في خطورة البحث عن المعتدلين بين المتشددين
محمّد الحدّاد
اختارت أسبوعية أميركية مشهورة أن تخرج على قرائها بغلاف غير مسبوق، صفحة كاملة باللون الأخضر مكتوب عليها بحروف ضخمة: الإسلام الراديكالي حقيقة من حقائق الحياة، كيف نتعايش معه. والعبارة التي أذكرها ليست من ترجمتي بل هي واردة باللغة العربية في المجلة الصادرة بالإنكليزية!
يبدو أن المشرفين على المجلة المعروفة بقربها من دوائر القرار في الخارجية الأميركية قد أرادوا بذلك سبق الأحداث والتمهيد لتوجهات جديدة. ففي نفس الأسبوع دعا الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى فتح حوار مع المعتدلين في طالبان، ورحب بذلك الرئيس الأفغاني وأقرّه، وبدأت وسائل الإعلام العالمية تحلّل وتناقش هذا التغيير الإستراتيجي اللافت في السياسة الأميركية، وذهب كثيرون إلى أن أميركا تضغط على كرزاي ليختار أسلوبا أقل تشددا في تعامله مع حركة طالبان، مشيرين إلى الانتقادات الكثيرة، الصريحة والضمنية، التي ما فتئت الإدارة الأميركية الجديدة توجهها إليه، ويشيرون أيضا إلى الصفعة التي تلقاها عندما رفض الجيش الأميركي ضمان أمن الانتخابات الأفغانية في الموعد الذي أراده وحدده وأعلنه، وفق أحكام الدستور، فاضطر للتراجع وقبول شهر آب (أغسطس) وهو موعد استكمال نشر القوات الأميركية الإضافية، ما يعني أن ولاية كرزاي ستظل ثلاثة أشهر ولاية غير قانونية، أو أنه ينبغي تعيين حاكم مؤقت، إذا ما طبق الدستور الأفغاني حرفياً.
وإذا ما كان ثمة خطأ في التحليل فهو هذا الذي يحمّل المسؤولية لكرزاي ويبرىء ساحة الأميركان، فالحقيقة أن كرزاي هو الذي كان قد بادر منذ 2007 باقتراح هذا الحل، وكانت قد حصلت في الشهر التاسع من تلك السنة (في ذكرى تفجيرات 2001!) عملية إرهابية ضخمة أودت بـ 35 أفغانيا غالبهم من الجنود، عندما فجر انتحاري حافلة تابعة لوزارة الدفاع في كابول، وقد جاء ردّ فعل كرزاي مفاجئا، إذ عبر آنذاك عن استعداده للحوار مع زعيم طالبان الملا عمر، ومع حليفه زعيم الحزب الإسلامي قلب الدين حكمتيار. وبعد أسابيع أعلن كرزاي في خطاب رسمي أنه يضمن سلامتهما إذا رغبا في التفاوض معه، على رغم علمه بأنهما مطلوبان لدى الولايات المتحدة الأميركية.
والمزعج في التحول الأميركي ليس الصلف الذي وقع ضحيته كرزاي، لكن إمكانية أن تقوم السياسة الخارجية الأميركية بالانتقال من النقيض إلى النقيض، كما حصل ذلك مرات في التاريخ الأميركي الحديث. علينا أن نتخيل ما معنى محاورة المعتدلين في حركة طالبان: أولا، معناه أن يوجد معتدلون في حركة ظلامية عنيفة ليس فيها ذرة من احترام البشر. ثانيا، معناه العودة إلى الموقف الأميركي من الحركة قبل تفجيرات 11ـ9ـ2001 وقد كان موقف الاعتراف الضمني. ثالثا، معناه مقايضة سلامة الجنود الأميركان في أفغانستان بغض الطرف عن تنامي النفوذ السياسي والاجتماعي والثقافي للحركة، أي مسالمة من يلتزمون بعدم القيام بعمليات انتحارية ضد الأهداف الأميركية وتركهم أحرارا، هؤلاء الذين سيصبحون معتدلين، لإغلاق ما بقي من مدارس تعليم البنات، والمزيد من اضطهاد النساء، وتطبيق ما يدعى بأحكام الشريعة والحدود، وفسح المجال للقضاة الطالبانيين للعودة إلى دوائرهم القضائية، وإعادة فتح مدارس تفريخ الإرهاب…، كل هذا في إطار ما دعته المجلة الأميركية بالاعتراف بالإسلام الراديكالي حقيقةً من حقائق الحياة والتعايش معه.
وبما أن السياسة الأميركية ترسم على منهج «البراديغمات»، أي أنها تخطط لحالة غالبة ثم تسحبها على الحالات التي تصنف مشابهة، فإن «التعايش» الأميركي مع التشدد والبحث فيه عن الاعتدال قد يتجاوز أفغانستان ليشمل ما كانت الإدارة السابقة تدعوه بالشرق الأوسط الكبير. وعليه، فإن الغزل البريطاني الحالي لحزب الله قد لا يكون مفصولا عن بقية اللوحة، وإذا ما تأكد هذا التوجه، فإن كرزاي لن يكون الضحية الوحيدة للصلف الأميركي.
ينبغي أن يبلّغ أوباما بالرسالة التالية: لا تجعل من أفغانستان «براديغم» السياسة الخارجية الأميركية في ما كان يدعى بالشرق الأوسط الكبير، والإسلام الراديكالي حقيقة لكنه ليس قدرا أبديا مسلطا على شعوب المنطقة، وينبغي أن لا نتعايش معه بل أن نعمل جميعا على التخلص منه، والمشكلة ليست في أنه خطر على المصالح الأميركية بل في أنه خطر على شعوب المنطقة، وقد تعايشت معه الولايات المتحدة بل شجعته ورعته أثناء الحرب الباردة إلى أن ارتطمت به يوم 11ـ9ـ2001، فلن تغفر أرواح ضحايا تلك التفجيرات أن تعيدوا الخطأ مجدداً.
الحياة