السعودية: دروس مقبرة البقيع
د. مضاوي الرشيد
أعلن الملك عبدالله مؤخرا عن سلسلة تغيرات ادارية طالت قطاعات عسكرية وقضائية ودينية وتعليمية. وروجت الصحافة العالمية والسعودية المحلية لهذه التغييرات بعد ان اسمتها اصلاحات جذرية ستغير مسيرة الدولة.
ولكن من يعي ويفهم معنى الاصلاح لن ينخدع بعملية تغيير رؤوس بعض المؤسسات المشبوهة في النظام السعودي التي رزحت تحت ايديولوجية الدولة المهترئة والتي هي في طريقها الى الانقراض. لقد وصلت هذه المؤسسات الحكومية الى الحضيض في رسالتها وممارساتها. فلا مؤسسة عسكرية استطاعت ان تضمن حماية الحدود ولا مؤسسة قضائية انصفت المواطن ونصرت قضاياه الملحة وحافظت على حياديتها. ولا مؤسسة دينية أفرزت فكرا واجتهادا يصبحان قدوة للعالم الاسلامي بتعدديته الثقافية والدينية ولا مؤسسة تعليمية انتجت مراكز ابحاث او جامعات ذات مكانة عالية اذ ان جامعات السعودية تقبع في مؤخرة الجامعات العالمية حسب تقارير تربوية تداولتها الصحافة السعودية نفسها. اذن المشكلة ليست في هذا الرأس او ذاك وانما المشكلة تقبع في سياسة منحرفة تتبناها مؤسسات الدولة في تصريف شؤون البشر وتوفير الخدمات من امن الى تعليم مرورا بالقضاء وحماية البشر وممتلكاتهم وامنهم الفكري. والغريب في خلفية التعيينات الجديدة ان جميع من عزل او اعفي من منصبه كان هو قد طلب الاعفاء فأزيح ليستلم من حصل على الثقة الملكية منصبه. يجب ان نلفت النظر الى ان التعيينات الجديدة في القطاع العسكري جاءت كرسالة مبطنة لامارة العسكر وابنائها في لحظة انشغالهم بمرض وزير الدفاع في نيويورك. ويبدو ان الملك قد استبق المراحل وتجاوز على امارة الدفاع فعزل من عزل وعين من عين تمهيدا ربما في المستقبل القريب لتغيير مفاجئ لا يعلم اسراره سوى المقربين من الملك حتى هذه اللحظة. اما تغييرات القضاء والتربية فهي رسائل موجهة للخارج وخاصة تعيين امرأة في منصب نائب وزير التعليم بعد تنصيب صهر الملك (زوج ابنته عادلة) في منصب وزير التعليم. وبهذا عادت هذه الوزارة الى الاسرة الحاكمة تماما كما كانت عليه في فترات سابقة قبل نقلها الى مسؤول من عامة الشعب. وبذلك زاد الملك عدد الوزارات الاميرية ووضع في احداها اميرا مقربا له هو ليس من المجموعة الاخرى التي تنافسه. وبينما تحتفل الصحافة السعودية بعرس الاصلاح الاخير نجدها استبشرت خيرا بتعيينات القضاء الجديدة والتي اتت بابن حميد الذي انتقل من مجلس الشورى الى رئاسة مجلس القضاء وعبد العزيز ابن حمين ليرأس هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر. التعيينات الاخيرة تعرضت الى تجربة مأساوية قد يذهب ضحيتها بعض الزوار الشيعة لمقبرة البقيع حيث حدثت اصطدامات عنيفة بين هؤلاء القادمين لزيارة المقبرة واعضاء هيئة الامر بالمعروف. منذ يوم 20 شباط (فبراير) تعيش المدينة المنورة حالة صدام بين الزوار الشيعة الذين اعترضوا على تصوير نسائهم من قبل الهيئة وقذفهم بالشتائم التي لا يستخدمها الا حثالة القوم. ويبدو ان هذه الشتائم قد استفزت الشيعة مما ادى الى صدامات عنيفة استخدم فيها رجال الامن الرصاص في اطهر بقعة على ارض السعودية. ليس هناك من اي مبرر لاستخدام العنف مهما كانت تجاوزات الشيعة والتي حتى كتابة هذه السطور لم تتضمن العنف بل اقتصرت على ترديد الهتافات والذكر. صمت الاعلام العالمي عن حادثة مقبرة البقيع والتي لم تحسم بعد على خلفية تقديم بعض الاشخاص للقضاء بعد اعتقالهم من قبل السلطات السعودية ولن يسلط الاعلام الغربي الضوء على مثل هذه الحوادث لانه بذلك سيفضح زيفه خاصة وانه لمع التغييرات الادارية ووصفها كاصلاحات تاريخية منتظرة. اما الاعلام السعودي وخاصة ذلك الذي يدعي الليبرالية، اثبت انتقائيته في عرض الاحداث وآثر ادانة الضحية على ادانة سوط الهيئة وهو المتخصص في ادانتها وتتبع زلاتها منذ الاحداث العنيفة التي شهدتها السعودية بعد الحادي عشر من ايلول (سبتمبر) 2001. وبينما يشن هذا الاعلام السعودي هجمات متتالية على الهيئة الا انه في حالة المصادمة مع الشيعة آثر ان يصبح وهابيا اكثر من سيد القصر ومنهم من يطالب على صفحات الجرائد بأقسى العقوبات ضد الشيعة المنحرفين في تصرفاتهم حسب بعض المقالات الصادرة من السعودية. جاءت الاصلاحات والتعديلات اقل مما توقعه ابناء الطائفة الشيعية اذ ان توسيع دائرة المدارس الفقهية في اعضاء هيئة كبار العلماء الى ما بعد الحنابلة لم يؤد الى تمثيل للمذهب الجعفري والذي يبقى غير ممثل فيها. ولكن يبدو ان المصادمة انتقلت من المؤسسات الى المقابر حيث عادة تستعرض آلة القمع السعودية عضلاتها أمام حجاج بيت الله الحرام في مواسم الحج والعمرة والزيارة ورغم شعارات حوارات الاديان مع المسيحية واليهودية الا ان الحوار يقف ويتوقف عند ابواب مقبرة البقيع. نجد ان الممارسة السعودية دخلت منذ فترة مرحلة التشنج خاصة وان الهيئة قد فقدت رئيسها السابق وربما لم تطمئن بعد الى الرأس الجديد الذي نصبه الملك عليها. تنذر الممارسات العنيفة ضد زوار مقبرة البقيع وفي فناء هيئة الامر بالمعروف بصدامات قادمة ومخاض عسير. واستهداف شرائح وطوائف نشترك معها في التوحيد رغم اختلافنا في الممارسات والشعائر انما هو امتداد لسياسة دولة حاولت خلق هوية مشتركة على خلفية العداء لما هو مختلف فلا هي قضت على الاختلاف ولا هي نجحت في ترسيخ هوية مشتركة.
التغييرات الادارية الاخيرة ليست اصلاحا بل هي عملية لتوزيع الدولة الغنيمة على الموالين للنظام السعودي من ابناء المنطقة الوسطى بالذات فهم من خدم النظام في الماضي ورغم ادخال بعض الشخصيات من مناطق اخرى في الحجاز وعسير والمنطقة الشرقية الا ان عصب الدولة يظل مرتبطا بالشريحة القديمة. والتغيرات الاخيرة هي عملية اشبه ما تكون بلعبة شطرنج ادارها الملك ومستشاروه فيدخل هذا ويخرج ذاك بعد ان لعب دوره المطلوب في خدمة الجهاز الاداري الذي قمع المواطنين في السابق إما باسم الأمن ومحاربة الإرهاب أو باسم الحفاظ على العقيدة الصافية وتطهيرها من البدع والضلالة أو باسم إقامة الحدود وتطبيق الشريعة الاسلامية. ويستثنى من ذلك علية القوم. لا تزال الدولة السعودية دولة فئوية يعتمد عصبها على بعض العائلات التي تدين لها بالولاء وهي بمجملها منتقاة من منطقة معينة رغم أنه قد تم تطعيمها ببعض الوجوه من عائلات المناطق الأخرى ولو بشكل محدود. لا تمثل الدولة وجهازها الاداري الشرائح الاجتماعية المتعددة ومن يمسك زمام الادراة والاعلام والمؤسسات الدينية والتربوية والاقتصادية والعسكرية ينتمون بمعظمهم الى شرائح أصلها حضري سكن المدن والواحات والقرى. بعض هذه الاسر ينتمي الى الفروع المتحضرة من قبائل البادية وبعضها لا ينتمي الى قبيلة. مارس هؤلاء في السابق التجارة والفلاحة والدين ومنهم التاجر والداعية والقاضي والفلاح وهم اليوم يسيطرون على مفاصل الدولة السعودية رغم تطعيم الموظفين باشخاص خارجين عن الشريحة الكبرى المناصرة للدولة. أما اليوم فبالاضافة الى التجارة والدين نجدهم يختلفون في انتماءاتهم الفكرية منهم من يدعي الليبرالية ويحتل المناصب الاعلامية السعودية ومنهم الداعية الجهادي الذي لم يجد له منفذا في السابق ومنهم من آثر الالحاد وهاجر الى الخارج ومنهم من تقوقع في الزهد والورع والتقوى ومنهم من يحمي النظام في الجيش والمليشيات الأخرى ومنهم من يكفر كل من خالف النظام ومنهم من يصدر احكاماً جائرة على من ينتقد النظام. وبذلك تكتمل الصورة وتتم عملية الخدمة التي يؤدونها للنظام ويستفيدون منها. فهم يأتون بأشكال مختلفة وايديولوجيات متنوعة. هدفهم تجنيد الآخرين في المناطق الأخرى كأتباع لهم ولأسيادهم في السلطة. ان مخاض الدولة السعودية عسير خاصة بعد عملية الاستئثار بأجهزة الدولة وحصولهم على الغنيمة الكبرى. تاريخياً اعتمد النظام السعودي على شرائح عربية من لبنان وفلسطين وسورية والعراق ومصر لتدبير مشروع ادارة الدولة ومن ثم استبدل هؤلاء لفترة قصيرة بشريحة حجازية. ومن بعد ذلك اطاح بها في فترة الثمانينات ليعيد صياغة الدولة وهيمنة الشريحة على مرافق الاقتصاد والدين والقضاء والتعليم. التعديلات التي اعلن عنها الملك مؤخراً رغم انها اتت بوجوه جديدة في مجلس الشورى مثلاً إلاّ ان هذه المؤسسة لا تزال غير قادرة على تغيير وجه السياسة السعودية وتبقى مهمتها استشارية غير ملزمة للحكومة. ووجود اكثر من عضو شيعي في هذه المؤسسة او بعض الافراد من منطقة عسير او غيرها لن يغير المشروع السعودي الهادف الى الحد من المشاركة السياسية الحقيقية التي لا تحصل بتعيين أعضاء مجلس ليست له سلطة.
الحراك الشيعي في مقبرة البقيع ان دل على شيء فهو يدل على كيفية اجهاض الاصلاحات المزعومة وتعرية خطاب الاصلاح المغلوط. لقد توجهت تغيرات الملك مباشرة الى مقبرة البقيع لتدفن فيها بعد أن فضحت ممارسات الهيئة مزاعم الاصلاح وحوار الاديان والانفتاح الاجتماعي والديني.
هناك عبر كثيرة لحادثة البقيع التي تلت الاصلاحات السعودية المزعومة من اهمها اولاً: رسالة الى الفعاليات الشيعية المتصالحة مع النظام السعودي والتي احسنت الظن بنظام يقوم على العنصرية والطائفية ويؤججها كلما كانت في مصلحته ويستغل الاكثرية لتحارب حروبه مع جيرانه وعلّهم بذلك يراجعون مواقفهم اما العبرة الثانية فهي رسالة الى الاكثرية الصامتة السعودية علّها تستفيد من خبرة الشيعة وحراكهم. ويجب على الاكثرية ان لا تسترخي كما استرخت سنة العراق خلال العقود السابقة فوجدوا انفسهم في حالة تخبط بعد التغير الذي حصل في العراق. ان لم يتعلم المجتمع السعودي دروساً من مقبرة البقيع سيجد نفسه في حالة تخبط وسيستجدي الحصص في المستقبل. سيلجأ تارة الى قبيلة مندثرة مفككة او في طريقها الى الانقراض وتارة لافكار قد ولت وزال بريقها. ان لم ينظم المجتمع نفسه ويجمع شتاته الفكري والقبلي والمناطقي والطائفي ويعالج شلله السياسي سيجد نفسه رغم كونه الاكثرية العددية في موقع اشبه ما يكون بموقع الاقلية المهمشة المنبوذة تتقاذفها الارتباطات الضيقة. يحتاج هذا المجتمع اكثر من اي وقت مضى ان يمد يده ويبني جسوراً مع كافة الشرائح علّه بذلك يمحو صفحة الاقصاء والعنصرية التي مارسها النظام وجعلها ركيزة لحكمه وتبريراً لوجوده وهيمنته فجر خلفه المجتمع الذي انبهر بمشروع تطهير الارض والعباد من شركيات مزعومة شخصها كهنوت السلطة في الماضي والحاضر فأعطته هوية مزيفة قائمة على رفض الآخر بل قمعه ومناصبته العداء. عندها فقط لن تستطيع اي جهة خارجية او داخلية تفكيك لحمته وعضويته ونسيجه الاجتماعي الذي يتجاوز الطائفة ويفتح المجال لبناء جسور قائمة على التاريخ والثقافة المشتركة والمصلحة الاقتصادية والتمثيل السياسي العادل الذي يتجاوز فئوية الدولة الحالية وادارتها المنتقاة حسب معيار الولاء وليس القدرة. ولعل الاكثرية الصامتة تتعلم دروساً جديدة في مدرسة مقبرة البقيع.
‘ كاتبة واكاديمية من الجزيرة العربية
القدس العربي