صفحات مختارةطيب تيزيني

التشاؤم البطولي والثأرية المضادة

طيب تيزيني
كان الفيلسوف الألماني أزفالد شبنجلر قد كتب كتابه الشهير “سقوط الغرب” في مرحلة ما بين 1918 و1922، فدشَّن فيه نمطاً من الكتابة التاريخية الحضارية ترتكز على أساسين اثنين حاسمين، هما “التشاؤم البطولي”، و”الثأرية المضادة”. ومن المهم أن يُعرف هنا تاريخ ولادته وموته، ومن ثم تحديد مرحلة نشاطه الرئيسي، فهو ولد عام 1880 ومات عام 1936، فعاش -من ثم- في مرحلة دقيقة من تطور ألمانيا الحديث، وهو تطور قاد إلى حربين عالميتين، أثرتا على العالم برمته. والملاحظ أن ذلك التطور كان ينحو -في حالات أساسية- نحو تقدم كبير على الصعيد الصناعي، ولكن نحو تحول سياسي يكاد يكون ضيقاً، خصوصاً على الصعيد الخارجي الدولي.
لقد تبلورت تلك العلاقة الناشزة بين الاقتصادي والسياسي، حين انطلقت التوجهات الاستعمارية الألمانية إلى الخارج، فوجدت نفسها أمام حصار من قِبل الدول الاستعمارية العريقة والسبَّاقة إلى امتلاك السوق العالمية تحت شعار البحث عن “مجال حيوي”، في الخارج بعد استنفاد السوق الداخلي. وكانت بريطانيا في مقدمة تلك الدول: إنها (أي ألمانيا) قوة اقتصادية داخلية متصاعدة، ولكن في سياق قوة سياسية قزمة، ومن ثم، نشأت تطلعات لإنتاج توازن بين الحقلين المذكورين. ولكن كيف؟ جاء الجواب السياسي النظري متأخراً، نسبياً عن الجواب العلمي. أما شتراوس وزير الدفاع لاحقاً فقد أعطى الجواب المطلوب، وربما غير المُصرَّح به عيناً: الحرب ضد بلدان التخلف و(التقدم) واستلام أسواقها ووضعها في خدمة الاستعمار الألماني، وذلك في سياق من التنافس التناحري القاتل مع الدول الكبرى، في حينه.
كان شبنجلر قد عاش بعض نتائج الإنكسار الألماني في الحرب العالمية الأولى، وخصوصاً إتفاقية فرساي، التي اعتُبرت مُذلَّة للألمان، وبكيفية محددة لمِن يملك شيئاً من “الروح الفردية”، التي تنتج الثقافات-الحضارات، وتعتبر النصر المبدع في تاريخ الشعوب “المتميزة”. لقد “سقط الغرب”، المجسَّد خصوصاً بـ”الروح الألمانية”، مِما أفسح الطريق أمام عناصر “الثأر” وتصويب الموقف. أما في مقدمة هذه العناصر فتقع “النزعة القيصرية” المُستفْرِدة للقرار السياسي والعسكري والثقافي والحضاري أولاً، وفتح الطريق أمام “الإمبريالية الاستعمارية” بمثابتها “مصيراً” ألمانياً وطريقاً على الألمان أن يسلكوه ثانياً. وبذلك، يبدو “سقوط الغرب” بمثابة إدانة ودعوة في آن: إدانة للتخثُّر الذي أصاب “الروح الفردية” الألمانية، ودعوة إلى مواجهة ذلك التخثر عبر استعادة تلك الروح المهدورة. وبصيغة وبدلالة أخريين، يفصح ذلك “السقوط” عن هُويته من حيث هو سقوط للنخبة المجتمعية العليا المستحوِذة على “الروح” المعنية، وعلى إمكانية قيادة التاريخ الألماني من موقعها.
وهكذا إذا عدنا إلى الفترة التاريخية، التي تعاظمت فيها هذه الأفكار ذات الأصول الأيديولوجية الشبنجلرية وغيرها، لاحظنا أن هذه الفترة ذاتها هي، كذلك، مرحلة ظهور أفكار أخرى تلحُّ على أهمية “العامة” من الناس وعلى ضرورة إنتاج مجتمع إنساني جديد، يقوم على العدالة والسلم والحرية. ومن ثم، أمكن إدراك العلاقة القوية أو الضعيفة القائمة بين الشبنجلرية والعنصرية النازية العسكرية. وإذا كان جمع من الباحثين في تاريخ الثقافة والأيديولوجيا والفلسفة يرون في كتاب “سقوط الغرب” دعوة إلى إعادة بناء هذا الأخير عبر توجيه نقد مزدوج: باتجاه “الروح الفردية المبدعة” والمتفرِّدة بالإنتاج الحضاري، وباتجاه “العامة الغوغاء” بوصفها فِعل السقوط الحضاري ومنطلقه، نقول، إذا كان هؤلاء يرون الأمر على هذا النحو، فإن منظومة جديدة من المفاهيم أصبح الأخذ بها ضرورياً للدخول في حضارة إنسانية جديدة. ويبرز في مقدمة ذلك مفاهيم التعددية الحضارية والثقافية والإقرار بها، عبر نِدَّية تامة بين الأطراف جميعاً، إضافة إلى المشاركة الفعلية من قِبل هؤلاء في خلق عام جديد.
وكما يتضح، فإن مهمة القراءة النقدية العقلانية تصبح من دواعي الإنتاج المعرفي الجديد، الذي يقود إلى مثل ذلك العالم. وفي هذا، يجد العرب أنفسهم أمام ضرورة المشاركة من أجل إنجازه، إنها استحقاقات المجتمع أو المجتمعات المعرفية الجديدة (وهو مصطلح جديد)، يمكن توظيفه في خدمة هذا المشروع الأكثر نُبلاً في عصرنا.
الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى