صفحات الناس

مصر تدخل نادي الغضب الضائع أشباح المعارضة الإلكترونية تهزم النظام في المحلة

null


هاني درويش

كنا إجمالاً نتشكك في إمكانية مثل هذا اليوم، أن يأتي الأحد المنتظر بأي مفاجأت، فدعوى في فضاء الإنترنت ليست كافية نهائيا للقياس، ولا حتى موعد إضراب مصانع النسيج بالمحلة كان حدثا للتوقع. فآخر إضرابات المصنع الذي كان جزءا من تراث الرأسمالية المصرية حين اسسه رائدها طلعت حرب اعطي المراقبون إحساسا بعقم محاولة الرهان عليه وحده، خاصة مع ما إنتهى إليه من قائمة وعود ومكاسب مؤجلة منذ شهور.

أتحدث هنا بسمت مراقب يعاني من دوار سوء التوقع غالبا، تقليلا لقيمة صافي الهزائم المكررة، وبخبرة من اشبعته السياسة بما لها وما عليها. بسأم من شربوا الكأس مرات سجلنا أسماءنا في الدعوة عبر الفيس بوك، ذلك التسجيل البروتوكولي الذي يحولك إلى رقم في مسيرة إفتراضية مهولة، ولم يخدش هذه الحماسة الفاترة إلا تقرير كتبه صديق عن موقع مواز أسسته مجموعة من شباب الحزب الوطني تحت شعار “لو خرجت في 6 أبريل حتاخد على قفاك”، كان التهديد ركيكا ومستفزا، والأكثر إستفزازا كانت المبررات التي صاغها نحو 500 شخص لمبايعة جمال مبارك عبر نفس الحساب. المؤكد أن تكنولوجيا الإنترنت هي أقرب في صميم منطقها للمعارضة أكثر مما الى منطق الموالاة. سجل في الموقع “الوطني” نحو 500 شخص كتبوا تعليقاتهم بأخطاء لغوية ونحوية تشعرك بأنهم مكلفون بالنفاق في مواقعهم التنظيمية داخل أمانة الشباب بالحزب الوطني، فيما وصل عدد المنضمين لمجموعات الدعوى للإضراب الثلاث نحو 100 ألف شخص. في وقت قياسي، كانت الدعوة تتضمن تنويعات من أشكال الإعتراض مثل المكوث في المنازل و عدم شراء السلع إعتراضا علي الأسعار، أو تعليق شارات سوداء في الشرفات، ودعوات للتظاهر في أماكن معينة: كان التنوع في تلك النشاطات الإحتجاجية متوافقا مع إحساس عام بأن لابد من عمل ما، اذ لم تشهد البلاد في أي لحظة سابقة موجة غلاء كالتي شهدتها في الشهور الماضية. غلاء لايحتاج الى حساب أجمالي كي تشعر به، بل هو غلاء في جميع السلع بشكل أقرب لنظرية الأواني المستطرقة. غلاء تآكلت معه دخول شرائح واسعة كانت حتى وقت قريب تنظر لأرقام أجورها الألفية بكثير من الفخر. لكن الغلاء، عندما وصل بهزاته الإرتجاعية للطبقات الدنيا، سقط شهداء في طوابير الخبز لأول مرة، ونزلت القوات المسلحة المصرية لبيعه في المحافظات، في مشهد أعاد لذاكرة كثيرين ذكريات حرب الإستنزاف.

ما يحدث الآن هو حرب استنزاف فعلية بعد أن ضمر ضرع الموارد في مقابل سرقة على المفتوح تمارسها شرائح النخب السياسية والإقتصادية. كانت السماء ملبدة بالغيوم إذن، ولا يتسع المجال هنا لذكر كيف تحول الإضراب المنتظر قبل بدايته إلى موضوع نقاش بين الناس. كانت سيرته تنمو وكأن المصريين جميعا فقدوا شهيتهم لكرة القدم فجأة، او كأنهم توقفوا للحظات عن البسملة والحوقلة في مواجهة أفعال الظلم اليومية العادية. كانوا يوجهون السؤال الصعب: ماذا ستفعل يوم الأحد. دون حتى تحديده بزمن، الأحد دون القادم أو بعد القادم مثلا، وكأنه معلوم كنهاية الآحاد، كانت هناك شريحة كبيرة تمارس ذلك التحريض والتكثيف في حشد المتضامنين، فمن لم تعجبه معارضة القمع والإستبداد، أقنعته فكرة عدم شراء السلع ليوم والتغيب عن العمل. وحتى تلك الكتلة الكبيرة الصامتة التي اكتفت بالحديث حوله كان مجرد متابعتها وإنشغالها به هاجسا مؤرقا لأجهزة الدولة، فمن لم يعلم به بالدعوة لمح معناه في الإجراءات العقابية التي توعدت بها الأجهزة الإدارية: “من يتغيب في هذا اليوم”، اعلن مرسي عطالله رئيس مجلس إدارة مؤسسة الأهرام أن غياب هذا اليوم يعني الحرمان من حوافز الشهر. وهدد بعض العاشقين لنفاق الأجهزة الأمنية بإبلاغها عن المتغيبين من مرؤسيهم، كان الفزع الذي جابه به النظام كالظل الذي إلتهم صاحبه من شدة الخوف.

جزء هام من عصب الملايين التي لم تخرج يوم الأحد الماضي لم يعلم شيئا عن إضراب عمال المحلة الذي هو منبت مناسبة الإضراب، حيث وسع ثوار الفيس بوك من مشهد إضرابهم معتبرينه يوما للغضب العام. ولأن القوى الداعية للإضراب كانت أقرب للأشباح، تنصلت منه كل القوى السياسية التقليدية المنهكة، كان موقفا أقرب لتعالي المحترفين على هواة مجهولين، فلم يجذب لفظ الإضراب كالعادة الإخوان وهم لم يوافقوا على إضراب منذ ثمانين عاما. وتحدث مرشدهم العام ومتحدثهم الرسمي بأنهم ضد النظام لكنهم لن يشاركوا في إضراب يهز ركائز الدولة. وخرج الكاراكوز اليساري رفعت السعيد مستهولا أن يسير حزبه خلف غضب ربما لايحمد عقباه ـ فالرجل يتشمم رائحة الإخوان في منامته وبما ان الجماهير متأسلمة بطبعها سيكون الغضب العشوائي لمصلحة الإخوان، أما النظام فلم تتحرك شعرة واحدة في رأس قياداته التي اكتفت بتهديدات المخلب القاسي ممثلا في بيان لوزارة الداخلية يتوعد بحسم وحزم تعامل الأمن مع اي إخلال بالنظام أو تعطيل العمل أو المرور، ثم كان صباح.

اختفى المصريون من الطرقات، وبدت شوارع القاهرة ممتلئة فقط برجال الأمن المركزي وعناصر المباحث الذين قبضوا على من كان يمسك بالونة في ميدان التحرير او من يرتدي، لحظه الأسود، تي شرت اسود في الأسكندرية. نام الملايين في المنازل خوفا أو تضامنا، وكلما ظهرت فاعلية الإضراب بخلو شوارع المدن الكبرى زاد غضب رجال الأمن من التلكؤ في الشوارع الخالية. هل يمكن إجبار الناس على عدم البقاء في المنازل؟ هل تدخل قوات الأمن للمجمعات السكنية لتطرد المواطنين للشارع كي تثبت انه يوم عادي؟ حوصرت قلة من المحامين داخل نقابتهم في وسط العاصمة وتم إلقاء القبض على المئات في المحافظات من أعضاء حركة “كفاية” المصممين علي التظاهر، في “المحلة” تمت تسوية الأمر في الساعات الأولى بإقناع العمال بعدم الإضراب، ثم كان منتصف النهار حين حانت ساعة تبديل وردية العمل بالمصنع، وبغباء مستحكم إعتدى الأمن على بعض المتظاهرين الفرادى فتحولت المحلة إلى ساحة أقرب إلى بغداد وغزة لمدة يومين، إطلاق نار عشوائي وقنابل مسيلة للدموع خرجت بالعمال عن إتفاقهم ليلتحم مشهد المدينة بأكمله في مواجهة الدولة وتدوس الأقدام الغاضبة على صورة الرئيس في صور وكالات الأنباء، تحولت المحلة إلى كابوس من الغضب، نساء واطفال وشباب يسهرون حول النيران لمواجهة الأمن ليلا بعد قطع الكهرباء عن المدينة، معارك من شارع لآخر، مئات المصابين وقتيلان من الأطفال. أفزعت “المحلة” الجميع وقدمت نموذجا لنوعية الغضب القادم، فخرج الإخوان خجلين في اليوم الثاني ليعلنوا إنسحابهم من إنتخابات المحليات وقد صدموا أكثر من غيرهم بغضب لم يصبوا زيته ولا فازوا بشرف دمه المراق. فاوض حزب التجمع على الفتات، فإنسحب 7 مرشحين من الحزب الوطني أمامه في دائرة المحلة نفسها وكأنهم يقبلون رشوة كيلو لحم من جثث القتلى الطازجة. سافر رئيس الوزراء ووزيرة القوى العاملة إلى المدينة بسلة رشاوى وأصدر الرئيس قرارا بمنحة خاصة لعمال المحلة وإختصر إعلام الدعاية السوداء خاصته الحديث عن الفئة المندسة والتخريب كالعادة منذ زمن الفراعنة وصولاً إلى زعران الجبرتي في العصر المملوكي. ألقي القبض على المئات من اعضاء حركة كفاية يتقدمهم منسقها العام الأسبق جورج إسحق لأول مرة، كذلك بعض المدونين ومنظمي مجموعات الإضراب على الفيس بوك، وبقي المتهمون الحقيقيون من الـ100 ألف عضو يخرجون السنتهم للجميع ويتوعدون الرئيس نفسه بإضراب أكبر في ذكرى ميلاده الثمانين التي تحل في الرابع من مايو (أيار) المقبل.

ماذا يفعل النظام في معركته مع اشباح إلكترونية؟ سؤال نتمنى ألا يجيب عليه الأمن المصري قريبا وقد قدم لنا في برنامج “البيت بيتك” تقريرا عن القبض على المدعو “فيس بوك” امين تنظيم المجموعة المندسة عنكبوتيا على الوطن، أو أن يضطر لتسجيل عضوية لمليون جندي امن مركزي على مجموعة جديدة يسميها “مصر الأمن والأمان في دولة السيد الرئيس الهمام” …بشرط ان يتعلموا الإملاء قبل ملء البيانات كاملة.

المستقبل – الاحد 13 نيسان 2008

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى