جلال/ عقاب يحيىصفحات مختارة

” الهارس والمهروس”.. بين القومي والاجتماعي: المعادلة المختلة

جلال/ عقاب يحيى
أكيد أن العامل الخارجي كان عندنا متميّزاً عن مثيله في عموم البلدان المستعمَرة، بالنظر لعاملين، أو ثلاث عوامل شديدة التداخل:
1 ـ الموقع الاستراتيجي ـ النفط والغاز، والثروات الأخرى، والامتداد الجغرافي.
2 ـ المشروع الصهيوني كجزء من مشروع إمبريالي، وبالوقت نفسه: خصائصه الذاتية، ومواصفاته، وتناغم الخاص: الأسطوري، التاريخي، الديني، العنصري، الاستيطاني، التوسعي، الإمبراطوري، بالعام: الثكنة والقاعدة المتقدمة، والذراع الضاربة المقتدرة، المتوافقة، والمنفذة لمشروع الهيمنة الدائم.
3 ـ ويمكن إضافة عامل ثالث يرتبط بالخلفية الأديولوجية، والعمق الحضاري، وحوامله، والدور التاريخي، وموقعه في المخيال والوعي، والثقافة، وحتى في الصراع….
الأكيد أيضاً، دون مغالاة، أو مبالغة، أو تعكيز على فلسفة، وعقلية، وتنظير المؤامرة، أن ذلك الدور كان ساحقاً على امتداد بواكير مرحلة النهوض القومي، التحرري، وصولاً إلى اللحظة الراهنة، وتجسيداته الصارخة الفجّة: التجزئة، اغتصاب فلسطين واستمرار احتلالها ـ المجازر المفتوحة ـ الاعتداءات المتواصلة، وعودة الاحتلال العسكري بأقذر صوره الهمجية، الدموية، التمزيقية، التفتيتية: العراق: الشاهد الجرح، الإثبات، والكثير من المخلفات والموضعات والآثار.
الفعل الخارجي كان بقوة التجزيء، والاغتصاب، ورسم حدود الدولة القطرية، وزرع الألغام فيها، وفيما بينها، وتكوين تشكيلات وقوى صدّرها إلى مرتبة الحكم (وما يزال كثيرها مستمراً)، وأمور متشعبة فعلها في تربة خصبة، وتكوينة معقّدة، متداخلة لتشكّل الأمة بحواملها الرئيس، وما يداخلها من فسيفساء: ديني، مذهبي، عرقي، إثني، قبلي، بدوي، ما قبل إقطاعي ورأسمالي.. إلخ، قابل للتحرّك المتماوج، والعرقلة، والفرملة، والتصديع، والتصدّع، واللعب والتلاعب..
وإذا كان موقع، وأثر الفعل الخارجي يحتاج دراسات خاصة (وهناك الكثير فيه)، فإن ما يهمّ هنا: تعاطي الوضع العربي معه، ومع نتائجه: فعلاً، واستخداماً، وتوظيفاً.
إن طغيان الكل القومي في أوج مرحلة التحرر الوطني والقومي، ومرحلة شيوع: النمط الواحد. الحزب. القائد. العامل الذاتي القاسر للموضوعي. حرق المراحل. وحدة الأداة والقرار. المركزة والتخطيط الشمولي (عالمياً، وسحبه بصور كاريكاتورية مختلفة في العالم الثالث)…
ومفرزات ذلك الفهم: المرحلة، التنظير في الكل الأمني، ومصادرة الحريات الديمقراطية بالكامل، وعقلية الوصاية والفوقية، وتنظيرات(الشعب غير الواعي، وغير القادر على ممارسة الحرية ـ ما زال هذا السندان قائماً تضرب عليه بقوة مطارق الاستبداد)،والأحادية وتفريخاتها في: الاستبداد، والقمع، وتصفية، وملاحقة، وحصار، وحتى تخوين الآخر المختلف.. وكثير من مفردات وممارسات تلك الوضعية،
إنما وضع المشروع القومي في حالة اختناق، وفي عرج تشويهي. ذلك أن هذا الابتسار، وتصوّر أنّ مهام المرحلة القومية(وما بعدها، عند الطامحين) يمكن إنجازها بالتعارض مع المهام الاجتماعية، خاصة الحريات الديمقراطية، ومجتمع المواطنة المتساوية.. وعدم وعي أن العملية برمتها صيرورة متكاملة، متوازنة..
قاد إلى تجويف ذلك المشروع، وتساقط بنيانه عبر الممارسة، ومن خلال المواجهة مع العدو الخارجي، دون أن يتعظ، أو يعي حملته أن الفاعل الرئيس في السقوط، وفي الارتداد عليه من داخله، إنما يكمن في المحتوى، وفي ذلك القسر، والفصل، وإبعاد الشعب والقوى السياسية عن المشاركة الفعلية فيه، وفي الاختيار الحر.
كانت فلسفات عصر النهضة الأوربية، والثورة البرجوازية، خاصة لجهة: فعل التوحيد الذي أنجزته بالقوة، خاصة تجربة بسمارك، وغاريبالدي، ثم(الحالة الستالينية، وربما الصينية) هي السائدة بتناغمها مع إرث المنطقة، وثقافتها، خاصة: الفردية، والاستبداد، والماضوية الملتبسة، فقادت إلى سحق الاجتماعي بالكامل، ثم ارتدّت على ذاتها: تقويضاً، وتهشيماً، فتراجعاً، وارتداداً لم يبق سوى القشور، والهياكل الفارغة، بهدف الاستخدام والتوظيف في إدامة نظام الاستبداد.
قد نفترض لو أن حملة المشروع القومي حققوا مهمات المرحلة، خاصة أعمدتها الرئيس التي لخصتها شعارات البعث والناصرية، ودارت حولها بقية التشكيلات القومية والوطنية: الوحدة والحرية والاشتراكية..
ولعلنا سنغمض العين قصداً عن الهدفين التاليين، ونكتفي بالأول وقواعده: الوحدة وفلسطين (بالنظر للتناغم والترابط بينهما). ذلك لو أن حملة تلك الرايات حققوا الوحدة العربية، أو أي حالة مرحلية على طريقها. لو نجحوا في تحرير شبر من فلسطين(ولن نتحدث عبن بقية الأراضي العربية المحتلة من الأسكندرونة إلى عربستان، إلى الجزر العربية الثلاث، وسبتة وميليلية).. لغفرت جماهير الأمة تلك الممارسات الأحادية المرافقة، ولرفعت لمن يفعل ذلك: الصور والرايات، وحتى السيارات، ووضعته في المكان القدسي..
لكن هذه اللو كبيرة، كبر الهزائم والنتائج، والإخفاقات والانهيارات والتراجعات، والردة، وكبر إجهاض و فوات المشروع القومي، والانقضاض، والارتداد عليه براياته، وما تبقى منه. كبر الوضع العربي المتشقق، القابل للتذرية على أسس ما قبل قومية، وكبر مصيبة فلسطين التي تقزّمت إلى أقل من الذي احتلّ العام 1967، والذي صار أمل الآمال، وغاية المنتهى..!!.. وكبر العراق المحتل، النازف، المدمّر..
*****
كان يمكن السكوت عن هرس الاجتماعي (بقضه وقضيضه، أو باستخدامه)، وفي أساسه: حقوق المواطن الطبيعية في المأكل والعمل والتعليم والمساواة والمواطنية والتكافؤ والاحترام.. وحق التعبير والرأي والاختلاف والاعتقاد والمشاركة…إلخ، لو حقق المشروع النهضوي بعض النجاح والتقدم، وليس العكس..
لكن الذي حدث، وتأسيساً أن القومي(الوطني) بناره الحامية، ولواظه، ولهيبه، ودخانه، وعواصف وركّاب راياته وأمواجه..احتلّ كل الآخر. سحقه ولم يسمح له حتى بالتنفّس، أو الظهور، وكان حملته من العتي، والذاتية، والانفعال، والعصبية والعصبوية التي تصل حد تخوين الآخر ذاك إذا ما أراد التعبير ولو بكلمة، لأن لا مكان، ولا حياة، ولا حقوق له.. طالما أن التصورات السائدة تضخّ ذلك التنظير المشوّه، ثم تدخله فرن الاستبداد والتعليب ليصبح السيف المسلط، والمشنقة المعلقة لكل من يفكر(مجرد التفكير) بالتزاوج، والتناغم، أو الخروج عن (الدوغما) المقوننة.
****
لقد استخدم طغيان القومي لطمس، وابتلاع الاجتماعي، بكل مشتملاته، فضمر كثيراً في البنيان النظري، والتكويني، والثقافي، وفي تشكيل ووعي المواطن الذي لا يزال كثيره يجهل حقوقه التي لم يعرفها كي يمارسها، أو يناضل لتحقيقها، ويمكن النصب عليه بتسخين الخطاب، وتجميله بالكلمات النارية.. وإلى درجة: تعضدية وتعظيم البنية العاطفية، الاندفاعية، وتنمية الغرائز بدل العقل، واللعب على الكلمات والآمال ورغبات وتوجهات الشعب.
الحاكم العربي، ونخص بالذكر، أكثر، من ما زال يحمل تلك الراية، نجح في سحق البنيان الاجتماعي تحت يافطة القومي. والقومي المرتبط دوماً: بالمؤامرة المحبوكة، والمخاطر الجاثمة، والتهديدات القائمة، والمرحلة التاريخية، الدقيقة، الحاسمة!! حتى إذا ما ظهر حراك ما يحاول إصلاح الخلل، وإقامة معادلة متوازنة كان رهاب التخوين، والأحكام المفصّلة، وتهم العمالة للخارج: السيف والأداة، بينما لا مانع أن يفاوض هو، ويتفق، ويصالح، ويقايض، ويسمسر، ويبيع ويشتري..!!
ورغم أن الوقائع الكارثية أثبتت، وأكدت: أن غياب الحريات الديمقراطية، وحقوق المواطنية المحمية بالقوانين، واستقلالية القضاء، والمساواة بين الجميع، بغض النظر عن الجنس، والدين، والمذهب، والعرق، والانتماء، والعقيدة، ومشاركة الشعب الفعلية في الحياة السياسية عبر انتخابات حرّة، متكافئة لاختيار ممثليه في مجلس شعبي سيّد، والتداول السلمي على السلطة، والاعتراف بالآخر المختلف….
إنما هي في صلب الفشل، والهزائم، والفوات، قبل تعليقها على المشاجب الخارجية ( على أهميتها، وأهمية تأثيرها)، ذلك أن العامل الخارجي يصعب عليه إلحاق الهزيمة، مهما كان جبروته، بمشروع يقوده، ويحميه الشعب. بينما لم تصمد كل الإنجازات الكبرى، المادية، وبعضها حيوي، لافتقارها إلى المشاركة الشعبية، وإلى سياجها الطبيعي، مما كان يسهل على الفعل الخارجي أن يخترق تلك الدفاعات بزمن قياسي، وبأقل الخسائر، وأن يلحق الهزائم المنكرة بأصحابها.
*****
ورغم هذا الفوات المريع، فمن الجدير بالتسجيل الإقرار بأن شعوبنا، على العموم، ما زالت تمسك بالقضية القومية كقضية أساس، وهي مستعدة للتضحية في سبيلها بحقوقها الطبيعية، وبوعيها النابت لدور، وموقع الحريات الديمقراطية في حماية الأوطان وتحقيق الأهداف.
ويمكن الجزم: أن عموم القوى السياسية، بما فيها المعارضة، وحتى بعض التيارات العلمانية، والليبرالية، واليسارية، تملك قابلية الصفح والانسياق العاطفي خلف أي حاكم عربي ليس عندما يطلق رصاصة من مسدس على العدو (ولو في الهواء) وحسب، بل لمجرد أن يفقع خطاباً ساخناً، أو فاتراً يأتي بذكر فيه على دعم المقاومة، وحركشة الذي يجري من جرائم، وخزي، وتواطؤ، وذل.
العجيب أن القوى السياسية، وبعضها يعارض منذ عقود وعقود، ويملأ الدنيا كتابة، وتحليلاً عن نظم الاستبداد، والبنى والتشكيلات، والقمع، والمافيا، والعائلة، والأقلوي، والنهب، والسلب، والفساد والإفساد…. وتجرّيب المجرّب، والخروج بنتائج لأكثر من مرة ورهان..وطرح خلاصة الخلاصات: استحالة الإصلاح من الداخل( لا تصلح النوايا بنى متعضدية)، والعمل للتغيير الديمقراطي الشامل(بالتدرّج أو بالجملة، كما وعد البعض.. وأمور كثيرة رفعت يافطاتها، ومواعيدها، ونذرها)..
ومع ذلك.. فالأغلبية مستعدة أن تصفح للحاكم (فعل السبعة وذمتها بالشعب وقضايا الأمة) لمجرد بضع كلمات لا يمكن لسياسي أن ’يضحك عليه بها، وأن لا يدرك سياقاتها، وظروفها، وخلفياتها، ومبلغ التوظيف والامتصاص والتمرير فيها.
الأهم: هذه القابلية المفتوحة للتضحية بكل الجوهر الحصائلي. بالديمقراطية وحقوق المواطن جميعها على مذبح ليس القضية الوطنية، أو القومية، وإنما مسخها، أو بعض زبد التماوج.. فكيف سيكون الحال، إذاً، لو كانت النوايا صادقة في التصدي والمقاومة، وفتح جبهة الجولان، وإطلاق الحرية للشعب كي يقاوم ويحرر أرضه، وينشيء مقاومة مستقلة على غرار فلسطين ولبنان، مثلاً؟؟!!..
إلى أي مدى يسحق هنا، وعلى طول خط تركيبتنا، الستار القومي للاجتماعي؟!..
بل إلى أي مدى نضجت المعارضة، والقوى السياسية في وعيها، وبنيانها، عندما تضحي بما تعتبره حجر الزاوية، وخلاصة الخلاصات على مذبح وهم الاحتمالات؟، بل وعلى الحامل القومي الحقيقي بمعناه الأصيل وليس المغشوش، والتكتيكي، والمهروس حقيقة ومضموناً؟!!..
إذا كانت القوى السياسية مستعدة للانسياق، وإغماض الذهن عن كل الحقائق لمجرد التخمين، والسير في مظاهرات الاندفاع.. فهل نعتب على شعبنا إذا ما استطاع الحاكم خداعه بكم جملة مزوقة تغازل عواطفه، واحتقانه؟؟..
ـ هل نبقى أسارى هذا الاختلال؟.. أم يفترض بقوى المعارضة التي ترفع الديمقراطية عنواناً وطريق خلاص، إقامة علاقة متوازنة بين طرفي المعادلة لضمان التقدم، والخروج من نفق الغش، والتدليس!!!..
****
المشروع القومي، أو بالأدق: النهضوي، التحرري، العصري يحتاج اليوم إلى وقفة جديّة على ضوء المسار والنتائج، وباتجاه صياغات عقلانية، واقعية، متكاملة، تدمج القومي بالاجتماعي، بمهام المرحلة، خاصة موقع فلسطين ومستقبلها، وأفق الصراع العربي ـ الصهيوني، والاحتلال المباشر للأرض العربية، وأهمية الوحدة الترابية والمجتمعية، وتطوير العلاقات البينية العربية باتجاه توحيدي، مع الاعتراف بالمكونات القطرية، والتفاوتات بين الأقطار، بما في ذلك الفسيفساء الديني والمذهبي والإثني والعشائري، وكافة المفردات الواقعية، على قاعدة التطلع لبناء وطن المواطنين الأحرار، وليس العبيد، أو القطيع، أو الرعية، أو (أهل الذمة).
إن جدليات القومي ـ الاجتماعي وفقاً لرؤية صيرورية لتحولات المجتمعات العربية في عصر العولمة والتكتلات الكبرى، وفي مواجهة الفقر، والتخلف، والاختلال المريع في توزيع الدخل، وفي علاقة الحاكم بالشعب، والنخب بالأرض والحرية والاستقلالية، إنما تستدعي من قبل جميع القوى السياسية، والنخب العربية، ومكونات المجتمع وهيئاته الالتفات إلى ما هو رئيس: إنهاض المشروع العصري لهذه الأمة الذي يفسح المجال لتلك الجدليات أن تأخذ مداها لطبيعي في حاضنة الحوار، والعمل، والتفاعل، والتكامل، وبما يؤدي فعلاً إلى التوازن في المهام، وإلى بناء المواطن الحر، السيد، المرتبط بوطنه قناعة ومصلحة وانتماء، وليس قسراً، وخوفاً، أو من خلال الغرائز.
ـ النتيجة في واقعنا الراهن: أن الهارس (القومي، أو الوطني) هو مهروس فعلاً، ومسحوق، ومفرّغ، ومرمي مثله مثل كافة القضايا الأخرى، بينما الهارس الوحيد هو النظام الحاكم، راكب الأمواج والوطن والقضايا، وقاتل الحقوق والأماني..
__________
كاتب سوري – الجزائر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى