توجهات السياسة الخارجية التركية
عبدالله تركماني ()
تركيا دولة كبيرة تشغل حيزاً استراتيجياً مهماً، يطل على رقعٍ استراتيجية مهمة: أوروبا والبلقان والبحر الأبيض المتوسط والعالم العربي من جهة، وروسيا وآسيا الوسطى ومنطقة القوقاز من جهة ثانية.
لقد شهدت السياسة الخارجية التركية، خصوصاً منذ وصول حزب “العدالة والتنمية” إلى الحكم في العام 2002، تغيّرات عدة في التوجهات والتحركات، إذ باتت تعتمد على تعدد العلاقات وعدم حصرها في محور واحد، الأمر الذي حوّل تركيا إلى مركز في السياسة الدولية، بعدما كانت تعتاش على أطراف حلف “الناتو”. فوسط العواصف المندلعة قرب حدودها تحتفظ تركيا بهدوئها وحساباتها الواقعية، تسعى إلى إبعاد النار عن داخلها، وتحاول لعب دور الإطفائي حيث تستطيع، وتقدم نفسها كقوة استقرار في المنطقة، محاولة توظيف قدرتها على التحدث إلى الجميع.
لقد أدركت القيادة التركية أنّ قصة الشرق الأوسط السياسية في المدى المتوسط ستتلخص في مفهومين أساسيين: أولهما، مفهوم السلام كحزام أمن للوضع الإقليمي بين الدول. وثانيهما، التحول المؤسسي القائم على مجموعة قيم عالمية مثل الديموقراطية وحقوق الإنسان والشفافية والحكم الصالح. كما أدركت أنّ انهيار الشرق الأوسط القديم يسبب فراغاً استراتيجياً كبيراً يثير شهية أطراف محلية وأجنبية عديدة، ويعطي للقوى المختلفة الشعور بهامش أكبر للحركة المستقلة، ويدفعها إلى التطلع إلى سياسات بديلة، والبحث عن استقطابات لم يكن من الممكن تصورها من قبل.
وهكذا، فإنّ دور تركيا الصاعد في الشرق الأوسط، يهدف إلى ترشيد التفاعلات الإقليمية، وذلك لأسباب ثلاثة على الأقل: أولها، أنها تحتفظ بعلاقات قوية مع إسرائيل والفلسطينيين. وثانيها، علاقاتها الطيبة مع أطراف الانقسام في المنطقة من سورية وإيران على جانب، إلى مصر والسعودية على الجانب الآخر. وثالثها، الذي يجعل دورها مؤكداً، يتعلق بسياستها العقلانية بوجه عام.
ومنذ العام 2006 أدركت تركيا أنّ تحركها تجاه لبنان سيمنحها فرصة التدخل المباشر على خط إقليمي ساخن، يحمل لها فرصة العودة إلى الساحة الإقليمية، التي أهملتها لسنوات طويلة، ويمكّنها من حل العديد من قضاياها العالقة مع العديد من اللاعبين المحليين والإقليميين، ويسهّل لها جمع المزيد من النقاط وتسجيل أهداف غير متوقعة في مرامي الكثيرين. كما يبدو أنّ التحرك التركي تجاه غزة قد منحها فرصة الدخول على خط إقليمي ساخن آخر، يسهّل لها جمع المزيد من النقاط لصالح ديبلوماسيتها النشطة، من خلال: المشاركة التركية في أي قوات دولية، والمساهمة في إعادة إعمار غزة.
لقد جاء تحرك رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان لاستعادة بعض الوهج في الدور التركي، كما أنّ التحرك التركي رسالة إلى الأوروبيين أنّ تركيا ضرورة لهم في الشرق الأوسط وأنّ أي استقرار في المنطقة، تنشده أوروبا، غير ممكن من دون مساعدة تركيا، القادرة على التواصل بسهولة مع إيران وسورية، وتنسيق بعض الملفات مع مصر والمملكة العربية السعودية.
لقد أثبتت تركيا أنها تمثل رقماً صعباً في المنطقة، كما أنّ موقفها من العدوان على غزة سيسهم في فتح آفاق جديدة وواعدة للعلاقات العربية – التركية، وبخاصة بعد أن أثبتت أحداث العدوان حيوية الدور التركي وحياديته في التعاطي مع قضايا المنطقة، وهو ما يرشحها لأن تصبح لاعباً أساسياً في المعادلة السياسية القائمة والمستقبلية المتعلقة بالصراع العربي – الإسرائيلي، كونها أتقنت استثمار علاقاتها مع طرفي الصراع بشكل أعطى انطباعاً عن مدى شفافية وموضوعية الدور التركي.
أما الأجندة الخفية للوئام الحذر التركي – الإيراني، فلعل أهم ما تنطوي عليه أجندة هذا الوئام هو استفزاز وابتزاز أوروبا، بأنه في حال وجود أي ممانعة أو رفض للمسعى التركي في الانضمام لأوروبا، فإنّ ذلك سيعيد تركيا إلى ماضيها الإسلامي، بما ينطوي عليه ذلك من تغذية الأصولية والتطرف المجاور لأوروبا. كما تنطوي هذه الأجندة على استفزاز وابتزاز للأميركيين أيضاً، وإفهامهم بضرورة الاستجابة للمطالب التركية، لجهة لجم الطموح الكردي العراقي في إقامة دولة مستقلة في العراق.
وفي هذا السياق، يبدو أنّ الالتحاق التركي بالاتحاد الأوروبي، بالنسبة لحزب “العدالة والتنمية”، يهدف إلى تحقيق المعادلة: تركيا أوروبية بدون التنكر لتاريخها وهوية شعبها الدينية، وهو أيضاً وسيلة للإصلاح الداخلي. فعبر الطريق الأوروبي ومعاييره يأمل قادة الحزب أن يصلوا إلى تحجيم المؤسسة العسكرية وإخراجها من الساحة السياسية، إضافة إلى توظيف المعايير الأوروبية في مجالي حقوق الإنسان وحقوق الأقليات لوضع نهاية لحرب الدولة التركية الحديثة على القومية الكردية.
كما يجدر بنا إدراك مدى الأهمية التي تتمتع بها تركيا لدى الاستراتيجية الأميركية الخاصة بمنطقة الشرق الأوسط، إذ نلاحظ أنّ الإدارة الأميركية اليوم تحتاج إلى تركيا أكثر من أي وقت مضى، لكي تلعب دوراً في سلسلة من الأدوار في الشرق الأوسط الجديد.
() كاتب وباحث سوري مقيم في تونس
المستقبل