المعارضة السورية
عقاب يحيى
في مقال للأستاذ سلامة كيلة، في موقع إعلان دمشق، بعنوان: المعارضة السورية على ضوء المتغيرات الراهنة.. يتناول جملة من (عوامل أزمتها)، مبتدئاً بتوصيف عام لحالتها، فيقول: ((كانت تعيش تشوشاً عميقاً بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، حيث بدا أن كل ما كانت تقوله بات لا معنى له أو كان خاطئاً، أو كان صيغة من صيغ الأوهام. وبدلاً من أن تتريث، وتميل إلى التفكير العميق في أفكارها ورؤاها، سارعت قطاعات كبيرة منها إلى تبني” الموجة ” التي أطلقتها القوى الليبرالية العالمية، والقائمة على حتمية اللبرلة والديمقراطية.. وهنا جرى الانتقال لدى قطاع كبير من ماركسية ” متشددة ” ونصيّة إلى حد كبير إلى ليبرالية متشددة ونصّية إلى حد كبير، فأصبح الهدف هو الانتقال من ” الاستبداد إلى الديمقراطية ” وتقلّص النضال إلى نضال ” حقوقي “…))..
وقبل مناقشة جوهر الفكرة التي تناولها هنا، يجدر تسجيل بعض الملاحظات السريعة:
1 ـ رغم أهمية المقال، ومحاولته التعرّض إلى جوهر أزمة المعارضة (وهي أزمة تفتح الشهية للخوض فيها) فلم أعرف حقيقة من هي هذه المعارضة التي يقصدها الكاتب، وتخيّل لي أنها معارضة مفترضة، أو مرسومة في رأسه، وربما قصد بها مجازاً الحزب الشيوعي السوري قبل انشقاقه إلى أحزاب، أو بعض أحزابه، إلى جانب ” حزب العمل الشيوعي” مثلاً..
ذلك أن المعارضة السورية ليست طيفاً، أو اتجاهاً واحداً، ولم تكن جميعها، ولا حتى أغلبيتها ماركسية، أو ” متشددة”، أو ” نصّية ” ففيها الماركسي بتلوّن متعدد، والقومي بأنواع، واليساري، وفيها الإسلامي، على اختلاف المشارب، وشخصيات مستقلة من منابت واتجاهات شتى،إلى جانب تلك النخب الثقافية، الديمقراطية التي أغنت وأخصبت مسار تطور الأفكار، وذالك الحراك الديمقراطي، والذي دفعت فيه أثماناً بالغة في المعتقلات، والحجب، والمنع، والملاحقات.
2 ـ هذه المعارضة التي أنجز عدد هام منها (نهاية السبعينات) توقيع ميثاق الجبهة الوطنية الديمقراطية التي عرفت لاحقاً بـ((التجمع الوطني الديمقراطي، والتي تكوّنت من خمسة أحزاب: الحزب لشيوعي السوري (المكتب السياسي) ـ الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي ـ حزب البعث العربي الاشتراكي (23 شباط) ـ حزب العمال الاشتراكي ـ حزب الاشتراكيين العرب)، لم تكن كل أطرافها ماركسية أولاً، ناهيك عن محاولات تميّزها الماركسي (عند بعضها) ثانياً، والأهم من ذلك، ثالثاً، وتوضيحاً مخالفاً لما جاء في المقال المذكور لم تعش ” تشوشاً عميقاً بعد انهيار الاتحاد السوفييتي..” لسبب بسيط: أنها كانت قد طرحت الخيار الديمقراطي طريقاً، ونمط حياة وحكم، قبل ذلك الانهيار بمدة طويلة، ولم تكن على علاقة مباشرة معه، وكان بعضها يوجّه انتقادات عميقة لتلك التجربة، ولعل تلك الملاحظات تقع في أساس الخلاف داخل الحزب الشيوعي السوري الذي قاد إلى الانشقاق الكبير، وبلورة” المكتب السياسي” حالة خاصة حاولت التميّز في مسائل رئيسة.
3 ـ الأطراف المعارضة الأخرى التي لم تشارك في (التجمع) ليست جميعها ماركسية، بل ولا حتى أغلبها، فعدا (رابطة، ومن ثم حزب العمل الشيوعي) وبعض الفصائل الكردية، فإن الحركة الدينية ظلّت تمثل ثقلاً معتبراً في المعارضة، وبالتأكيد ليست ماركسية، ومثلها حزب البعث (القيادة القومية)، وعدد من التواجدات الناصرية، والقومية، والمستقلة، والليبرالية. ونعرف أن تلك الأطراف انضوت لسنوات فيما يعرف بـ”التحالف الوطني لتحرير سورية”، الذي تحوّل إلى “الجبهة الوطنية لإنقاذ سورية”، والذي لم يقترب من قريب أو بعيد من الماركسية.
4 ـ لا شك أن الموجة الديمقراطية القوية تسحب وتجرّ معها الكثير من التلاوين والأصناف. المؤمن بها والمقتنع عن وعي وتمثّل، وذلك الهارب من أزماته، وحالة الانسداد، وجموع المتأثرين بأمواجها ورياحها، بما في ذلك ردود الفعل على تركيبة النظام الفئوية، التوتارية، الشعبوية التي تغلق كافة المنافذ (حتى بحجم خرم إبرة)، وتسدّ الأفق بفيض من الشعارات القومية والاشتراكية والمقاومة، والمناطحة للإمبريالية، والصهيونية، مما يجعل من ردود الفعل تلك حالة مشروعة لإيجاد منفذ يخرق جدار الاستبداد، ومملكة الرعب المعمم.
لكن الحقيقة لم تقتصر على موجة غازية بقوة (اللبرلة الغربية) بقدر ما كانت مخرجاً استراتيجياً وصلت إليه عديد القوى بعد تجربة طويلة من المعاناة، والتعامل مع تلك الأنماط التي اعتمدتها، وتبيّن أن غيابها يمثل كلمة السر في ذلك الفوات المريع، وفي جملة التراجعات المولّدة لأنماط اختلاطية من استبداد شرقي مكين معجون بآخر منتجات النظم الفاشية، التوتارية، الأقلوية، وأيضاً وعي أسباب إخفاق تلك التجارب، وتهاوي المشروع النهضوي أنقاضاً نبتت على أشلائه نظم الارتداد.
وإذا ما تأثر الجميع بتلك الموجة، فإن وعي موقع الديمقراطية، واسترجاع الحياة النيابية التي تعتبر الفترة الذهبية في حراك الشعب السوري وقواه السياسية، وبحث إمكانية العودة إليها (بما يتوافق والمتغيّرات) سابقة لتلك الموجة، وما شهدته بلدان المنظومة الاشتراكية بأعوام مديدة، سنأتي عليها.
5 ـ ليس عيباً أن تتعلم القوى السياسية الديمقراطية، وأن تحوّلها إلى نمط حياة في علاقاتها الداخلية، والاعتراف بالأخر، وفي التداول السلمي على السلطة، ومنح الشعب حق المشاركة، باعتباره السيّد، والمرجع، والغاية، وتقرير البرامج، والاتجاهات في انتخابات نيابية متوازنة، تكون المدخل لبناء مجتمع مدني ديمقراطي يتساوى فيه جميع المواطنين(بغض النظر عن الجنس، والدين، والمذهب، والقومية) أمام القانون. أما الغوص في ماهيات العلاقة مع الليبرالية والعدالة الاجتماعية، وتحديد أي ديمقراطية نريد: توافقية، أو غيرها، فالأمر متروك لعديد التفاعلات والتطورات، كما أنه متنوّع وفقاً لرؤى كل فصيل، أو تيار، أو اتجاه.
عودة إلى الوراء..
تمهيد عام:
كتب الكثير عن (نمط الإنتاج الآسيوي) المختلف عن غيره، وعمّا عرفته أوربا، وعمّا أدّاه ذلك النمط من ركود، وتخثر وسائل وعلاقات الإنتاج بما لم يسمح بنهوض طبقة برجوازية تنجز ثورتها: القومية، الديمقراطية، وبالتالي: تراجع الشرق عن وتيرة التطور البشري.
وكتب أكثر عن (الإمبريالية) التي قطعت وشوّهت طريق التطور الطبيعي على تلك الأمم والمجتمعات التي غزتها بقوة السلاح والسلع وتطور الأفكار، وفرضت عليها منظوماتها الإنتاجية، الفكرية، الثقافية، مثلما فرضت التجزئة، واللعب بالنسيج الاجتماعي والمكونات، وتوليد قوى اجتماعية من رحم الإقطاع ومجتمعات القبيلة والنظام الريعي، الزراعي المختلط، بما يلائم الوظائف التي أنيطت بها من (المتروبول)، ونظم الاحتلال، وبما أدى إلى ذلك التشوّه، والعجز، والتداخل.
وفي المقابل فإن تلك الصدمة القوية الغازية بترسانتها المتقدمة، ليس في التسلح والتنظيم وإعداد الجيوش وحسب، بل في المنظومة المعرفية، والحقوقية، والإنتاجية، أحدثت صدمة مدوّية في البلدان التي سيطرت عليها. صدمة للسائد يدفع إلى فحصه ومعرفة الهوّة الكبيرة بينه وبين تلك (البضاعة) المحمولة مع المحتل، فتعاملت النخب معه باتجاهيين متناقضين:
ـ اتجاه المبهور، المتأثر، الذي حاول القيام بعملية غربلة للفصل بين حراب الغزاة ومصالحهم ومشروعاتهم، وبين معطيات الحضارة والتطور البشري، كحصيلة، وملك جماعي لبني الإنسان.
ـ واتجاه ردّ الفعل الرافض بالجملة لكل ما يحمله الأجنبي.
وطوال عقود كانت البرجوازيات المحلية الناشئة محط نقد عميق من قبل القوى البديلة، ومركزاً لإطلاق شتى أنواع التهم(التبعية، العمالة، العجز، الفشل..)، خاصة وأنها لم تستطع لجم الاندفاعات الانقلابية(بخلفياتها المتعددة)، أو إرساء نظام ديمقراطي مستقر، ومتوازن(رغم تقدمها الكبير في مجال الحريات الديمقراطية، والحياة النيابية)، وكان لعجزها عن النهوض بالثورة القومية(إنجاز الوحدة)، والفشل في صدّ الغزوة الصهيونية الاستيطانية، وتحرير بقية الأراضي العربية المحتلة، الدور، أو الأثر المباشر في صعود قوى اجتماعية أخرى تنتمي أغلبيتها للطبقة الوسطى والصغيرة، وعبر العسكر، على الأغلب، لوأد تلك المرحلة القصيرة والبدء بمرحلة أخرى أعدمت فيها الديمقراطية الاقتصادية والسياسية، وحتى الاجتماعية لحساب فلسفة جديدة، مستنسخة (وإن بشكل ممسوخ، وكاريكاتوري) من التجربة الاشتراكية وطليعتها الاتحاد السوفييتي، المرتكزة أساساً: على الشمولية، والحزب الواحد ـ القائد، وإلا على الزعيم الأوحد، والعسكر، والأجهزة الأمنية، وفق تلك الفلسفة الاختلاطية، والترقيعية أحياناً، عن حرق المراحل، وقسر الظرف الموضوعي، ودور الوعي، والعامل الذاتي، ومركزية الدولة القابضة على كل شيء، وإقامة ما يشبه رأسمالية الدولة، بنكهة استبدادية شرقية، ثم تحولها إلى نظم عائلية، مافيوزية، نهّابة، مفسدة وفاسدة، قمعية حتى العظم، ودموية حدود إقامة المجازر الجماعية، ومرتدّة مستوى رهن وبيع ثروات وقضايا الوطن والأمة، والمقايضة بكل شيء في سبيل بقائها وتحقيق مصالحها الخاصة.
وكما تحوّلت الإمبريالية إلى شماعة (بالحق، والمبالغة، وقصور الوعي، والفوات) لوضع مسؤوليات القصور، والهزائم، والإخفاق عليها، صارت البرجوازيات المحلية دريئة التصويب عليها من كل جانب، لملئها بثقوب الانتقاد، وتبرير نشوء، وفرض البدائل.. التي حملت مشروعاً نهضوياً، تحديثياً، أقرب إلى العلمانية، والحداثة(عاماً، وشعارياً، ورغبوياً).
لكن، تلك البدائل، وقد وصلت السلطة، عن طريق العسكر، غالباً، لم تستطع فعل الكثير في ذلك المشروع الذي ارتمى تحت أقدام الواقع، فداست قواه الجديدة عليه ومرّغته ببساطيرها القاسية، وأجهزتها الدموية مطلقة العنان، وكان الشعب هو الضحية الأولى، وكانت القضايا الوطنية والقومية هي المتضرر الأكبر، ومثلها الوحدة الوطنية، والنسيج الاجتماعي، وألف باء الحقوق الديمقراطية، وحق العمل، والحق في العيش بكرامة، وطمأنينة لا ترى كوابيس الهم والاعتقال الكيفي، والترعيب المنهج، وتدجين الشعب ليخرج عن مألوفه ويصبح خارج الزمان والمكان، وحتى الجغرافيا، شبه قطيع، شبه بشر.
******
إذاً: التوصّل إلى الديمقراطية: مخرجاً وحلاً لمجتمعاتنا المخنوقة بنظم الاستبداد الأقلوية، الفئوية لم يكن وليد انهيار الاتحاد السوفييتي، ووقوف البعض أمام الجدار. على العكس من ذلك فإن الطروحات الديمقراطية كانت تشقّ طريقها إلى الوعي، ورؤوس القوى السياسية، وبرامج عملها منذ مطلع السبعينات، حين كشّر النظام الأسدي عن جوهره: الاستبدادي، الدكتاتوري، الفئوي الأقلوي، الدموي، وقد (خيّب) آمال بعض الذين راهنوا عليه فشاركوه جبهته الصورية، التصفيقية، ثم اكتشفوا أنهم كانوا على خطأ فاتخذوا موقع المعارضة، وفي ذهنهم أن الديمقراطية هي المحتوى لأي نظام قادم يتم الوصول إليه عبر التغيير الجذري للأوضاع القائمة.
ويمكن القول أن جنينات هذا الوعي سابقة على السبعينيات عند بعض القوى والفعاليات والنخب المثقفة، إذ راحت تجوب عقول الكثيرين بعد هزيمة حزيران ونتائجها الكبيرة، حين تأكد للبعض أن غياب الديمقراطية، والمشاركة الشعبية في مقدمة أسباب تلك الهزيمة، وحين راحت بعض الفصائل والتيارات اليسارية (الماركسية والشيوعية) تحاول الإجابة على سؤال كبير: ألا يمكن أن تكون هناك اشتراكية بمحتوى ديمقراطي؟؟.. وهل الأوان عندنا، نحن البلدان النامية التي لا توجد فيها طبقة عاملة متطورة، وقوية، مناسباً لديكتاتورية البروليتاريا؟ أو حتى تلك الصيغة الاستبدالية: ديكتاتورية الديمقراطية الثورية؟؟..
ومما لا شكّ فيه أن الموجة الماركسية كانت جد قوية، ومتصاعدة بعد هزيمة حزيران بالتحديد، وأن معظم القوى والحالات التي اقتربت منها (إلى هذه المسافة أو تلك)، وطرحت تبنيها، أو أنجزت تلك الخطوة كانت مغالية في تشددها، ونصيّتها، وكانت تسابق الزمن والظروف والشروط الموضوعية لقسرها وتليينها بغية الدخول في متن الالتزام بها، ومحاولة تقليد أو استنساخ التجربة السوفييتية، دون أن ننسى تلك التكوينات الماركسية الأخرى المتأثرة بالغيفارية، والماوية، والمجالسية، والتروتسكية، وبتطورات وطروحات بعض الأحزاب الشيوعية، والاشتراكية الأوربية، وبعض المنظرين (المنشقين)، وغيرهم.
مع التأكيد، في الوقت ذاته، أن تلك المرحلة كانت تعرف مخاضات كبرى داخل عدد من الأحزاب الشيوعية التقليدية العربية باتجاه آخر: التصحيح، والتقويم، والتغيير.. وكانت الديمقراطية، والحياة الداخلية، ومفهوم الأممية وتجسيداتها، والمسألة القومية، وفلسطين، والوحدة العربية، والعلاقة مع الشعب في صلب عوامل ذلك المخاض الذي دشنه بقوة الحزب الشيوعي اللبناني، والذي وجد صداه في الحزب الشيوعي السوري، وأدى إلى ذلك الانشقاق الكبير.
******
علينا الاعتراف، هنا، أن المسالة الديمقراطية كانت في أولويات الحوارات بين القوى المعارضة منذ بداية السبعينات(قبل الدخول السوري إلى لبنان)، وأن الطرفين الحليفين اللذان كنا نحاورهما: (الحزب الشيوعي ـ المكتب السياسي، والاتحاد الاشتراكي الديمقراطي العربي) كانا يطرحان الديمقراطية شرطاً، وأساساً في أي تحالف، وميثاق جبهوي، ويؤكدان على أنها جوهر أي تغيير قادم، خاصة وقد أبانت التوقعات والمراهنات بعد الدخول السوري إلى لبنان، أنها خلّبية، وأن الجيش ممسوك من خناقه بحزمة قوية من أبناء العائلة، والطائفة، وأجهزة الأمن، وشبكة المصالح الكبرى التي تغوي كبار الضباط والقادة فيه، وأنه ما من خيار للتغيير سوى الطريق الديمقراطي، التراكمي.
وبغض النظر عن محتوى الديمقراطية، وعن التطور الذي عرفته تلك القوى في مفاهيمها ومداليلها (ولا زالت المسألة الديمقراطية بحاجة إلى التعلم، والتطور، والتطوير، وإلى تحديد ماهياتها) إلا أنهما لعبا دوراً مهماً في تفصيح وبلورة وتأسيس ذلك الشعار الذي بات صنواً، أو محتوى لأي عمل جبهوي قادم، حيث لم يخل منه أي ميثاق مقترح، مثلما كان جوهر الاتفاق الذي تمّ التوقيع عليه عند قيام الجبهة(التجمع).
دون أن نغفل هنا، أيضاً، موقف كل من (حزب العمال الثوري)، و(حزب الاشتراكيين العرب) من هذه المسألة، التي كانت في صلبها، وكان البعض(كالاشتراكيين العرب) يذهبون إلى مدى أبعد في تطبيقاتها، وفي عودة الحياة النيابية، واشتراطها أساس أي تغيير قادم، ناهيك عن بعض التجمعات الصغيرة (كجماعة البيطار)، والشخصيات المستقلة التي لم تكن ترى بديلاً عن الديمقراطية. وللمناسبة: كان ذلك قبل زمن طويل من ذكر، وإنبات اللبرلة القديمة والجديدة، أو أية مراهنات على الخارج، حين كان النظام موقع تقاطع المعسكرين، فيلعب على حبال التوازنات، ويستغل أهمية وموقع سورية، وما يحوشه من أوراق في مناقلاته، ومقايضاته.
وسنرى في الصيغ، أو المصطلحات المطروحة تلك الفترة هذا الجانب بوضوح. ففي ميثاق(التجمع) ارتكاز رئيس على الديمقراطية، وفي شعارات: التغيير الوطني الديمقراطي، والتغيير الجذري للأوضاع القائمة، وإقامة النظام الوطني الديمقراطي، ثم (النظام الديمقراطي) ما كان يعكس حركية التطور، ومستوى الوعي بموقع الديمقراطية. أما التطورات اللاحقة، وصعود الموجة الديمقراطية وكأنها القدر الحتمي، والمخرج الوحيد، وركوبها من قبل الجميع (حتى أعتى أنظمة الاستبداد)، فيجب فهمها في سياق التطورات الكونية من جهة، وعمق الأزمة في النظام العربي، والمعارضات العربية من جهة ثانية، واحتياج الغرب الإمبريالي إليها كجواز مرور، أو غطاء، أو وسيلة ضغط من جهة ثالثة.
ـ إن أزمة المعارضة والديمقراطية حديث يطول، لكن الجلي أن القوى الرئيسة فيها لم ترهن نفسها للخارج، ولم تراهن عليه، وإن تمنى بعضها مزيداً من الضغط الخارجي الذي قد يسهّل عملها، أو يفتح منافذ لعبور رياح الحرية والتغيير، طالما أنه يأبى الاستجابة لكل العروض(الطيّبة) التي قدّمتها المعارضة بعد حكاية التوريث، وذلك (التمسّك) بما جاء في (خطاب القسم)، وصولاً إلى الاصطدام بحائط الحقيقة. حقيقة تركيبة النظام وقوى استناده الداخلي، وحقيقة الضغوط الخارجية وسقفها، ومراميها، وبما يعزز، من جديد، وجديد، الاعتماد على الذات أولاً، وأساساً في معركة طويلة مليئة بالمصاعب والمتاعب.
ـ إن النضال الجماعي لبلورة مفاهيم متطورة للديمقراطية، مستمدّة من تجارب الجميع، ومن المعطى الإنساني في هذا المجال، إنما هو مطلوب، ومستمر، مهما اكتسى ذلك النضال من فترات ركود، أو ضمور، أو متاعب، لأنه يمثل خط الحياة، وحبل النجاة لشعبنا ووطننا.
ـ وأعتقد أن استخلاص دروس كل مرحلة، على قاعدة النقد الموضوعي للذات، والآخر، والأخطاء، سيمكن قوى المعارضة من هضم المتاعب والمصاعب الكثيرة التي تواجهها: موضوعية كانت أم ذاتية، وبما يلهمها إلى استنباط اشكال ووسائل توسيّع دائرة المشاركة الشعبية باتجاه دخول شعبنا في المعادلة كطرف رئيس.