخل في أفغانستان وباكستان.
هذه الطموحات الإيرانية تصطدم اقليمياً بالطموحات التركية التي تسعى لأن يكون لها نفوذ في المواقع إياها المشار اليها. من هنا تأتي المحاولة التركية للالتفاف على القضايا الساخنة عبر احتضان واسع لحركة حماس ولسورية، سعياً إلى تقليص الدور الإيراني في هذين الموقعين لمصلحة دور أقرب إلى تركيا.
تدرك تركيا في هذا المجال أنّ المجموعات العربية ذات النفوذ هي أقرب إلى تركيا منها إلى ايران، بل إنّ هذه الدول العربية تتوجس كثيراً من التمدد الإيراني وسعيه الى إلحاق القضية الفلسطينة بموقعه واستخدامها في توطيد دوره الإقليمي، والهيمنة على الكثير من مصادر القرار في المنطقة، وتحسين شروط تفاوضه مع الولايات المتحدة الأميركية حول الملف النووي الإيراني.
تحتل المصالح الاقتصادية التركية دوراً مهماً في هذا الحراك التركي في الشرق الأوسط.. فقد تحوّلت تركيا في العقود السابقة إلى قوة اقتصادية ضخمة، وباتت الصناعة فيها في مستوى متقدم، فرضه اضطرار تركيا إلى تحسينات في صناعتها بما يتلاءم والمقاييس الأوروبية كشرط للانتساب إلى الاتحاد.. وترى تركيا أنّ العالم العربي يمكن أن يشكل سوقاً مهمة لتصدير المنتوجات التركية، وخصوصا الصناعية منها، بالنظر إلى حاجات هذه السوق في سياق عملية البناء والتطوير الداخلي عربيا.. كما ترى تركيا في المنطقة العربية ميداناً لاستثمارات للرأسمال التركي. كما ترغب تركيا أيضاً في تحويل رؤوس الأموال العربية الضخمة لبعض دول البترول ولأصحاب الرساميل في التوجه نحو الداخل التركي، وتوظيف هذه الأموال في مشاريع تصب في زيادة وتيرة الفعالية الاقتصادية التركية..
فهل تعني هذه التوجهات تغيّراً نوعياً في الثوابت التركية المتصلة بالسياسة الخارجية؟
منذ الخمسينيات، هناك ثابتان في السياسة التركية، استمرا متلازمين ومتواصلين، الأول العلاقة الإستراتيجية بالولايات المتحدة الأميركية، والثاني العلاقة الخاصة والمتميزة مع إسرائيل.. وعلى الرغم من كل الضجيج التركي الأخير حول الموقف من اسرائيل، إلاّ أنه لم يصدر أي موقف تركي يوحي بإمكان تقليص علاقة تركيا باسرائيل، أو بالتلويح بإعادة النظر في العلاقات بين البلدين، أو حتى باستدعاء السفير التركي من إسرائيل تعبيراً عن احتجاج ما.. على العكس، أتت تصريحات من الجيش تؤكد على ثوابت العلاقة مع إسرائيل بصرف النظر عن مجريات الأحداث. أما الموقف من الولايات المتحدة، خصوصا والغرب عموما، فلم تظهر أي إشارة تركية تصبّ في منحى تغيير في وجهة العلاقة، بل إنّ التصريحات التركية ظلت تؤشر إلى أولوية العلاقة بالغرب في وصفها الخيار الإسترتيجي المستمر.
أين يقف العرب من صراع النفوذ الدائر على ارضهم، خصوصا منه الصراع التركي-الإيراني؟ لا يوحي المشهد العربي حتى الآن بما يسمح بالقول إن هناك وعياً بالمخاطر التي تتهدد المنطقة من هذا الاصطراع.. إذ تبدو الدول العربية في حال من الضعف والتشتت أمام ثلاث قوى صاعدة في المنطقة، اسرائيل وتركيا وايران، تتنافس كل منها على الحصة الأكبر، وتتلاقى في السعي إلى الهيمنة على المنطقة، وتهدد الأمن القومي العربي من خلال اقتسامها لمناطق النفوذ.. إذ يطرح الدور التركي، ومعه النفوذ الإيراني والسيطرة الصهيونية، تحدّيات كبرى أهمها أن يتوقف العرب متبصرين في المصير السيىء الذي ينتظر دولهم وشعوبهم، إذا ما استمر تفككهم على النحو الدرامي غير المسبوق.
كاتب من لبنان