شقيقي السوري
علي الرز
شقيقي السوري كما يقول الاخوة في مصر “دماغه متكلفة”. ذكي، ظريف، متابع جيد للاحداث، قارىء نهم، يدقق بين السطور اكثر من تدقيقه في العناوين، منفتح على مختلف الاراء، ناجح ومتألق في حياته المهنية والاجتماعية، لطيف المعشر جميل الحضور…
عندما يتحدث عن سورية تخاله انكليزيا يتحدث عن بلاده بكل حرية وواقعية مستعينا بمدرسة الفكاهة السوداوية. يقول انه نشأ وترعرع على مقولة:”نحن نحدد زمان المعركة ومكانها” فيما كان شعار الآخرين:”لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”، ثم يستعير من احمد فؤاد نجم ابياتا من قصيدته:”هرشت مخي هيه فين المعركة يا همبكة…”، او يقول لك ان الاسرائيليين يحلقون فوق دمشق بل يقصفون الاراضي السورية ومع ذلك “وقت الحشرة لم يحن بعد، فنحن نحدد زمان المعركة ومكانها”، او يذهب بعيدا في تعليقه على شعار “ما اخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة” مشيرا الى ان الجولان اخذت بالتفاوض ولا سبيل لارجاعها سوى بالتفاوض.
ينتقد الشقيق النظام الاقتصادي ويعتبر ان لا وجود لنظام اقتصادي في سورية “فنحن اشتراكيون اذا اقتضت مصلحة جماعة النظام ذلك ورأسماليون اذا اقتضت المصلحة نفسها. الوكالات معروفة في يد من، والاستيراد والتصدير معروفان في يد من، والدولار ابو ثلاث اسعار معروف لخدمة من، واي مشروع لا يمر على فلان وفلان وفلان لن يجد طريقه الى النور. يفرح الناس عند كل قرار برفع الرواتب لكنهم يكتشفون سريعا ان الهبة الرسمية لهم اكلها بلحظات ارتفاع الاسعار… اما اموال النفط فتذهب الى موازنات لا نراها تتعلق بالاستعداد للمعركة التي نكرر اننا وحدنا من يحدد زمانها ومكانها”.
كل شيء في سورية مثار انتقاده. من طبيعة النظام واسلوبه الى المحيطين بالنظام وشهيتهم التي لا تعرف الشبع، مرورا حتى بطريقة انتحار بعض المسؤولين بثلاث او اربع رصاصات في الرأس…”كان الفاكس يحتاج الى اذن والدش يحتاج الى اذن والكمبيوتر يحتاج الى اذن وموافقة على توصيله بجهات الرقابة. وعن الحريات لا تسأل لانك اذا وقعت فقط على بيان سياسي مع مجموعة من الناشطين ستجد نفسك الى جوارهم في احد السجون بتهمة اثارة الطائفية واضعاف المجتمع والتآمر على الدولة وفتح الباب لجهات خارجية”.
وللانصاف، فان شقيقي السوري يتحدث ايضا عن اشياء يعتبرها ايجابية مثل تولي المحكمة التحقيق مع الموقوفين لا “القضاء الامني” كما كان يحصل من قبل، اضافة الى فتح المجالات اكثر للاستيراد، وتقدم الحراك الاجتماعي- الاقتصادي، وحصول بعض الحملات الناجحة على الفساد.
لكن الملفت والغريب والمثير للتساؤل هو موقف شقيقي السوري من الموضوع اللبناني اذا اثير خصوصا بعد تداعيات استشهاد الرئيس رفيق الحريري. هنا يصبح الشقيق اكثر بعثية من البعثيين انفسهم بل اكثر خشونة من رجال النظام الامني انفسهم، اذ يبدأ باستخدام تعابير مثل:”ولماذا لا تقام محكمة دولية لاسرائيل وهل الحريري اهم من الآلاف الذين قتلتهم اسرائيل؟”، متشابها من دون قصد ببعثيي صدام حسين حين احتلوا الكويت وقالوا:”ولماذا يسكت عن احتلال اسرائيل لفلسطين ويحكى فقط عن دخولنا الى الكويت؟”. او يقول ان اللبنانيين الذين هتفوا ضد سورية بعد استشهاد الحريري “نسوا ما قدمته سورية لهم من تضحيات على مدى عقود” متناسيا بالطبع ان رد فعل غاضب عبر عن نفسه بهتاف لا يمكن ان يقارن بجريمة اغتيال ومتجاهلا ايضا ممارسات النظام السوري في لبنان على مدى عقود. او يشير الى الاعتداءات المخجلة التي يندى لها فعلا الجبين ضد عمال سوريين كانوا في لبنان وهي محط شجب واستنكار وملاحقة امنية من السلطات اللبنانية وغالبية اللبنانيين، رافضا ان يستمع بالتفصيل الى الشرح الذي قدمته السلطات عن كل جريمة ومن هو المتورط بها، فثلاثة من ثمانية مثلا قتلهم سوريون وبعضهم اقرباء بهدف السرقة او تصفية حسابات… ومع ذلك نقول ان اليد التي امتدت الى عامل بريء يجب ان تحاسب، وشقيقي على حق في انتقاده لهذا الموضوع تحديدا.
ولا شك في ان النظام السوري نجح في اللعب على وتر الوطنية السورية بعد استشهاد الحريري واستطاع ان يفصل بين مسار انتقاد السوريين للنظام بسبب جملة التراكمات الداخلية وبين مسار الالتفاف حوله بسبب الشعور بان “بعض اللبنانيين” تمردوا و”كبر راسهم” و”تنكروا لجميل سورية” بل عملوا على تحويل ارضهم ومواقفهم الى منصة انطلاق اميركية لتغيير نظامهم… وهذا امر لا يسمح به السوريون الذين استفزت وطنيتهم، اضافة الى تمعنهم قليلا بالفوضى التي حصلت الى الشرق منهم بعد التغيير الاميركي لنظام صدام حسين، خصوصا اذا كان من غير المسموح لهم ان يتمعنوا بدقة في الدور السوري – الايراني في تعميق هذه الفوضى.
ولكن اذا تمعنا قليلا في هذه المفارقات نجد ان جذورها ابعد من تداعيات استشهاد الحريري، فهناك جملة اخطاء تراكمت بين البلدين على مدى عقود ادت الى واقع تنافري لا يمكن لشعارات “سوا ربينا” ان تغطيها. سواء تعلق الامر بالتعبئة التي تلقاها جزء من اللبنانيين بوسائل مختلفة ضد سورية (مناهج خاصة، نزعات عنصرية، برامج حزبية منغلقة، مغامرات غير محسوبة النتائج، حروب مباشرة وبالواسطة، حروب تحرير وما رافقها من خطاب شوفيني) او التعبئة التي تلقاها السوريون بوسائل مختلفة ضد لبنان (الفرع والاصل، ابناء الاستعمار الفرنسي، الخاصرة الامنية الرخوة، ممر المؤامرات او موطن المعارضين، منتقصو العروبة، مقر لكل استخبارات العالم) اضافة الى ضرورة عدم تجاهل الفوارق الاقتصادية والسياسية التي ادت الى تدفق الاستثمارات واموال البترودولار على لبنان قبل عقود فيما طبيعة النظام السوري كانت شبيهة بالانظمة الشيوعية والاشتراكية التي تحكم بالامن وتعيش على توجيه الحزب لكل القطاعات.
هذه الاخطاء تراكمت اكثر مع الدخول السوري الى لبنان، فبدل التحالف “الحميد” بين الشعبين حصل “التحالف الخبيث” بين النظامين. سيطر الجهاز الامني على مقدرات الحياة وصارت الطبقة السياسية اللبنانية (رؤساء وحكومات ونواب ومسؤولون ورؤساء بلديات وصولا الى البوابين) تتكون في ريف دمشق وعنجر، وصار التعاون مصدره الافادة المصلحية المباشرة لهذا الضابط او ذاك المسؤول، واذا حصل اعتراض حصلت ازمة يضطر معها الجميع الى التنازل حرصا على مواقعهم… ومشاريعهم.
هل تم بناء مستشفى مشترك بمواصفات عالمية خصوصا بعدما اجرى وزير الخارجية السوري سابقا نائب الرئيس حاليا فاروق الشرع عملية قلبه المفتوح في الجامعة الاميركية في بيروت؟ هو كان قادرا ولكن هل جميع السوريين قادرون؟ هل تم بناء جامعة واحدة مشتركة بمواصفات عالمية؟ هل تم انشاء منظومة مصرفية مشتركة تستقطب الاستثمارات وتوظفها ام ان شيكات بنك المدينة كانت تكفي؟ وبالمناسبة هل اجرت السلطات السورية تحقيقا مع الضابط رستم غزالة التي ظهرت شيكات بنك المدينة باسمه على شاشات التلفزة بعشرات ملايين الدولارات؟ ام ان التحقيق يقتصر على كتاب واعلاميين وناشطين حقوقيين شرفاء فقراء وقعوا بيانا يهاجمون فيه اميركا واسرائيل ويدعون الى معرفة حقيقة اغتيال الحريري وفتح سفارة في لبنان؟
هل وظفت المشاريع المشتركة آلاف السوريين واللبنانيين؟ مشاريع زراعية وصناعية وتكنولوجية؟ ام تركت حركة العمالة في اتجاه واحد ومن دون ضوابط؟ ولماذا لم تحصل تغييرات ادارية وقانونية لمواكبة المستجدات التنموية كما حصل في اعتى الانظمة الاشتراكية؟ ام ان سيادة التخلف الاداري والقانوني الراهن موضوع سياسي بامتياز؟
رحم الله الشهيد رفيق الحريري الذي راهن على تغيير اقتصادي في سورية يقابله تطور في السياسة وفي العلاقات السياسية. كان يريد فعلا الاستقلال مع سورية لا عن سورية وهو وظف كل قدراته وعلاقاته الدولية من اجل ذلك، ولا بأس من ذكر زيارة الرئيس جاك شيراك لدمشق وما تلاها من زيارات لعشرات القانونيين والاداريين الفرنسيين لتطوير النظامين القانوني والاداري في سورية قبل ان تأكل شهوة السياسة والنكايات والحسابات الضيقة كل دراسات هؤلاء، ولا بأس من ذكر ما قاله الرئيس الشهيد في مجلس خاص من انه قدم للقيادة السورية رؤية حول كيفية عمل وزراء المال والاقتصاد والعدل والصناعة والتجارة والزراعة كفريق واحد بهوية تنموية واحدة مع بنك اهداف يشمل كل القطاعات المنتجة في سورية، ولا بأس من ذكر احد الاجوبة التي تلقاها رحمه الله:”بدل ما تصرف وقتك وجهدك هون، يا ريت تظبط العلاقة مع الرئيس لحود، اقرب وافيد”… مرة اخرى، اكلت شهوة السياسة والنكايات والحسابات الضيقة اقتراحات التطوير.
ويا شقيقي السوري. اقول لك ان الاشتباه في ضباط لبنانيين في قضية اغتيال الرئيس الشهيد، وهم بالمناسبة من مختلف الطوائف، لم ينتقص من وطنيتي اللبنانية ولا من عروبتي، واقول لك ان انتقاد القيادة الامنية اللبنانية وعلى رأسها رئيس البلاد القادم من خلفية عسكرية الجنرال اميل لحود لم يشعرني يوما باني على النقيض من انتمائي، ففي كل مجتمع اشرار واخيار وكون الآراء والمواقع السياسية مختلفة لا يلغي هذه الحقيقة. اما انت فقد سمعت من القيادة السورية كما سمعنا بان “براءتنا مطلقة”، ورأيت كما رأينا عدد الضباط الذين انتحروا او قتلوا، واستغربت كما استغربنا عدم حصول تحقيق سوري جدي مع اعضاء القيادة الامنية التي كانت حاكمة في لبنان لمعرفة “التقصير” في افضل الاحوال او “التواطؤ والمشاركة” في اسوئها. مرة ثالثة ورابعة وخامسة تذهب العدالة ضحية شهوة السياسة والنكايات والحسابات الضيقة.
الجغرافيا لن تتغير يا شقيقي السوري، والارض لن تتغير، والتاريخ لن يتغير، لكن المستقبل يمكن ان يتغير اذا تغيرنا، وصدقني صدقني بعيدا عن اي موقف سياسي او مزايدة او شعار خرج بتظاهرة او اي سلوك سابق اعتبرته خطأ، فان معرفة الحقيقة في اغتيال الشهيد رفيق الحريري ورفاقه وغيرهم من السياسيين والاعلاميين، وانهاء العلاقة المتجذرة المستأصلة بين اجهزة الامن وحياة الناس السياسية والاجتماعية والاقتصادية، واطلاق الحريات وخلو المعتقلات السورية من اي سجين رأي، وتطوير النظام السياسي والحياة العامة بمختلف مجالاتها وتحديدا التنموية، كلها امور تصب في صلب مصلحتك كسوري اولا، وفي صلب العلاقات اللبنانية السورية التي تريدها الاجيال المقبلة على قواعد الاحترام والسيادة والاستقلال والتعاون الاقتصادي والشراكة التنموية.
لن انتظر ردك لاني اعرف ما ستقول، ولاني اعرف اكثر ان تجربة عمرها اكثر من خمسة عقود لا يغيرها… مقال.
الرأي العام