المثالية المفرطة حول الانعتاق السياسي المفضي إلى الاغتراب
سلامة كيلة
انطلاقاً من مسخ الدولة في “تجربتنا الخاصة” يصل الصديق العزيز جاد الكريم الجباعي إلى أن يؤسّس “دولة مثالية”، أو دولة مجرّدة. فهو في مقاله “في الانعتاق السياسي” (المنشور على حلقتين في الموقع) يعرّف الدولة بأنها “الحياة الأخلاقية للشعب”، و”تحمل الخصائص الجوهرية للأمّة”، وهي “كيان سياسي وأخلاقي” هو “تجريد المجتمع المدني وتجريد كلّ فرد من أفراده”. وهي “شخص اعتباري لا يجوز أن يوصف بأيّ من صفات الفرد الطبيعي”. وهي كذلك “دولة الحقّ والقانون”، ويكمل بأن “الإنسان هو مادّة الدولة وصانعها، بل خالقها ومبدعها من ذاته، والدولة هي تجلّي ماهيته وخصائصه النوعية، أو تموضعها، أعني تجلّي أو تموضع العقل والأخلاق، بالتلازم الضروري، في كائن سياسي وأخلاقي هو من طبيعة الإنسان ذاته”.
وبالتالي فهو هنا يرفعها إلى الحدّ الذي يحوّلها فيها إلى كائن فوق الإنسان، لأنها لا تكون سوى المثاليّ فيه. أي هنا الإنسان المجرّد. وبهذا يصبح من الممكن تجريدها من كل دنس دنيويّ. لتنعتق من الشرط الديني والمذهبي، ومن الشرط الإثني، ومن الشرط الاجتماعي الطبقي، وكذلك من الشرط الأيديولوجي. فهي أرفع من كلّ ذلك، وهي فوق كل ذلك. ولا يجب أن تتلوّث به. وهي هنا صورة الإنسان المجرّد، حيث “لا بدّ من انعتاق الأفراد من أيّ سلطة سوى سلطتهم على أنفسهم، وليس لهذه السلطة من اسم سوى سلطة الدولة، أي سلطة القانون”. وبالتالي يمكن أن نضفي عليها كلّ أسماء الله الحسنى، لأنها حالئذ تكون مجرّداً غير قابل للتدنيس، وهو مقلوب الوضع الذي يعيشه الفرد في إطار سلطة مستبدّة. ولتتحول الدولة إلى “الله” جديد يؤسّس دينه. ولا ننسَ أنّ فكرة الله نشأت عن هذا التجريد، لتخلق صورة لـ “شخص” هو معكوس الواقع القائم. وهنا تظهر الشطحة الصوفية عند صديقنا جاد الكريم.
وسنلمس بأنّ الإنسان الذي خلق الدولة وأبدعها، هو الإنسان المجرّد، وليس الإنسان الواقعي. لهذا سيبدو أنه يحذو حذو هيغل، ويكرّر فكرته، فـ “الدولة السياسية الكاملة، الدولة الليبرالية، دولة الحقّ والقانون، أو الدولة الدستورية، هي، حسب جوهرها –حياة الإنسان النوعية-، هي تعيّن الروع الإنساني وانبساطه، تعيّن العقل أو الفكر والضمير، في العالم وفي التاريخ”. وهو هنا يلخّص الإنسان بالروح الإنساني، ويساويه بالعقل أو الفكرة. بمعنى أنّ الدولة هي تعيّن الفكرة، وبالتالي إنّ الفكرة هي التي تحدّد الواقع. وإذا كان بدأ بالاستشهاد بنصّ لماركس من كتابه “المسألة اليهودية”، وهو من أولى كتاباته، فإنه يجرّه إلى حظيرة هيغل من جديد، رغم أنّ ذاك النص مثّل الخطوة الأولى في تجاوز ماركس لهيغل. لهذا قلب فكرة ماركس التي كانت تعيد الدولة إلى أساس اقتصادي، أي ما كان يسمّيه هيغل المجتمع المدني (وهذا التعبير لماركس، الذي أوضح بأنّ أساس الدولة هو المستوى الاقتصادي الاجتماعي، والذي كان يسمّيه هيغل المجمع المدني. وبالتالي باتت الفكرة هي محددة الواقع وليس العكس. وهذا ما سوف نلمسه هنا. وعاد ماركس يقف على رأسه بدل أن يعيد هيغل إلى الوقوف على قدميه.
الدولة هنا مجرّد، هو مجرّد الإنسان، أو الإنسان المجرّد. وهي فوق الواقع، وفوق الواقع الحقيقي للبشر المعينين. وعلى النقيض من واقعهم ونوازعهم، وميولهم وأفكارهم، وسلوكهم. لأنها التعبير عن جوهرهم، ما هو هذا الجوهر؟ إنه الحرية المحددة في القانون، فالحرية هي ماهية الكائنات النوعية، العاقلة والأخلاقية. ولهذا فإنّ الدولة هي كائن سياسي وأخلاقي. وبالتالي لا يجوز أن يفرض عليه من دنس الدنيا ما هو غير أخلاقي مثل الإثنية أو الطبقية أو الدينية.
على ماذا يقوم تحديد الصديق جاد الكريم للدولة؟ وعلى ما يبني تجريده هذا لها؟ على فصلها عن السلطة، حيث يرسمها في كلّ أناقة المثالية، في كلّ قيم الأخلاق والتجرد والحيادية، على الضدّ من السلطة التي تحظى بكلّ تقريع، وتلبس كلّ الشرور. هل يمكن أن تتأسّس دولة مثالية دون سلطة إثنية أو طبقية أو دينية أو أيديولوجية؟ هل يستقيم هذا التمييز/ الفصل؟ يسقط أمام أول ملاحظة، حيث أنك تحصل على شهادة ميلاد من موظف في الدولة عيّنته السلطة، وتسجن من قبل شرطيّ (أو رجل مخابرات) عيّنته السلطة، وعلى ضوء قانون وضعته هي، وترشو موظفا كذلك عيّنته السلطة. هنا تنحطّ الدولة من عليائها، لتتحوّل إلى سلطة. بمعنى أنه في “التجريد” يمكن أن نتحدث عن دولة ومؤسساتها وقوانينها، لكن في الواقع كل ذلك هو من اختصاص السلطة. بمعنى أنّ الدولة، هذا التجريد الفارغ لا وجود لها إلا عبر السلطة، وبالتالي لأفراد لهم مصالح طبقية وأيديولوجية وتحديد قومي، وربما يقبلون فصل الدين عن الدولة. وهم الذين يضعون القوانين، التي ستخدم مصالحهم بالضرورة. ويعينون الطاقم البيروقراطي الذي يخدمهم. ويحمون سلطتهم بالجيش والشرطة، وخصوصاً المخابرات. وكلّ هؤلاء هم من البشر الواقعيين.
هل يمكن أن نجد دولة ليست كذلك؟ أي دولة دون سلطة؟ حينها لن يكون هناك دولة وليس سلطة فقط، لأنّ الله لم يرسل بعد الملائكة لكي يديروا دولة كهذه. وكل القوانين التي حملهم إياها طبقتها السلطة وفق مصالحها، لأنها بالأساس كانت قوانين هؤلاء. وبالتالي فإنّ دولة على هذه الشاكلة تحتاج حتماُ الفرد المجرّد، الإنسان المجرّد، وتلفظ الإنسان الواقعي: الذي ينتمي إلى طبقة، والأيديولوجي، والذي ينتمي إلى أمّة، وكذلك ربما إلى دين، وقبيلة وحيّ. لكن هذا الإنسان الأخير هو الذي يقيم الدولة ويحشوها بالسلطة، ووفق كل تلويناته تلك. لهذا فهو يدنّس طهارة الدولة المجرّدة، يحوّلها إلى وهم. وإلا من أين سنأتي بسلطة موافقة لأسس هذه الدولة المجردة غير أن تكون هي ذاتها كذلك مجردة؟ سلطة تحمل كل هذا التجريد، لكي تكون فوق الإثنية والطبقية والقومية والأيديولوجية والدين؟
ربما هذه هي صيرورة تطوّر الوعي البشري، لكن ليس من الممكن البدء من المجرّد، بل يجب البدء من الواقعيّ، هذه إحدى استخلاصات ماركس. إنّ دولة لا دينية باتت أمراً ممكناً، حيث يجري فصل الدين عن الدولة. لكن كيف يمكن أن نجرّدها من طبقيتها أو من طابعها القوميّ، والطبقات لازالت قائمة وفاعلة، والصراع الواقعي هو صراع طبقات؟ وكيف يمكن إلغاء طابعها القومي والوعي البشري لم يتجاوز هذا الحدّ، والعالم يتشكّل على أساس الدولة الأمة؟
هذا الأفق هو الذي فتح ماركس على الاشتراكية وإلغاء الملكية الخاصة. لكن هذه صيرورة.
ليس الدولة فقط هي الخاضعة لهذا الشرط الواقعي، بل الحقّ والقانون كذلك، لأنّهما، وإن كانا في التجريد يمكن أن يبدوا حاسمين، إلا أنهما خاضعان للمصالح الطبقية بالتحديد، وبالتالي ليس من حقّ مجرّد، وليس من قانون مجرّد، هما واقعيان. لهذا فإنّ الطبقة (أو الفئة) التي تستحوذ على السلطة/ الدولة (على الحكم) هي التي تفرض حقها وقانونها. وليس من حقّ أو قانون هو على مسافة واحدة من كلّ الطبقات، فأوّلاً يجب أن تنتهي الطبقات لكي يطرح البشر على أنفسهم السؤال حول معنى الحقّ العام، والقانون المتساوي. لأنّ البشر ساعتها سيكونون متساوين. أما عبر التجريد فيمكن عمل كل شيء، بما في ذلك تغيير العالم، وانتصار اليوتوبيا، والتلاشي في فضاء السماوات.
ربّما مع ما يكتب صديقنا جاد الكريم نلمس عودة للمثالية المطلقة التي كانت مع هيغل، لهذا نجد أنه يتكئ على هذا الأخير كثيراً. لكن الفارق أنّ هذه المثالية هي مثالية مفرطة وليست مطلقة. حيث أنها تتوه بين فعل العقل كما مع هيغل، وفعل الدولة المحوّلة إلى مطلق فوق البشر، وهذه من سمات الله. لهذا هي مثالية تؤسّس للتصوّف وليس للفعل السياسي، فاتحة الباب لنشوء دين جديد هو الدين الدولة. وربما يفضي إلى استعادة كل الطقوس الدينية في محرابه.
جاد الكريم الجباعي:
– في الانعتاق السياسي (1/2)
– في الانعتاق السياسي (2/2)
موقع الآوان