صفحات الناس

اّه يا دمشق .. كم اشتقت إليك يا روضة العلم !؟ صفحات من دفتر العمر

null


مريم نجمه

منذ صباي تعرفت على معالمك الحضارية , دخلت لأول مرَة مدارسك الإبتدائية والمتوسطة ( الاّسية ) للبنات الكائنة في حي القيمرية – باب توما – وكان نصف العام الدراسي قد انقضى حينذاك , في شهر شباط عام 1950- وكنت من الناجحات ذاك العام , مع الزميلة المرحومة نور جرجي الخوري وكنا أولى البنات الحاصلات على شهادة الإبتدائية في بلدة صيدنايا .

يومها سكنت عند عائلة عمَي كامل نجمه , حيث أحاطوني بمحبتهم ورعايتهم رحمهم الله , كان منزلهم في حي القصَاع ” حارة ” كنيسة الصليب , بجانب مدرسة القديس يوحنا الدمشقي – حيث كان أهلي لا يزالوا في صيدنايا ولا يوجد مدارس رسمية للبنات بعد هناك – عشت معهم بين أحضان أسرتهم مدة شهرين , مع أنطوانيت زميلة الطفولة وما زالت , وإخوتها كمال وإيليا وحنينة ) .

وأكملت العام الدراسي مع عائلة إبنة عمي خزنة زوجة فؤاد نجمه رحمه الله , و أطال الله في عمرها المرأة المحبة الطيَبة , وهي بمثابة أختي الثانية بالتربية حيث ربتها والدتي في بيتنا بعد وفاة والدها شحاده حتى زواجها – سكنت عندهم شهرين أيضا , لعتبهم عليَ بأن لهم حصة في استضافتي , كان المنزل خلف نادي الغساني مباشرة ومنازل عائلات كحالة ومرقدة وفارس الخوري ومقابل ملعب الغساني الكبير في شارع حلب – ( والتي أصبحت هذه الدار مقر لكنيسة فاطمة فيما بعد – في هذا الحي كانت تسكن الدكتورة ناديا الشايب أستاذتي في مادة التشريح – صف التاسع الشهادة المتوسطة , تحية لها , وميلاد الشايب أخوها أستاذ الرسم الشهير من أوائل الفنانين في دمشق . كنت خلال هذه المدة التي سكنتها في دمشق أسافر إلى بلدتي أسبوعياً لزيارة أهلي .. وأحضر معي الهدايا التي مازلت أتذكرها من خبز التنور وصواني حلاوة الجوز , والسمسم اللذيذة صنع جدتي لوسيا

كانت مدينة دمشق حتى الخمسينات والستينات من القرن الماضي … لا تزال طبيعية مناخاً وبيئة ومجتمعاً , بعيدة عن التلوَث والإزدحام وكل مايشوَه جمالها . تحيط بها جنائن الورد وبساتين المشمش والجوز واللوز والتوت.. تسور هذه الأحياء القديمة وتحيط بأبوابها ومداخلها من كل الجهات , إلى جانب غوطتها التي كانت جنة’ الله على الأرض قبل أن يغتالها الطاغوت وكتل الإسنت , وهجرة الريف الكثيفة إليها , و كانت حديقة برج الروس وحفلات موسيقى الشرطة الأسبوعية تقام فيها , وخط الترام و سيلة المواصلات القديمة من ساحة باب توما حتى سوق الهال فالصالحية والمهاجرين , وكان الترام يربط الضواحي دوما وعربين و حرستا .. بالعاصمة … كنت أحياناً أستخدمه في مشواري اليومي إلى مدرستي , من أول القصاع حتى ساحة باب توما مقابل صيدلية حتحوت – بتسعيرة ( قرشين سوري ونصف ) .. وفي أكثر الأيام أقطع المسافات مشيا على الأقدام بكل همة ونشاط أتعرَف على معالم المدينة الأثرية ومحلاتها وأسواقها الشعبية ..وعائلاتها وبيوتها القديمة ..

يعتبر حي القصاع وحي باب توما مركزان تجاريان هامان يموران بالنشاط والحركة , والمهن والصناعات الشعبية اليدوية والباعة من كل صنف ولون . أينما مشيت وسرت في طريقي للمدرسة من حي القصاع إلى حي القيمرية وباب شرقي , كأنه حي باريسي بنظافته وتنظيمه وبلاط أرضه المرصوفة بالحجارة السوداء وأرصفته المنظمة , وبائعي الصحف والمجلات والكتب والزهور , كنت أشاهد في طريقي الشوارع الرئيسية والأحياء الشعبية و وتنوع المعابد والمراكز الدينية والثقافية والرياضية وغيرها من معالم العاصمة التاريخية الحضارية , و البيوت الشامية الدمشقية العريقة ..
كنت أسير منذ الصباح الباكر بمحاذاة….. مستشفى الإنكليزي الكبيربحدائقه وبوابته الحديدية ( مستشفى الرازي اليوم ) , ومحل الحلاَق النسائي سليم ( الذي صفف شعري في يوم زفافي ) , بيت عائلة يني , ومارينا , أمرَ من أمام مدرسة ونادي الأبَلون ( اليوناني ) , و عيادة الدكتور زيَات حكيم أو طبيب عائلتنا وعائلة أهلي , وا لمستشفى الفرنسي الشهير بأطبائه ونظافته وراهباته , منازل عائلات العلاوي العشي والشويري ومعوَض والشوَا زميلاتي في المدرسة . بيت بيرم , بائع الحمصاني الشهير – مقابل محلات الرومي للحلويات المميزة بطعمها ونوعيتها أيضاً – كل شئ كان طبيعيا ونظيفا وبسيطاً في تلك الأيام الغذاء والناس والعلاقات . كنت أمرَ أمام محلات الزهور فيتموس , محلات ثقلا , والحلويات , محل بيع القماش اليهودي – والبقالة , والمخابز , وخاصة مخبز القصاع الذي كان مختصاً بالقريان للأعياد والكنائس , ومصلَحي الأحذية , محلات مطاحن وبيع القهوة الطازجة , بائع السمك بطبوطة , النوفتيه جورج , الكوافير , الحلاَق النسائي , محلات ديروان , وقشقوان مخبزالقصاع الذي كان مختصَاً بخبز القربان للأعياد والكنائس – كنيسة الصليب للطائفة الكاثوليكية – نادي جاورجيوس الأرثوذوكسي للكشافة – منزل عائلة القسَيس , ثم مدخل حارة الزبلطاني , وحارة الأرمن – حي وحديقة الصوفانية, بيت الشلاح أحد طلابي هناك الذي أصبح كاهناً فيما بعد , روضة المعونة للراهبات , محلات وبقالية ذيب ( الديرعطاني ) , مدرسة العازارية للراهبات , وزاوية صنبور الماء عين الفيجة ” السبيل ” , والذي كان يتواجد في مدخل كل حي من هذه الأحياء – بجانب صيدلية كره بيت الشهيرة في ساحة برج الروس .. كان هذا الصيدلي الذي لايحمل شهادة جامعية يعمل أكثر من طبيب , ويثق به الناس . بما كان يقدم من خدمات للمرضى من الأمراض البسيظة و يعمل كممرض يعطي الحقن.. كانت صيدليته باستمرار غاصة بالزبائن والمرضى – ثم نادي ومقهى البللور , وعيادة الدكتور طوطح , بجانب كراج بلدة صيدنايا , و معمل الجوارب النسائية ( الذي كان يشتغل به بعض بعض صديقاتي من العاملات , والعمال من قريتنا ) , بائع الفلافل ميامي الشهير – مقابل فندق علاَم , حيث كان في هذا الركن أول محطة لموقف الباص ( قصَاع – حميدية ) الذي ينطلق من هناك إلى ا لسوق الحميدية كان يزود السائقين بالفطور الشامي الشعبي التقليدي الفول المدَمس برائحته الشهية وطعمه المميز وطريقة تحضيره , والمسبَحة وحوائجها !؟

كنت أجتاز جسر نهر بردى عند باب توما بخوف في الأيام الأولى , لخوفي من سقوط الجسر .. خاصة ونحن لا نجيد العوم و السباحة لأننا أبناء بر بعيدين عن البحار والماء ..!؟؟ بقرب الساحة تقع مطاحن الحبوب القديمة بجانب النهر – هناك مدخل حي الجورة أيضا على الجهة اليمنى لباب توما أحد الأبواب السبعة لسور دمشق القديمة … لم أمش فيه إلا قليلاَ إنه يؤدي إلى حي مسجد القصب والشاغورهناك طريقان بعد ساحة باب توما يؤديان للمدرسة كنت أ جتازهما .. 1 – طريق الشارع الرئيسي من ساحة باب توما حتى الإشلي شارع مدحت باشا نهاية باب شرقي حارة كنيسة الزيتون ونادي الأرمن إ . هذا الطريق الذي يمر أمام دير مار مطانيوس والدير الكبير , مدرسة القلبين الأقدسين ( القدس ) حارة بولاد , كنيسة مار جريس للسريان الأرثوذوكس , ومدرسة البيزنسون , فطلعة سفل التلة , و كنا نمر أمام عيادة الدكتور السيوفي دكتور العائلة فيما بعد – بعدها بيت زميلتي نور الخوري حيث كانت تسكن مع أخيها في غرفة قريبة من المدرسة , وبعدها يأتي قبر القديس يوحنا الدمشقي , فالمدرسة الإبتدائية والثانوية ( الاّسية ) , كانت في تلك الحقبة بمثابة جامعة … بمستواها العلمي ومدرَسيها المشهورين بعطائهم وجدارتهم أمثال : صديقنا الأستاذ شحاذه الخوري ( من بلدتنا صيدنايا , تحية له وأتمنى له طول العمر , والأستاذ أنطون مارين , والأستاذ بنوت , و الأستاذ شبلي العيسمي , والأستاذ خليل مالك و فؤاد الشايب وغيرهم- من المربين الوطنيين كلهم أساتذتي فيما بعد تحية لهم جميعاً … عشت في مناخ ثقافي وطني و ديمقراطي متنوع الأنشطة … كانت تشعَ من هذه الثانوية لأول مرَة الأفكار اليسارية والتقدمية بممارسة أساتذتها , وطلابها – القسم الكبير من الطلاب كان قادماً من أرياف دمشق والمناطق الأخرى , الذين حملوا هذه الأفكار الجديدة ونقلوها إلى الريف السوري .. 2 – والطريق الاّخر داخلي يمر بين الحارات وهو الأقصر , كنت أسلكه أكثر الأحيان . يبتدئ من محلات الخضار والأزهار والسمك بطبوطة – والحلاق النسائي الذي عملت عنده شعري لأول مرَة بمعونة عائلة خالي ميخائيل في حي المسبك وحنانيا القريب رحمهم الله – كنت حينها ما زلت في القرية في مدرسة الدير – مقابل هذا الحلاق كان بيت عائلة جورج عويشق المناضل الشيوعي المعروف , وإيما عويشق المناضلة والزميلة في منظمة الأمومة والطفولة والعمل الإجتماعي والتعليمي , كنت ألأتقي بها في إجتماعات هذه المنظمة لاحقاً – بعدها أمر من أمام محل الكوَا , لأول مرَة أشاهد مثل هذه المحلات الخاصة للتنظيف والغسيل والكوي – ومحلات الحياكة للصوف لعائلة الحوراني ( الصيدناوي ) – ثم كنيسة اللاتين , فحمام البكري , وهنا يقع مدخل حارة القيمرية وبيت عائلة مشاقة الكبير , هنا سكنوا أهلي في حي القيمرية أول نزولهم إلى دمشق – في هذه الحارات تتقابل وتتقارب البيوت والشرفات مع بعضها البعض لتجعل سقفا للمارة يحميهم مطر الشتاء و حر الصيف .

بعدما نجتاز محلات — نجارة اَل إصطفان — , والكنيسة الإنجيلية – ما زلت أتذكر بيت الأستاذ أبو شعر أستاذ الرياضيات تحية له , والخوري , والهواويني , و بيت القابلة إيلين الصباغ , ومنزل مديرة الاّسية أديل الحداد , مديرتي , وساحة الدوامنة , وفي هذه المنطقة يقع بيت رحمة الشامي , وبيت الأديبة ماري عجمي , وعائلات خليل مالك وإخوته أساتذة اللغة العربية المشهورين , والمدرسَة الفلسطينية الأنيقة السيدة نفَجة المعلمة المتمكنة من مادتها اللغة الإنكليزية , تحية لها , ..و بيت المباردي , اليازجي والهواويني .. ومعوَض والنحاس وكردوس ووو وغيرهم ..

كنت أحيانا في هذه الرحلة اليومية … أسيرمن المنزل صباحاً في الطريق الأقصر الجانبي الموازي لشارع القصاع الرئيسي إختصاراً للوقت , و توفر الهدوء .. والفضاءات الزراعية التي أحبها … الذي يبتدئ بالقرب من محطة الجدَ للبنزين , شارع مارسيل كرامة بيت الجد ولا أزال أذكر أسماء العائلات والمواقع الرئيسية في تلك المناطق , بيت الديراني – بيت العلاوي – بيت عيد , بيت كسَاب , بيت العجمي , بيت المصابني , بيت عوض – بيت الطبجي صديقاتي فيما بعد – بيت الصالحاني , بيت الحاصباني , ثم خلف المستشفى الفرنسي , فالملعب ومنطقة جناين الورد , فساحة برج الروس

مقهى ونادي البللور , محلاَت القماش اليهودي , محلاَت ( العربيني ) لبيع الإنتاج الزراعي النباتي والحيواني كا( الزيتون اللبن الجبن القريشة الدبس والسمَاق .. وغيره .. ) الذي كنا نشتري منه دائما ..

…. ما زلت أتذكر هذه المناطق والأسماء والبيوت ….أهمها : بيت الأشقر , نادي مارجريس للكشافة , محلات بيع الحبوب , معمل عرق معوض , ومدرسة العازارية , بيت الترك , بيت القسَيس , الزين بيت الخوري مرقدة وو ….. محل المصَور , محلات المفروشات , ومقهى القصَاع .. ووو ..الخ ……….. هذا غيض من فيض مما أعرف وأحب وأتذكر – إنها صور لاتنسى , تختزنها الذاكرة لأنها الوطن الذي هجّرنا منه بلا رحمة منذ عقود ..

هذا الطريق الطويل المتعرَج سواء كان الشارع الرئيسي أو الجانبي , كنت أمشيه بنشاط وهمة ومتعة وفرح صباحا وعصرًا قرابة ثلث ساعة من الزمن لشابة مثلي في تلك المرحلة .

فنظام المدارس القديم قبل ازدياد نسبة المتعلمين فيما بعد ونظام الدوام الواحد – كان على فترتين قبل الظهر وبعد الظهر, مع استراحة ساعتين ظهراً للغداء , كنت أخذ الغداء معي للمدرسة في أكثر الأحيان , وكثيرون مثلي كنا نجتمع في غرفة الطعام الخاصة في المدرسة بجانب صنابير الماء , ونتناول ونأكل السندويشة وغيرها من الزوَادة .. كانت المدرسة تتألف من طابقين مع ساحة داخلية فيها الكثير من شجر النارنج والليمون , وباحة خلفية للرياضة واللعب , والداخلية للإصطفاف صباحا والإنتقال إلى الصفوف الإبتدائية والإدارة وغرفة المدرسات والتوجيه في الطابق الأول …. أما الطابق الثاني فكان يضم صفوف المرحلة المتوسطة – ( التي سأداوم فيها بعد ثلاث سنوات كما سيأتي لاحقاً ) ..

كان لهذه المدرسة بابين باب عادي جانبي عبر دخلة ضيقة … وباب ثاني اّخر مقابل الثانوية الأرثوذوكسية , تدخل منه المديرة والمعلمات , كان يدخل منه في أوقات الفرص بعض الطالبات من الثانوية لشراء بعض الأطعمة من غرفة البيع – أو للإستراحة و التحدَث مع المعلمات والأساتذة ..

هذه هي مدينتي وعاصمتي … عشت في أحيائها الشعبية العريقة الحضارية و بين شعبها الطيَب .. أجمل الأيام والذكريات , فيها بدأت دوائر المعرفة تكبر وتتوسع أمامي تدعوني لأغرف منها والع تتجاوز محدودية القرية ,, لتشمل المدينة والمجتمع الأوسع , وهكذا خطوت خطواتي التعليمية بثقة واطمئنان بين ربوعها وفي أحيائها الجميلة النابضة بالحياة والجمال والتناغم … في أول خطوة من عتبات مدينة العلم والحضارة – التي تزخر فيها عشرات النوادي والملاعب والمدارس والمعاهد والكنائس والأديرة والجوامع والأبواب والأثار التي تزيدها بهاءاً حضارياً في كل جانب , منثورة هنا وهناك .تحكي لنا عن الموجات البشرية التي تعاقبت عليها جيلاَ بعد جيل … قصة حضارة الإنسان في أقدم مدينة في التاريخ…… هي التي غذتني وقادت مسيرتي العلمية والثقافية والنضالية والإجتماعية .. وكل ما يمت بصلة لنمو الذاكرة الشعبية من حرف ومهن ونتاج وعطاء ونضال وفداء ومشاركة في بوتقة الجماعة والعلاقات الإنسانية الواسعة الكبيرة .. التي هي عنوان المجتمعات النامية الطبيعية المتجدَدة والمتحركة مع الزمن مع الغد… و مع المستقبل.والنور ………. وإلى لقاء اّخر وصفحة أخرى من ( ملعب الزهر إلى روضة العلم )

الحوار المتمدن – العدد: 2250 – 2008 / 4 / 13

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى