تركة بوش الثقيلة ترهق اوباما… وامريكا تتجه للعزلة
د. سعيد الشهابي
قضى الرئيس باراك اوباما حتى الآن سبعة اسابيع في منصبه وما تزال سياسته الخارجية غير واضحة المعالم، وان كانت ثمة مؤشرات طفيفة لتوجهاته العامة. ثلاثة عوامل اساسية سوف تحكم هذه التوجهات: اولها الوضع الاقتصادي الامريكي والدولي، وثانيها: الحقائق السياسية في المناطق ‘الساخنة’ في العالم، وفي مقدمتها روسيا، ثم الشرق الاوسط (ايران والعراق ولبنان وفلسطين وتركيا والسودان على وجه الخصوص)، وثالثها المنحى التاريخي العام الذي يحكم مسارات القوى الكبرى والامبراطوريات. والواضح ان اوباما ورث نظاما سياسيا واقتصاديا لا تكفي كلمة ‘الاضطراب’ لوصفه، فهو ‘متأزم’ و’كارثي’ و’متفجر’.
بل ان الرئيس اوباما لم يخف امتعاضه من سياسات سلفه الذي جعله ‘يرث اقتصادا مثقلا بالديون’ حسب قوله. وهذه ليست اوصافا مبالغا فيها، بل تعكسها التصريحات الامريكية الرسمية من جهة، والقرارات الصعبة، برغم قلتها، التي اتخذها اوباما نفسه ومنها قرار ضخ 3000 مليار دولار في الاقتصاد الامريكي المتداعي. يضاف الى ذلك قرارات اخرى تساهم في تقليل الانفاق منها: الانسحاب الكامل من العراق، وغلق سجن غوانتنامو، ومحاكمة نزلائه امام محاكم امريكية. وربما الاهم من ذلك شعور واشنطن انها لم تعد قادرة على توجيه الامور خارج حدودها وفق رؤى فريق ‘المحافظين الجدد’ ومنطلقاتهم، وان أخطاء الماضي القريب لن تمر بدون ان تدفع الولايات المتحدة ثمنها غاليا اقتصاديا وسياسيا.
وليس بعيدا عن الواقع القول بان امريكا بدأت مشوارها وفق سياسات تؤدي بها تدريجيا الى التوجه نحو الداخل، وتقليل التفاعل مع العالم، وهو طريق سوف يوصلها الى العزلة. وثمة من يعتقد ان هذه العزلة أفضل لأمريكا من سياسات الهيمنة والاحتراب والمواجهة مع الآخرين، وهي سياسات اوصلتها الى ما هي عليه الآن من اضطراب نفسي وتشوش في الرؤى والسياسات والمواقف. ومع ان الرئيس اوباما لم يطلق علنا تصريحات مباشرة ضد الرئيس السابق وفريق العمل الذي تحالف معه، ولكن العديد من التصريحات يوحي بامتعاضه من سياسات سلفه، وتؤكد احساسه بانه ورث تركة ثقيلة لن يكون امرا يسيرا عليه حملها بأمانة ونجاح.
ملامح العهد الامريكي الجديد بدأت بسقوط جورج بوش وحزبه وفريق عمله، وكان ذلك السقوط مروعا، عكس مشاعر الغضب لدى الشعب الامريكي الذي شعر للمرة الاولى ان الشعارات التي تشبثت بها ادارة بوش كانت استعدائية للآخرين، وغير مفيدة للامريكيين، وان اثارة مشاعر الاستعلاء قد توفر ضوضاء اعلامية ولكنها تخلق ارضية للمزيد من الاضطراب والتشوش وتؤسس لروح العدوان وسياسات الصراع. كان ذلك واضحا من الاجواء التي صاحبت زيارة رئيس الوزراء البريطاني لواشنطن الاسبوع الماضي. فقد وصفت بانها ‘زيارة سلام’ تختلف جذريا عن الزيارات المتبادلة بين لندن وواشنطن سابقا، التي كانت ‘زيارات حرب’ في اغلبها. ولم يخف غوردون براون شعوره بالقلق من اجواء التوتر التي خيمت على العالم خلال رئاسة بوش، كان واضحا في ذلك عندما دعا الولايات المتحدة بقيادة اوباما لـ ‘قيادة العالم’ في معركته الهادفة لكسر حلقة الدوران الاقتصادية. انها حلقة بدأت من امريكا وشملت العالم، واصبحت تهدد النظام الاقتصادي الرأسمالي بشكل غير مسبوق. وليس خافيا ان الهيمنة الغربية قامت على اساس التفوق الاقتصادي الناجم عن التطور التكنولوجي والعلمي، وان هذه الهيمنة بدأت تضعف تدريجيا بعد ان ظهرت مراكز قوى اخرى بعيدة عن الفلك الغربي. ومهما قيل عن اسباب التداعي الاقتصادي فانه مرتبط بدون شك بسياسات العسكرة والحرب والانفاق الهائل على آلة الموت بدون حساب. وثمة من يعتقد ان الازمة المالية الحالية أعمق من أزمة ‘الكساد الكبير’ الذي حدث في امريكا في فترة ما بعد الحربين، وان الحرب العالمية الثانية كانت السبب الاساسي لسقوط الامبراطورية البريطانية. لقد تورطت امريكا وبريطانيا في حروب لم تتوقف في العشرين عاما الماضية، وكانت تعتقد انها ستكون بمأمن من التداعيات الاقتصادية لتلك الحروب، وان ما اصاب الاتحاد السوفييتي بعد غزو افغانستان لن يصيبها.
لم يرشح الكثير عن تفصيلات استراتيجية اوباما، وربما تتضح اكثر بعد زيارته الاوروبية الاولى في مطلع الشهر القادم لحضور قمة مجموعة الـ 20 التي يسبقها اجتماع خاص حول افغانستان. التمهيد لاول جولة اوروبية للرئيس اوباما بدأ بزيارة وزيرة الخارجية، هيلاري كلينتون، لمقر الناتو في بروكسل. وخلال الزيارة اطلقت تصريحات تكشف بعض جوانب السياسة الامريكية الجديدة، وهي ملامح لتغير كبير في المواقف، يعكس قدرا من الواقعية من جهة، ومراجعة النفس من جهة اخرى، وتجديد للخطاب السياسي الامريكي تجاه العالم ثالثا. وربما أدرك الرئيس الامريكي بعض الاجابات على التساؤلات التي طالما طرحها الساسة في واشنطن: لماذا يكرهنا العالم؟ طرحت كلينتون خلال زيارتها الاوروبية عددا من الامور: اولها ضرورة اعادة مد الجسور مع روسيا ومنع بدء حرب باردة جديدة مع موسكو، وثانيها: دعوة ايران لحضور مؤتمر افغانستان المذكور، تطبيقا للوعد الذي قدمه اوباما في خطابه الرئاسي يوم التنصيب بـ ‘مد اليد’ للقوى المناوئة. وربما ادرك الاوروبيون ايضا ضرورة مد الجسور مع القوى التي كانوا يعتبرونها ‘ارهابية’ مثل حزب الله ومنظمة حماس. ومع ان واشنطن لم تطرح بعد موقفا محددا تجاه حماس، ولكن بريطانيا اعلنت انها ‘ تبحث امكانية فتح اتصالات مع (حزب الله) اللبناني’ وهي خطوة تعاكس السياسة الخارجية البريطانية السابقة. وقال متحدث باسم رئاسة الوزراء البريطانية ان هذا التحرك ‘ يعكس تحسن المناخ السياسي في لبنان مع تشكيل حكومة وحدة وطنية من ضمنها حزب الله’ مشيرا الى ان الحكومة البريطانية اخذت موقفها في ضوء مزيد من التطورات السياسية الايجابية في لبنان. واضاف ‘نبحث الاتصالات على المستوى الرسمي مع الجناح السياسي لحزب الله. وكان وزير الدولة البريطاني للشؤون الخارجية بيل رامل قد قال للجنة الشؤون الخارجية لمجلس العموم البريطاني ان ‘ الهدف المهم هو الضغط على حزب الله ليلعب دورا بناء اكثر سياسيا ويبتعد عن العنف’. ومن المؤكد ان هذا الموقف الامريكي لا يحظى باستحسان من قبل الحكومات العربية التي اصبحت اكثر قلقا ازاء هذه التصريحات، وتعتبرها ‘مكافأة’ لمن تعتبرهم ‘متشددين’. فمصر والسعودية على وجه الخصوص اصبحتا واضحتين في مواقفهما المعادي للمقاومة اللبنانية والفلسطينية ضد الاحتلال، وسوف تشعران بخذلان الموقفين الامريكي والبريطاني. يضاف الى ذلك توجه ادارة اوباما للتحاور مع من اسمتهم ‘المعتدلين’ من صفوف حركة طالبان، بعد اعلان واشنطن انها لن تستطيع كسب الحرب في افغانستان بالحرب وحدها. وهذا موقف سوف يخلق اضطرابا وتشوشا في المواقف، خصوصا انه يعكس اعترافا امريكيا بان من يصمد امامهم لن يهزم ابدا.
ان من الضروري امعان القراءة في العوامل التي ذكرت لتفسير التغيرات الحالية والمحتملة في السياسة الخارجية لواشنطن. فالبعد الاقتصادي يعتبر واحدا من اهم عوامل التغير في النفسية الامريكية. فما تواجهه الولايات المتحدة من انهيار اقتصادي غير مسبوق في تاريخها المعاصر، وستكون له عواقب وخيمة على الوضع الامريكي برمته. فهو يفوق في حجمه ومداه وتبعاته الكساد الاقتصادي الذي بدأ في 1929. ووفقا للمطلعين فان الاوضاع الحالية ليست حالة طارئة ستزول قريبا، بل ظاهرة خطيرة تعكس هشاشة النظام الرأسمالي وعلى رأسه النظام المصرفي الذي لم يستطع النهوض منذ انتكاسته برغم ضخ مئات المليارات من الخزائن الحكومية لمساعدته. ولا شك ان الانفاق العسكري الهائل على الحروب المتواصلة قد ضغط هو الآخر على الاقتصادات الغربية بشكل مباشر. ويبقى تضخم اسعار الاسواق العقارية في جوهر المشكلة، وبدون التعاطي مع اسعار العقار ومواءمة ذلك بالقروض التي تقدمها المؤسسات المصرفية، فمن المؤكد ان الازمة لن تحل في المستقبل المنظور. وبرغم مبادرة اوباما بتخصيص مئات المليارات لانعاش السوق، فمن غير المرجح ان يرى ثمرات ايجابية مباشرة لمبادرته. وبالتالي فهناك اعتقاد يترسخ يوميا بان الولايات المتحدة لن تستطيع استعادة موقعها الدولي والتفاعل مع الاوضاع الدولية ما لم تحل ازمتها المالية. وحيث ان هذه الازمة لن تحل قريبا، فمن الارجح ان تواصل واشنطن سيرها نحو الداخل وانطواءها وتخليها عن الدور الذي توسع كثيرا في العقود الثلاثة الاخيرة. لقد اصبح تداعي الاقتصاد الصخرة الذي تكسرت عليها طموحات الادارة الامريكية السابقة، ومعها المحافظون الجدد، ويستبعد ان تستعيد امريكا الدور الذي لعبته في العقود الاخيرة. اما شخصية الرئيس وبرنامجه السياسي فلهما دور في تحديد مسار السياسة الامريكية. فأوباما ليس جورج بوش، وبرغم ما يقال عن ‘دور المؤسسة’ السياسية الامريكية المحوري في تحديد السياسات المركزية، فان لشخص الرئيس دورا لا يمكن التقليل منه. وشخصية اوباما تختلف عن شخصية بوش، وخطابه، فهو ليس استعدائيا، وان كانت الكلمات قد لا تعني الكثير من الناحية العملية، ولا قيمة لها في مقابل تفكير المؤسسة الامريكية التي تتجاوز شخصية الفرد.
اما التطورات الدولية الخارجية فتعتبر هي الاخرى عاملا في تحجيم التعالي الامريكي. وقد ورث اوباما من سلفه حربين في العراق وافغانستان ووجد نفسه معنيا بالتعاطي معهما بموضوعية. فقرر الانسحاب من العراق بعد ان اتضحت فداحة استمرار الاحتلال، وتوجه للتركيز على الحرب الافغانية. ويبدو ان الجنرالات الامريكيين هم اصحاب القرار من الناحية العملية. انهم يعتقدون ان زيادة عدد القوات المقاتلة في العراق العام الماضي ادت الى هزيمة تنظيم ‘القاعدة’. ولكن ثمة رأياً بان تغير التحالفات في الوسط السني العراقي ساهم هو الآخر في تهدئة الوضع وتهميش دور القاعدة. يضاف الى ذلك ان العراق لا يمكن ان يكون خاضعا للارادة الامريكية الى الابد، وان تضافر جهود ابنائه وتلاحمهم، ونجاحهم في تجاوز العقدة الطائفية ادى الى اقناع الولايات المتحدة باستحالة استمرار الاحتلال، وضرورة الانسحاب. اما افغانستان فقد اصبحت جرحا آخر في الخاصرة الامريكية، ويصر العسكريون على تصعيد المواجهة مع مقاتلي حركة ‘طالبان’، ولذلك اقترحوا زيادة عدد القوات في ذلك البلد بأكثر من 17 الف جندي، وبذلك تعود افغانستان مسرحا لما يسمى ‘الحرب ضد الارهاب’ مجددا، بعد ان مكثت خمسة اعوام في العراق. يوازي ذلك شعور الادارة الامريكية بان الاستمرار في نهج ‘كسر العظام’ مع ايران اصبح دورانا في حلقة مفرغة بدون طائل. فبعد ثلاثين عاما من القطيعة مع طهران، تشعر واشنطن انها فشلت في ‘احتواء’ ما كانت تسميه ‘الخطر الايراني’، وان طهران استطاعت توسيع دائرة مشروعها الاسلامي السياسي الى ساحات اكبر. وفيما حقق المتحالفون معها انتصارات عسكرية وسياسية سواء، لم يستطع مناوئوها الاقليميون او الدوليون تمرير مشاريعهم ورؤاهم السياسية. فبعد انتصارات حزب الله في 2006، اصبحت منظمة ‘حماس’ رقما صعبا في المعادلة الفلسطينية ولم يعد من الواقعية السياسية في شيء التصدي لها بالنمط السابق. ربما هي حرب ارادات بانتظار الطرف الاسرع انكسارا، وقد تكون سباقا نحو المجهول بين لاعبين متكافئين، او رهانات على المجهول في كازينو تعمه الفوضى والقوى الخفية الشبيهة بالمافيا. ايا كان الامر فان امريكا اوباما تختلف في فلسفتها السياسية واطروحاتها الاستراتيجية عن امريكا ما بعد الحرب الباردة التي اعتقدت انها القوة الوحيدة القادرة على ادارة شؤون العالم والهيمنة عليه.
واشنطن تجد نفسها عاجزة عن استهداف كل مناوئها ومنافسيها بالاساليب القديمة، اذ يفترض ان استراتيجية ما بعد الحرب الباردة تختلف جوهريا عما كانت عليه قبل ذلك، وان استراتيجية التصدي لما تعتبره ‘التحدي الاسلامي’ لا بد ان تختلف عن نمط التعاطي مع عالم خال من المنطلقات الايديولوجية والحروب الدينية.
فماذا عن روسيا؟ وماذا عن تنصيب الصواريخ في جمهوريتي التشيك وبولندا؟ برغم التصريحات الاخيرة بان تلك الصواريخ التي اثارت حفيظة الروس انما هي موجهة ضد ايران، فان تجربة روسيا ابان معركتها القصيرة مع جورجيا ايقظت لدى زعمائها الحس الوطني بمستوى لا يقل عما كان عليه في العهد الشيوعي. وكان الرئيس اوباما واضحا في خطابه عند استلام منصبه، عندما دعا الى الحوار مع روسيا. كما ان دعوة وزيرة الخارجية خلال زيارتها الى بروكسل الاسبوع الماضي بضرورة التفاهم مع روسيا، تصب هي الاخرى في المجرى التصالحي الذي يطرحه اوباما. وعندما يلتئم شمل دول مجموعة الـ 20 الشهر المقبل، سيكون لروسيا صوت عال وأثر غير قليل في تأطير الاستراتيجية الجديدة لحلف الناتو. وبذلك تصبح روسيا، هي الاخرى، رقما صعبا، مثل ايران. أليس في ذلك تهديد لتوازن القوى الذي ظل سائدا خلال فترة ما بعد الحرب الباردة؟
لا شك ان الزعماء الاوروبيين ذوي الشراكة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة بدأوا يشعرون بخطأ السياسات الامريكية ليس في جر العالم الى ويلات الحروب فحسب، بل الى التدهور الاقتصادي الذي لا يقل خطرا عن اي تهديد عسكري او ايديولوجي آخر. فالحضارات انما تبدأ مشوار السقوط بتداعي اوضاعها الاقتصادية وتراجعاتها العسكرية. والأمل ان الرئيس باراك اوباما قد اكتشف خطر الانزلاق في المستنقع السياسي والعسكري والاستراتيجي الذي بدأه سلفه، جورج بوش، وقرر القطيعة مع تلك الحقبة المظلمة الحالكة السواد، وان تصريحاته وقراراته ليست وليدة اللحظة، وانها لن تجهض بسهولة. اذا تحقق ذلك فقد يكون بالامكان انتشال الولايات المتحدة وحليفاتها الاوروبيات من وحل السقوط في المستنقعات الناجمة عن القرارات غير الحكيمة التي كثيرا ما انطلقت من واشنطن. انه تحد كبير ليس للامريكيين وحدهم بل لمن يسعى لاصلاح الاوضاع أيا كانت النتائج.
‘ كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن
القدس العربي