كل ما أعرفه أنني لست ماركسياً!
د.عبد الحسين شعبان
أعادت الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية طيف ماركس الذي غاب لسنوات زادت على عقدين من الزمان، لاسيما في ظل انهيار مؤسسات مالية وتأمينية ومصرفية عملاقة، لدرجة اعتبرها البعض تحقق لنبوءة ماركس الذي كان يُنظر اليه في السنوات الماضية باعتباره جزءاً من المتحفية التراثية للقرن التاسع عشر، خصوصاً بعد أن انصرف عنه الكثير من مريديه، بل غلاّته المتطرفين وولوا وجوههم صوب «الليبرالية الجديدة»، الأمر الذي بحاجة إلى وقفة مراجعة وجردة حساب بخصوص الماركسية واتجاهاتها، من زاويتها الفلسفية الفكرية، ومن زاويتها التطبيقية العملية.
غالباً ما يتم الحديث عن الماركسية بلحاظ سلبية المعنى التاريخي للممارسة، سواءً ممارسة ماركس نفسه وتجاوز الزمن للكثير من أطروحاته أو الممارسة الماركسية بعده، أما المنهج الماركسي وهو الأساس، فلعلّه الجزء المنسي من الماركسية، ونسيان أو تجاوز هذا الجزء من الماركسية يجعلها عند البعض شرٌ مطلق وعند البعض الآخر خيرٌ تام، فالأول يقيس على بعض التطبيقات والممارسات الخاطئة المحكومة بزمنها وبظرفها، أما الثاني فهو ينطلق من الكمال والعصمة والثبات، فبدلاً من استخدام المنهج الجدلي على نفسه أولاً، تراه ينغلق ويضيق بل يتشرنق على ذاته، بحكم ادعاء امتلاك الحقيقة وبطلان ما سواها.
لعل الاتجاه الاول ينطلق من رؤية مغالية في التبديد، في حين أن الاتجاه الثاني يأخذ بالتأييد، وبين المدّنس والمقدّس يضيع المنهج الجدلي، كما ارتآه وكشف عنه ماركس بعد جهد ومعاناة، باعتباره بداية وليس نهاية، منهجاً ديالكتيكياً وليست أحكاماً جاهزة.
إن اعتبار الماركسية علماً كاملاً ونظرية تامة مخالفة لجوهر منهج ماركس الجدلي، فهو أول من قال بعدم القطع بتمامية وكمال كل شيء، الأمر الذي جعل اعتبار كل شيء نسبيا، وهو ما ذهب اليه عالم الفيزياء باسكال الذي تحدث عن النقص في العلم والفكر والفلسفة. وكان ماركس نفسه يردد: «لا علم كاملا إلاّ في مملكة النحل»، وإنّ كل علم ناقص، وفي نقصه سرّ تقدمه التاريخي، ولعل ذلك يذكرنا بالفيلسوف العربي الكبير الصوفي الاتجاه العلاّمة النفري الذي قصد من قول «كل علم مستقر» يعني «جهلاَ مستمراً» وذلك لأن كل شيء متغيّر وغير كامل ولا تحتسب الأشياء إلاّ بنسبيتها.
ولا يمكن اعتماد قانون: وحدة وصراع الأضداد دون الحديث عن قانون نفي النفي، فالجدلية الماركسية دون القانون الثاني تتحول إلى ثانوية ومثنيات: خيرٌ وشرٌ، جمالٌ وقبحٌ، نهارٌ وليلٌ، حياةٌ وموتٌ وهكذا. وإن الجدل منهجياً يعني الحفاظ على الجدلية، لا تصنيمها أو تحنيطها، وبقدر كون الماركسية احتراما وتقديرا لجهد ماركس الكبير والخلاّق، فينبغي اعتبارها أولاً وقبل كل شيء مثالاً لحرية النقد لا دوغمائيته، فالجدل المنهجي الماركسي، بحاجة إلى نقدية من داخله، إضافة إلى خارجه.
وبهذا المعنى تكون ماركسية ماركس هي بداية الماركسية لا منتهاها، الأمر الذي نحتاج فيه إلى نقد الماركسية السائدة بمنهج ماركس، ونقد ماركس وتطبيق منهجه الجدلي عليه وعلى أحكامه، لاكتشاف قوانيننا، لا تطبيق قوانينه، لأن الكثير من قوانينه وتعاليمه واستنتاجاته وأطروحاته لا تصلح لعصرنا، لاسيما وبيننا وبينه نحو 150 عاماً، وإذا كانت قوانينه تعميماً لمعرفة القرن التاسع عشر وعلومه، فالماركسية اليوم، خصوصا المستقبلية تجاوزت علوم القرن العشرين، لاسيما ما بعد العولمة والحداثة، وهي تسير الخطى حثيثاً في القرن الحادي والعشرين، وهي تختلف عن ماركسية القرن التاسع عشر وعن ماركسية القرن العشرين. كما أن ماركسية ما بعد سقوط جدار برلين تختلف عن ماركسية ما قبل سقوطه، وماركسية الماضي ستختلف عن ماركسية المستقبل.
هناك نوعان من الماركسية، الأولى بإنسابها إلى ماركس «الاصلي» وإنجازاته الكبرى، ولعلها في الكثير منها ماركسية نصيّة، لاسيما إذا أخضعت للقراءة المنهجية في إطار حقبتها التاريخية، ماركس الشاب الهيغلي، وماركس ومخطوطات 1844، وماركس ما قبل رأس المال، وماركس والثلاثية الأثيرة 1848-1852، وماركس ورأس المال، ولا ينبغي أن يؤخذ ماركس كلّه مأخذ الجد، وبهذا المعنى لا ينبغي أخذ «الماركسية الممكنة» عند ماركس كلّها باعتبارها اكتمالاً أو تماماً، فلم يكن ماركس كلياً في عمله النقدي، بل كان نقدياً في عمله الكلي، وهو ما ينبغي أن نفهمه أولاً في نقد هيغل أو تعديله نقدياً.
أما الماركسية الثانية فهي ما بعد ماركس، فيمكنني أن أقسمها قسمين:
القسم الأول: ماركسية النموذج الاشتراكي الاستبدادي في الأنظمة التي حكمت الاتحاد السوفييتي منذ عام 1917 حتى انهياره عام 1991 والبلدان الاشتراكية الأخرى، التي اعتمدت الموديل نفسه، وإن اختلفت في التفاصيل في شرق أوروبا أو آسيا أو إفريقيا أو أميركا اللاتينية.
القسم الثاني: الماركسية المستقبلية «ماركسية ما بعد الحداثة» وكانت إرهاصاتها الأولى مدرسة فرانكفورت وإعادة قراءة تأثيرات هيغل على ماركس.
إن الماركسية وضعية نقدية جدلية، وهي مضادة للمفهوم الميتافيزيقي عن المعرفة والعالم، وهي تكوين يناقض الواقع، وعندما تصبح الماركسية بلا نقيض ستكون مجرد أحلام، وبإعمالها يتأكد ويتأتى النقيض. لقد جرت محاولات لاختزال ماركس والماركسية إلى تبسيطية، بحيث أصبح فهم التاريخ كلّه ماركسياً بحذف نقيضه الضروري وجدله الخلاّق، وذلك دون مراعاة باحتمال تقديم الضد لضدية أخرى جديدة، ولعل ماركسية ماركس نفسه كانت وحياً من النقيض، فكيف يتم إلغاء النقيض في الخطاب الماركسي الذي ساد بضعة عقود ولايزال بعضه يصارع على البقاء رغم نقوصه وتقهقره؟!
لا أعتقد بوجود ماركسية نقية أو كاملة على غرار هيغيلية مطلقة أو كليّانية نسقية، ولعلي أميل إلى اعتبار كل عمل ماركسي صرف هو عمل هيغلي بشكل عام، وقد سعى ماركس إلى احتواء نقدي للمتناقضات، وكان هو أكثر من يكره إضافة المزدوجتين اللاحقتين اللغويتين «Marxist» و»Marxisizm»، وكان يرفض اعتبار بعض استنتاجاته وقوانين الكشف التي قام بها مثل منهجه الجدلي في دراسة تاريخ تطور البشرية واستغلال الإنسان للإنسان عبر فائض القيمة، نظرية كاملة أو نهاية لمعرفة نظرية خالصة، وكان يردد عندما كان أحدهم يخاطبه «أنتم الماركسيون» بالقول: كل ما أعرفه أنني لست ماركسياً!!
وبهذا المعنى لا بدّ من وضع مسافة بين نقد البديل الآيديولوجي ماركسياً، والبديل الماركسي للآيديولوجية، أي عدم الاكتفاء بماركس وماركسيته، باعتبارها كل ما لدينا من الماركسية، وذلك باعتماد منهجه النقدي الوضعي المفتوح.
إن اقتصار قراءة الماركسية على ماركس ذاته دون المدارس الأخرى سيكون مأخذاً على الماركسيين، فالمتمركسون بألوانهم وحدهم هم الذين قفلوا خزانتهم على الكتب المدرسية الماركسية التاريخية، ووضعوا مسافة بينهم وبين تجديد الفكرة الماركسية ذاتها، ولعل رد الاعتبار للجدل والمنهج الماركسي النقدي الوضعي قبل تحويله إلى لاهوت وأحكام وقوانين ثابتة ومنزّلة، سيكون مساهمة في إحياء الماركسية بعد أن تصحّرت روحها وتم سلب جوهرها من خلال تطبيقات مشوّهة.
الماركسية هي جزء من التاريخ وليس التاريخ كله، ولعل فهم التاريخ ماركسياً لن يكون فهماً تاريخياً نقياً إلاّ إذا أرادت الماركسية السائدة التعالي عليه، فلا يمكن أن يكون هناك وعي بالتاريخ دون تاريخ للوعي، والوعي في الأغلب موقف من التاريخ، فبأي وعي ماركسي أصبح التاريخ كله خاضعاً لفهمه الماركسي؟
كان ماركس في إطار عمره البيولوجي ومعارف عصره مهرجاناً لقوة الفكر والسطوع واحتدام العاطفة والجرأة والقراءة النقدية بإنتاج فكر جديد نقيض، ولذلك لا ينبغي اختزال ما قام به بمقولات «فوق بشرية»، والماركسية التي سادت في الأنظمة الاشتراكية، أو حتى التي وصلتنا مسكوبة بإناء بدوي وبمذاق ريفي، هي غير الماركسية الحداثية، المدنية، المنفتحة، وكانت عبارة عن جمل وشعارات عفا عليها الزمن من كثرة التكرار، لهذا السبب أصيبت بالشيخوخة وأحياناً بالعقم، ولم تكن سوى ما تحت أو ما دون الماركسية الحيّة، وغالباً ما كانت تقدّم، من خلال لغة شحيحة وباردة أحياناً وإذا أريد تسخينها فمن خلال حرارتها الثلجية، وكانت في الكثير من الأحيان متكلّفة، مليئة بالاستشهادات المقحمة.
الماركسية المستقبلية الحداثية، الحيّة، القادرة على العيش والقراءة والاستنباط، ستكون متحررة من زمانها، وهي تجسيد للواقع وانعكاس له، أي: ماركسية لا تتثاءب في الصباح، لتغطّ في كسل عميق في المساء، لأنها ماركسية غير فائضة أو مرتشية أو خشبية أو ماركسية الديجيتل، ولعل ثمة كوابح وتعقيدات لا تعدّ ولا تحصى تقف أمام هذه االنظرة الانتقادية فهي لا تريد الاستيقاظ ولا نفض غبار الزمن، بعد استرخاء في نوم عميق يقترب من السبات.
تلك هي الحقيقة التي نبحث عنها أحياناً لدرجة الجنون على حد تعبير أندريه مارلو.
* باحث ومفكر عربي