صفحات ثقافية

الرواية الغائبة

null
عباس بيضون
سؤال الزميل نديم جرجورة عن غياب الفلسطيني عن سينما الحرب اللبنانية في التحقيق أعلاه مثير. لا انتصاراً للفلسطيني ولا إنصافاً كان السؤال، فقد يكون غياب الفلسطيني اشفى له وأرحم. لكن الفلسطيني كان طرفاً فاعلاً طوال الحرب اللبنانية، وعليه فإن نسيانه او تناسيه يجعل صورة هذه الحرب ناقصة لا بل يهدد بجعلها غير متوازنة ومختلة إن لم يزورها ويحيلها الى رواية بلا أساس، هل يمكن ان نتخيل الحرب اللبنانية في طورها الأول الذي انتهى بالاحتلال الإسرائيلي بدون ان يكون الفلسطيني في مركز الدائرة منها، وإذا غيبت صورة الفلسطيني فماذا يبقى من المسألة لها. الغريب ان الفلسطيني يغيب ايضاً عن رواية الحرب اللبنانية. إنه يحضر في روايات الياس خوري فقط. وبعدها قلّما نجد الفلسطيني في رواية الفلسطيني الذي كان دخوله المسلح بداية الحرب والذي كان مركز الثقل في التحالف اليساري الإسلامي، مركز التقاء الى درجة إن عرفات لم يمار بالقول إنه حكم بيروت او لبنان. الفلسطيني الذي كان بدون شك مركز الثقل العسكري بحيث ان أحد قادة هذه الحرب «جورج حاوي» خاطب ياسر عرفات بـ»يا قائدي». والفلسطيني في المسلخ الذي انسحب على السفن في سفر اوليسي، ولم تنته انشودة الانسحاب حتى كانت مجزرة صبرا وشاتيلا، ثم كانت حرب المخيمات التي نبتت على حزازات تأرثت من زمن. كل هذا التاريخ يمكن إسقاطه وإهماله وكأنه لم يكن ثم نزعم أننا نروي الحرب أو أننا نفكرها. لا تحتاج الأفلام الى الفلسطيني لأنها ليست تواريخ بالطبع وهي ليست وثائق شاملة ولا أرشيفات لنجد فيها كل شيء. لا تحتاج الروايات الى استحضار الفلسطيني ما دامت بنيت على أساس آخر وما دام مكانها وحيزها وبنيانها خارجه، لا تحتاج القصائد ولا الأناشيد ولا اللوحات ولا المسرحيات (نعم المسرحيات، ألسنا نلاحظ أن الفلسطيني غائب عن مسرح الحرب، فكروا مثلاً بـ فيلم أميركي طويل). لا نستطيع ان نقول لروائي ولا لمخرج ولا لمسرحي ولا لشاعر أن عمله ناقص او مختل لأن الفلسطيني غائب عنه، ما دام العمل انبنى وقام على هذا الغياب، مع ذلك فإن الإغفال العام يبدو مدوياً، لن أعود الى أجوبة المخرجين، من الواضح أن السؤال فاجأهم ودعاهم الى التفكير الآن في مسألة فاتتهم في حينه. أعذارهم صحيحة أم غير صحيحة هذا لا يهم ما داموا ليسوا بحاجة الى أعذار. الذي يحتاج الى مساءلة هو هذا التواطؤ الغريب على الإغفال، والتواطؤ اللاوعي طبعاً على النسيان والتغييب.
هل نستطيع رواية الحرب قبل أن نتفق على رواية، مثل هذا السؤال يستدعي في العادة جواباً سلبياً، في الحقيقة تمكن رواية الحرب في فيلم او رواية او مسرحية بدون الاتفاق على رواية، يمكن لكاتب أن يدخل في الزواريب وأن يتوغل فيها بدون الخوف من أن يطالب بموازنة واضحة، وبدون الخوف من أن يسأل عن المحاصصة المطلوبة في نص كهذا. ما دام الروائي لن يكون سياسياً ولا زعيماً ولا مناضلاً فليس مهماً أن يعكس التوازن الاجتماعي الدقيق، وليس مهماً أن يعكس الحرج العام، بوسعه ان يذهب الى التفاصيل بدون ان ينظر وراءه وأن لا يخشى كثيراً سوى الفهم او سوء التفاهم. لكن هذا في الواقع لم يحدث، او لم يحدث كثيراً على الأقل، لقد حذف الفلسطيني لأن توازن الرواية اقتضى ذلك. توازن الرواية اقتضى عملياً نمذجتها داخل «محاصصة» دقيقة، لكن الكتّاب ليسوا حاملي موازين بل كاسري موازين. مع ذلك المسألة ليست بهذه السهولة. لن تكون هناك رواية للحرب ما لم نتفق على رواية، قد لا يكون هذا صحيحاً، إذاً لن تكون هناك رواية ما دمنا في انتظار أن نتفق. هذا أصح. قد تستدعي مغامرات صغيرة خارج الاتفاق والحرج الجماعي من أن نفكر في رواية.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى