صفحات الناس

المبتلون بـ “الشرف”:عندما تصبح القبور بلا شواهد

null


دبي ـ حسين جمّو

العملية برمتها تتم من دون ضجيج. اجتماع طارئ يعقده مجلس العائلة ـ العشيرة ويتم اتخاذ القرار. في اليوم التالي نسمع أن امرأة قتلت أو انتحرت او اختفت !!. كل من هم في الجوار أو الحي يعرفون ملابسات عملية القتل وغالبا ما يوافقون عليها، الحكومة وحدها تمثل دور “الغبي”
في هذه الجريمة.لا يقام مجلس عزاء ولا دموع تذرف على الضحية، ولا تقوم العائلة بدفنها ولا توضع شواهد على قبرها. الشاب المتهم بالتورط مع الفتاة غالبا ما يتم قتله هو الآخر وأحياناً يتم تجاهله كونه ينتمي لعائلة او عشيرة يمكن أن تثأر لقتله. الفتاة وحدها لا تملك من يثأر لها. إنها النسخة المعاصرة من “وأد البنات“.

هذه الظاهرة منتشرة بشكل مخيف في معظم الشرق الأوسط التاريخي ـ التقليدي، رغم ذلك يعتبر الحديث في هذا الموضوع غير رائج حتى في الأوساط المثقفة كونها تعكس الوجه المتخلف للمجتمع. وكي لا أتهم أني أثير موضوعا لا يخدم “قضيتنا السياسية الكبيرة” وأعطي صورة سيئة عن مجتمعنا، أقول على طريقة ماركس: نعم هذا بالضبط ما أود أن أفعله.

خلال الفترة ما بين 2001 و2006 قتل في تركيا 1806 امرأة باسم جرائم الشرف، بمعدل امرأة واحدة يوميا، وهذا الرقم أوردته وزيرة الدولة لشؤون المرأة والعائلة في الحكومة التركية نيمت جوبوكجو العام الماضي. معظم هذه الجرائم تقع في المنطقة الجنوبية والشرقية “كردستان تركيا”. مدينة باطمان المجاورة لديار بكر، وذات الـ250 ألف نسمة يمكن اعتبارها عاصمة لجرائم الشرف، حيث شهدت خلال الفترة نفسها انتحار 281 فتاة، معظمها تحمل طابع جرائم الشرف. والأمر أشد قتامة في كردستان العراق وفق تقرير أصدرته وزارة حقوق الانسان في الاقليم في نيسان من العام الماضي والذي أفاد ان 533 امرأة اقدمن على الانتحار او تعرضن للقتل خلال العام 2006 فقط. واظهر التقرير ان “عدد النساء اللاتي انتحرن او قتلن عام 2005 كان 289 امرأة لكنه ارتفع الى 533 امراة عام 2006 وازدادت نسبة الانتحار بين الضحايا من 22% عام 2005 الى 88% عام 2006 كما ارتفعت نسبة القتل من 4% عام 2005 الى 34، 6% في 2006”. وأشارت إحصائية اعدتها وزارة حقوق الانسان في إقليم كردستان العام الماضي الى “تعرض 501 امراة في السليمانية فقط خلال الاشهر الخمسة الأولى من العام الى اضطهاد يتنوع بين حالات قتل (تسعة) و40 وفاة جراء اضرام النار في انفسهن والخطف والضرب المتعمد“.

اذا توغلنا في كلمة الانتحار سنجد أنها عبارة عن عملية قتل منظمة من قبل العائلة للفتاة، ومن ثم يتم وضع سلاح بقربها أو إجبارها على شنق نفسها أو تجرّع السمّ أو حرقها بالنار، هكذا تتم العملية، وفي حال كان الأمر قتلا معلنا فإنه غالباً ما يتم تسليم فتى صغير وبريء على انه القاتل دفاعاً عن شرف العائلة التي يمكن أن تنتهك لمجرد رؤيتها مع شاب “غريب” أو من خارج العائلة حتى لو كان في مكان عام، ومن النادر جداً أن يكون سبب ارتكاب الجريمة معاشرة جنسية خارج إطار الزواج بين شاب وفتاة، وأحياناً لا يتعدى سبب القتل وقوع رسالة غرامية للفتاة في يد العائلة. في العام الماضي تسبب قتل الفتاة الكردية الايزيدية “دعاء” بداعي “غسل الشرف” إلى عمليات انتقامية ضد الايزيديين راح ضحيتها المئات منهم رغم أن جريمة القتل كانت على صلة بالتقاليد أكثر من صلتها بالاختلاف الديني مع المسلمين. لا تتوفر إحصاءات عن هذه الجرائم بين أكراد إيران إلا أنه في ظل تشابه التركيبة الاجتماعية ـ العشائرية مع أكراد العراق وتركيا، يمكن الجزم أن الوضع هناك ليس بأفضل.

التبدلات السياسية الاقتصادية والاجتماعية التي ينتج عنها تغير العادات تقع في قلب الظاهرة، ففي المجتمع الكردي في تركيا كما في العراق لا يزال الإقطاع يتمتع بقوة كبيرة في هذه المنطقة نتيجة الدعم الحكومي له ومنح الكثير من زعمائه العشائريين امتيازات إدارية مقابل التزام هؤلاء بمحاربة حزب العمال الكردستاني وتشكيلهم ما يسمى بـ”فرق حماة القرى “الشبيهة بالكتائب الحميدية في العهد العثماني. وهذا الدعم ساهم في حماية كلٍ من الإقطاع والعشيرة من الانهيار، وفي نفس الوقت حرمهما من إنتاج نظام اجتماعي أرقى. وفي الوقت الذي بقي فيه الإقطاع مسيطراً على الانتاج الزراعي المتركّز في جنوب شرق تركيا حيث الغالبية الكردية، انتقل أفراد العشيرة الفقراء للعيش في المدن الكبرى مثل دياربكر التي تضاعف سكّانها ثلاث مرات خلال عقد واحد، نتيجة إخلاء الجيش التركي لآلاف القرى الجبلية المحيطة بالمدينة الفقيرة أثناء اشتداد القتال بين الجيش التركي وحزب العمال الكردستاني في منتصف التسعينات. نسبة البطالة في المدينة تصل 70%. وهناك تقديرات تشير إلى أن 28000 طفل يقضون حياتهم في الشوارع، و700منهم يعيشون من نبش نفايات القمامة حسب تحقيق أجرته صحيفة الغارديان في حزيران 2006. و بالنتيجة انتقل جزء من العشيرة للعيش في المدن نتيجة ظروف سياسية واقتصادية، وكان لهذا الانتقال آثاره البالغة على مفهوم المدينة والتمدن في منطقة مثقلة بالتقاليد، وعلى حد تعبير أحد الناشطين في الدفاع عن المرأة، فإن هؤلاء نقلوا معهم عقلية القرى الصغيرة إلى المدن الكبيرة. وتواجه المرأة نتيجة الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية من مشكلات كبيرة بدءاً من ارتفاع نسبة الأمّية، إلى الزواج الاجباري وصولا إلى جرائم الشرف.

و تقوم منظمة (كا ـ مر) المدنية بمنح بطاقات هوية جديدة للفتيات اللواتي يقعن تحت تهديد هذه الجرائم، وحتى إسكانهن في منطقة أخرى من البلاد، لكن نشاطها محدود ولا يتجاوز عدد النساء اللاتي تبنتهن المنظمة الأربعين بسبب غلبة الطرق الصوفية والنظام العشائري على مؤسسات المجتمع المدني. خطورة هذه المشكلة تكمن في قولبة عملية القتل بغلاف ديني، رغم ان الظاهرة مرتبطة ليس فقط بالعشيرة وإنما تعود بجذورها على الأرجح إلى الصراعات التي نشبت بين الآلهة الاناث (إنانا، عشتار، تيامات…إلخ) والآلهة الذكور (إنليل، إنكي، مردوخ..) الذين انتصروا في النهاية. كل هذه الميثيولوجيات جرت على مقربة أوداخل المنطقة الكردية الحالية. اليوم تجهد الكثير من المنظمات المدنية الكردية بما فيها الموالية لحزب العمال الكردستاني في مكافحة هذه الظاهرة الاجتماعية. وإذا تحدثنا من منظور أيديولوجي يمكن القول أن المرأة في العائلة “اليسارية” هي بخير.

القضاء التركي شدد عقوبة مرتكبي جرائم الشرف الى السجن مدى الحياة. لكن، هل القوانين أقوى من التقاليد؟ الروائية التركية الشابة ًفنف نىٌ لا ترى ذلك، وتعتبر أنّ حل المشكلة يحتاج إلى ثورة ذهنية شاملة.

الانحطاط الأخلاقي يكمن في استفادة بعض الأحزاب السياسية بما فيها حزب العدالة والتنمية الحاكم من هذه الظروف والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الملائمة لتفاقم ظاهرة جرائم الشرف في المنطقة الكردية رغم تشديدها العقوبة على مرتكبيها، وبعبارة أوضح فإنها تقوم بجزّ الظاهرة ولا تقضي عليها من خلال دعمها للاقطاعيين وزعماء العشائر الكردية لاستثمارهم سياسيا وانتخابيا.

قد يبدو الأمر أقل سوءاً بين أكراد سوريا، لكن الظاهرة ما تزال موجودة رغم عدم توفر أرقام رسمية، ونسمع بين الحين والآخر عن فتاة انتحرت أو قتلت في ظروف غامضة. في حادثة واحدة متعلقة بقضية “الشرف” كما تسمى، قتل عشرة أشخاص بين مدن حلب وبيروت بعد أن تحولت إلى مواجهات وملاحقات عشائرية على مدار عشر سنوات، لم تنته إلا بعد قتل المرأة المتسببة بـ”العار”!. من الاجحاف تحميل حكومة ما مسؤولية استمرار هذه الظاهرة منفردة فقط. بل أن معظم الأحزاب الكردية تتحمل المسؤولية إلى جانب الجهات الرسمية لعدم امتلاكها برنامجا للتطوير الاجتماعي خارج خدمة أهدافها السياسية.ربما استطاع حزب العمال الكردستاني تجاوز هذه السلبية من خلال بعض المنظمات النسائية التي أسسها.

يقال أن سرعة الجيوش في المعركة مرتبطة بسرعة أبطأ أفرادها. كذلك درجة تطور المجتمعات مرتبطة بالتطور الذهني لأشد أفرادها تخلفاً. في حال نجاح المفاوضات المستمرة بين تركيا والاتحاد الأوروبي لنيل الأولى العضوية الأوروبية، فإنه ليس فقط البروفيسور والأكاديمي التركي سيصبح مواطناً أوروبيا وإنما العقول المدبرة لجرائم الشرف أيضاً.

المستقبل – الاحد 13 نيسان 2008

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى