صفحات سوريةهوشنك أوسي

قطار الانتخابات الشرق أوسطيَّة، لا يمرّ بسورية

null
هوشنك أوسي ()
سال حبرٌ شرق أوسطي غزير، حيال عمليات البحث والتحليل والتنقيب في دلالات الانتخابات الأميركيَّة، وتأثير نتائج هذه الانتخابات على المنطقة، ومصائر شعوبها. ففاض منسوب التكهُّنات والاحتمالات الممكنة والخيارات المتاحة بهذا الصدد. وبدت شعوب الشرق الأوسط، وحكَّامها ونخبها، يتأمَّلون أنفسهم في مرايا الآخر، الأميركي، وكيف يعيد هذا، إنتاج هيكلة دولته، كلّ أربعة أعوام. وفي الوقت عينه، يصوغ هذا الآخر، مناخاتنا وأمزجتنا، ويحدد خياراتنا، نحن الشرق أوسطيون، والتي من المفترض، أن نصوغها نحن في انتخاباتنا، الرئاسيَّة والبرلمانيِّة والمحليَّة. لكن، هل لدينا انتخابات؟ وما هو ثقلها في تنشيط وتحفيز الحراك المجتمعي الساعي لإنتاج الدولة، ضمن فضاءات الاختلاف والتنوّع والتعدديَّة. وللإجابة على هذا السؤال، ينبغي ألا َّ يُخامرنا أدنى شكّ، في أنَّه، لو كنَّا شعوباً، كلِّيي الإرادة، ونركن إلى مجتمعات حرَّة، بكلّ ما تنطوي عليه هذه العبارة من معنى وطاقة، لكان منسوب انبهارنا باللعبة الانتخابيَّة في بلاد “العم سام” أقلّ، ولكان شأننا شأن الألمان أو الطليان أو البريطانيين…، غير منجذبين بهذا القدر، الذي نحن عليه، لمتابعة الانتخابات الأميركيَّة. إذ لم تكن تفرق كثيراً مع تلك الشعوب الأوروبيَّة، إنْ كان الفائز فيها؛ ماكين أو أوباما، طالما ينتجون دولهم وحكَّامها في انتخاباتهم الخاصَّة، والتي لا تقلّ نزاهة عن الانتخابات الأميركيَّة.
ولمحاسن الصدف ما أن أنهى الأميركيون العام الفائت بانتخابات الرئاسة، وغيّروا طاقم إدارتهم، حتَّى فاتح العراقيون مطالع هذا العام، بانتخابات محلّيَّة، كان الخاسر الأكبر فيها، هم دعاة الفيدراليَّة، وفي مقدِّمهم الأكراد. هذه الانتكاسة المهمة، والخطيرة، التي يكابر أكراد العراق في الاعتراف بها، عززت مواقع المالكي، عراقيَّاً وإقليميَّاً وأوروبيّاً، وستزيد من ارتفاع صوت المالكي تجاه الأكراد، وستزيد صلابة يده، التي هي في الوقت عينه، يد محور أنقرة ـ دمشق ـ طهران، المناهض للفيدراليَّة. والحقُّ أن المالكي مدين، في جزء مهم من انتصاره، للأكراد. فهؤلاء كانوا منهمكين في إرضاء تركيا وإيران، أيَّاً كانت الأثمان ومتهاونين في مكافحة الفساد بالاضافة الى الانشقاقات والاختلافات العاصفة بالاتحاد الوطني الكردستاني، والتي سيكون لها بالغ الأثر في انخفاض شعبية الاتحاد الوطني.
بقعة شرق أوسطيَّة أخرى، شهدت انتخابات نيابيَّة، هي إسرائيل. وأفرزت صعود التيارات اليمينيَّة، وجزء من الفضل في ذلك، تعود لـ”عبقريَّة” حركة “حماس”، وسياساتها الحكيمة والشجاعة، التي طحنت غزَّة، وعززت مواقع المتطرِّفين في تل أبيب. هذه الانتخابات أيضاً، ستلقي بظلالها الكئيبة على الراهن الشرق أوسطي، الكئيب أصلاً، والذي ما زالت نُذُر الحروب تلوح في أفقه. ومن غير المعروف بعد، كيف ستتعاطى الحكومة المرتقبة في إسرائيل مع مفاوضات السلام، مع الفلسطينيين من جهة، ومع السوريين من جهة أخرى.
لبنان، هذا البلد الصغير، والهشّ، هو أيضاً مُقبل على انتخابات برلمانيَّة، ستكون أجواؤها لاهبة إعلاميَّاً، وملتهبة سياسيَّاً. وستكون كلّ الذخائر، الدينيَّة والطائفيَّة والمذهبيَّة حاضرة فيها بقوّة. وسيكون صراع مشاريع إقليميَّة، الذي ظاهره صراع شوارع سياسيَّة محليَّة. الأقليَّة النيابيَّة (“المعارضة”، ولا أعلم؛ لماذا يُطلق عليها اسم معارضة، طالما هي مشاركة في الحكومة!؟)، ستسعى بكلّ ما أوتيت من قوّة ومن رباط الخيلِ والليلِ المذهبي والطائفي، لأن تعيد خيار المحور السوري ـ الإيراني للواجهة. بعد تعرّض هذا المحور لانتكاسات وتقهقر كبيرة، عقب اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق، رفيق الحريري. وبخاصَّة، بعد أن انطلقت المحاكمة ذات الطابع الدولي، في كلّ الجرائم الإرهابيَّة، التي طالت قادة وساسة ومثقفين لبنانيين، وفي مقدِّمهم؛ رفيق الحريري، ودخول هذه المحكمة، مرحلة اللاعودة. لذا، نتائج الانتخابات اللبنانيَّة، ستكون مصيريَّة للمحافظين في طهران أيضاً، أثناء خوضهم للانتخابات الرئاسيَّة، ضدَّ الإصلاحيين. كما أن نتائج هذه الانتخابات، ستكون مصيريَّة، بالنسبة للنظام السوري، كي يرسل بعض الرسائل القويَّة للدول الفاعلة، علَّها تربك مسار المحكمة الدوليَّة ـ اللبنانيَّة المذكورة. وعليه، ستتعاطى “الأقليَّة الحاكمة” في لبنان، مع هذه الانتخابات، بنفسيَّة الليث الجريح، الذي فقد هيبته، بغية استردادها. أمَّا “الأكثريَّة الحاكمة”، فستعتبرها مصيريَّة، لأنها لو خسرتها، ينبغي عليها تحضير نفسها لدفع فاتورة كلّ ما فعلته وقالته بحقّ المحور السوري ـ الإيراني وأدواته اللبنانيَّة. إذاً، الخسارة، هي أولى بشائر القصاص الذي ينتظرها. وستسعى لتفاديه، أيَّاً كانت الأكلاف. وعليه، ستكون انتخابات “تكسير رؤوس” كما يحلو للبعض، ترديد هذه العبارة.
في تركيا، سيكون الحزب الحاكم، على موعد مع انتخابات محليَّة، نهاية آذار المقبل. وكلّ المؤشِّرات تفضي إلى تراجع شعبيَّة أردوغان، بخاصَّة في المناطق الكرديَّة بعد مضيّه في خيار الحسم العسكري ضدّ حزب العمال الكردستاني، نزولاً عند رغبة العسكر. كما أن شعبيَّة أردوغان، انخفضت في الأوساط التركيَّة أيضاً، فانشقَّ عنه نائبه في قيادة الحزب، مير محمد دنغير فرات، وانفرطت العديد من هيئات حزبه، وازدادت الاتهامات لبعض رموز حزبه ، في قضايا تتعلّق بالفساد. لذا، أتته محنة غزَّة، على طبق من ذهب، كي يحاول استرداد البعض من شعبيته، التي ذهبت لحزب السعادة الإسلامي، الذي يرأسه رجائي كوطان، ويدعمه شيخ الإسلام السياسي التركي نجم الدين أربكان. هذه الانتخابات، هي مصيريَّة بالنسبة لحزب المجتمع الديمقراطي الكردي أيضاً. إذ ستكون فرصة للعمال الكردستاني، لإثبات شعبيته، التي قيل انها تراجعت، بعد أن نال حزب العدالة والتنمية أصوات قسم كبير من أكراد تركيا. وبغية إفشال مساعي الكردستاني، كتب أحد الصحافيين العلمانيين الأتاتوركيين في صحيفة “حرييت” العلمانيَّة، ما ما معناه: “في الانتخابات البلديَّة، ينبغي أن نكون كلّنا أردوغانيون، ومنتسبون لحزبه، كي نسد الطريق أمام الإرهابيين”. ولعلّ هذا هو خيار الجيش أيضاً، في دعم حزب العدالة والتنمية، في الانتخابات المحليَّة القادمة. ومنذ منتصف شهر شباط وأردوغان يستخدم مؤسسات الدولة، لدعاية حزبه الانتخابيَّة، كما يعاضده في حملته الانتخابيَّة، قوة البوليس والجيش ومدراء الأمن في المناطق الكرديَّة.
إيران أيضاً، لها موعد مع الانتخابات الرئاسيَّة، كما أسلفنا. وقد دخلها الرئيس السابق محمد خاتمي ضدَّ أحمدي نجاد. وهنا ايضاً، لن يكون المرشد الأعلى، والجيش والحرس الثوري حياديين. حتّى لو فاز خاتمي، فلن يغيّر هذا الكثير الكثير في إيران، لجهة تبييض سجلّها في ميدان حقوق الإنسان، والسير بإيران نحو الدمقرطة والانفتاح…الخ. لكن، في أسوأ الأحوال، خاتمي هو خاتمي ونجاد هو نجاد. وبالتأكيد، سيكون لنتائج هذه الانتخابات تأثيرها على العلاقة مع الغرب، وبخاصَّة مع أميركا، وتحديداً فيما يتعلَّق بالملفّ النووي. والحاصل، إيران خاتمي لن تكون نقيض إيران نجاد. ونظراً لسوء نجاد، بات العالم، يجد في خاتمي الخيار الأنجع رغم أن هذا لن يكون “الابن العاق” للخمينيَّة وثورتها وولاية فقيهها.
تبقى سورية، التي فيها نتائج الانتخابات الرئاسيَّة والبرلمانيَّة والمحليَّة، محسومة منذ خريف 1970، ولعقود قادمة من الزمن أيضاً. فلا حاجة لهذا البلد، بالانتخابات الرئاسيَّة والبرلمانيَّة والمحليَّة ودوشتها وضجيجها وعجيجها. سورية تأنف وتنأى بنفسها عن الخوض في هكذا فذلكات وخزعبلات وترّهات فارغة، تأتي بالهمِّ والغمَّ، وتُذهِب “الطمأنينة والسَّكينة” عن قلوب السوريين الآمنين. فما الذي يجبر حاضرة بني أميَّة على “جلب الدبّ لكرومها”، وتفتح أعين السوريين على شيء صناديق اقتراع، التي تفضي إلى إنتاج حياة سياسيَّة تداوليَّة تشاركيَّة تعاقبيَّة. ففي “الديمقراطيَّة” السوريَّة، تم تجاوز، “عقدة” السلطة والمعارضة. لسورية “ديمقراطيتها الخاصّة بها”، كما لا يأنف المسؤولون السوريون، ترديد هذه العبارة السمجة. ديمقراطيَّة، ماركة سوريَّة، مشهود لها في العالم. ولذا، فسوريّة ليست عصيَّة على استيراد ديمقراطيَّة من الخارج وحسب، بل تطلب الآن مستوردين، يمكنهم تصدير هذه السلعة الحديديَّة للخارج. بالنتيجة، لن يمرّ قطار الانتخابات بسورية لأن الأخيرة هي الحصن الحصين، وقلعة الصمود والتصدّي أمام أيّ منتوج سياسي أجنبي، لكونها ترجِّح المنتوج الوطني القومي في الحكم، حتّى لو كان غاية في الفساد والاستبداد.

() كاتب كردي مقيم في بيروت
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى