التفكير الأميركي الجديد ومراجعة نهج التسوية
عزمي بشارة
كنا رأينا أن تسلسل الأحداث من العدوان على لبنان وحتى العدوان على غزة والانطباع الذي خلفته في النفوس وعزلة قوى التسوية شعبيا، تصلح كلها أساسا لمراجعة نهج التسوية ولمحاصرته عربيا.
ولكن طبعا لا مفر من التساؤل عن جاهزية القوى المعارضة للتسوية لاقتناص الفرصة التاريخية لمراجعة التسوية، وعدم الخضوع بسرعة لمحاولات الاحتواء الجارية، إذ يبدو أن أميركا وحلفاءها في الغرب والشرق يتعرضون لنفس توارد الأفكار، ولكن على شكل هواجس أو مخاوف من ضياع إرث التسوية، وتشهد المنطقة هجمة أميركية غربية دبلوماسية منذ مؤتمر شرم الشيخ لإعادة الإعمار وحتى اليوم.
كانت الإدارة الأميركية السابقة قد وصلت إلى استنتاج مفاده أن قيادة السلطة الفلسطينية وحدها عاجزة عن الولوج إلى صفقة حل دائم مع إسرائيل بشروط الأخيرة وعن ضبط الساحة الفلسطينية في الوقت ذاته.
ولذلك “شجعت” الدول العربية التابعة لها على أخذ دور أكثر فاعلية وأكثر صرامة في دعم عملية التفاوض الجارية وتقوية الأجهزة الأمنية الفلسطينية، وفي مناهضة ومحاصرة نهج المقاومة فلسطينيا وإقليميا. وكان لها ذلك في أنابوليس وغيرها. لكنها لم تأخذ مصالح الدول التابعة لها بعين الاعتبار.
كما أنها دفعتها إلى صدامات جعلتها في حالة دفاع دائم عن النفس على مستوى رأيها العام. خذ مثلا موقفها إبان الحرب على لبنان 2006، ومقاطعتها غير المفهومة لقمة دمشق في مارس/آذار 2008، ومشاركتها في محاصرة قطاع غزة، وموقفها من قمة غزة في الدوحة..
وبما أنه لكل زمان دولة ورجال، فقد برز في إطار هذه المهمات من داخل النظم القائمة شخوص وشخصيات وأجهزة ومثقفون ووجوه إعلامية من النوع المستعد للتورط في شراكة “نضالية” مع إسرائيل وأميركا في مقاومة نهج المقاومة.
ولكن بنية الأنظمة وثقافتها وثقافة أتباعها برمتها تتناقض مع مفهوم المقاومة والنضال بما فيه من تضحية ومجازفة، حتى لو كانت مقاومة ضد المقاومة. فهي غير مبنية لأي نضال لا من أجل ذاتها، ولا من أجل أميركا وإسرائيل.
وقد ثبت ذلك في فشل الانقلاب على حكومة الوحدة الوطنية وعلى الأكثرية التشريعية المنتخبة في غزة، كما تجلى في بداية مايو/أيار 2008 في بيروت.. هذا هو الفرق الذي يفصلها مثلا عن القوات اللبنانية اليمينية في الماضي.
فقد كانت الأخيرة فاشية “مناضلة” ضد المقاومة الفلسطينية. كانت مليشيات طائفية مستعدة ليس فقط للقتل وارتكاب الجرائم كحال القوى الحالية، بل أيضا للموت في سبيل هدف طائفي على نمط القوى الفاشية اليمينية في إيطاليا وإسبانيا إبان الحرب الأهلية هناك في ثلاثينيات القرن الماضي. ولكن هذا الشكل انتهى وحلت محله قوى لا تتورع عن ارتكاب الجرائم ولكن بلغة الإيجار والاستئجار والاستزلام بالمال عدا ونقدا.
بعض الدول العربية أدرك بسرعة أن الشعار الأميركي “من ليس معنا فهو ضدنا” في طريقه إلى التغير، فاتخذ موقف الحذر وعدم ولوج صدامات، وذلك بانتظار تبلور السياسة الأميركية الجديدة.
أما النظام في مصر فكان لحظة التحول في السياسة الأميركية متورطا في معركة معاكسة. وتتلخص هذه في إقناع الولايات المتحدة والغرب بأنه لا شيء ممكن على المسار الفلسطيني الإسرائيلي دون دوره، وبقي متورطا في هذه المعركة خاصة إزاء الواقع الجغرافي الذي يفرض هذا النظام على قطاع غزة.
وما زال هذا النظام يرى في استيعاب الغرب لهذه الحقيقة مصدر قوة له في الاصطفاف الإقليمي. وقد وصل ذروة تورطه في محاصرة غزة، وأثناء الحرب الأخيرة عليها.
وقد استغل الواقع الجغرافي لتحقيق أكبر التفاف رسمي عربي ودولي ممكن حول الدور المصري.. كما استغل تبعات الحرب في فرض الحوار على مضض وبوصاية تشمل إلقاء المحاضرات بين القيادات الفلسطينية عن واجباتها وعن مصلحة الشعب الفلسطيني، في حين يعرف الجميع ما يشعر به الجميع وهم يستمعون إلى هذه المحاضرات المبثوثة تلفزيونيا. المسافة من التهديد بتكسير أرجل لمن يخرق الحصار وحتى وعظ الفلسطينيين بشأن مصلحتهم الوطنية هي مسافة بعيدة جدا.
***
أعلنت الإدارة الأميركية الجديدة مرارا أنها ترى المنطقة من منظور الأمن الإسرائيلي فيما يتعلق بإيران وتخصيب اليورانيوم، وكذلك فيما يتعلق بمقاومة الاحتلال. فهي ترى أن حق إسرائيل أن تحظى بالأمن غير مرتبط بإنهاء الاحتلال. من حقها أن تكون دولة محتلة وآمنة في الوقت ذاته، ومن واجب العرب أن يجلسوا بهدوء في المخيمات وتحت الاحتلال وتحت الحصار ويتابعوا نشرات الأخبار حول المفاوضات وأن يحتفوا بتعيين ميتشل ويتسلوا بسلسلة نسبه.
وترى الإدارة الجديدة أن السلطة الفلسطينية أثبتت نفسها في ضبط الأمن في الضفة خلال الحرب على غزة. كما ترى إسرائيل ذلك وتعتبره أولَّ حصاد جدي لأوسلو، وإثباتا لادعاءاتها السابقة بشأن عدم جدية عرفات في مسألة التنسيق الأمني.
لقد تغيرت طبيعة القيادة الفلسطينية منذ اغتيال عرفات، وتغيرت طبيعة وعقيدة الأجهزة، وطبيعة التنسيق بعد أن توقفت إسرائيل عن أن تكون عدوا وأصبحت شريكا فعليا. هذه سلطة تستحق الدعم برأي الولايات المتحدة وإسرائيل. ولكن الدعم المقصود لا يرقى إلى تلبية مطالب الشعب الفلسطيني، بل يقتصر على الدعم المالي والأمني، وهو ما يسمى “بناء القدرة والكفاءة”.
نفس الإدارة الأميركية الجديدة ترى أن إقناع الدول العربية بدعم القيادة الفلسطينية التابعة ينسجم مع إضعاف محور المقاومة ولذلك شروط:
1- أخذ مصالح الدول العربية التابعة بعين الاعتبار.
2- محاورة إيران لإقناعها بوقف تخصيب اليورانيوم مع التلويح الجدي بالعقوبات، قبل اللجوء إلى الخيار العسكري. وهذا يتطلب بناء جبهة عربية إسرائيلية ضد إيران، كما يتطلب محاورة الدول العربية “الواقعة تحت التأثير الإيراني”، وقد يتطلب ذلك أخذ مصالحها بعين الاعتبار إلى درجة محددة سلفا.
3- من أجل تحديد مصالح هذه الدول في إطار التعاون ضد إيران من جهة كمصلحة إسرائيلية ولغرض حل القضية الفلسطينية حلا شاملا يجب وضع خارطة طريق إقليمية جديدة.
4- هذه الخارطة الإقليمية تدعم “خارطة الطريق” الفلسطينية وتحضنها، ولكنها أوسع وأشمل وتأخذ مصالح دول مثل مصر والسعودية وسوريا وغيرها، وذلك بمقابل واضح طبعا هو التخلي عن إيران وعن نهج المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق.. ومع أخذ الواقع اللبناني الجديد بعين الاعتبار.
5- نحن إذا أمام “خارطة طريق” جديدة للسنوات القادمة، بغض النظر إن عبر عنها في نص يحمل هذا العنوان أم لا. هذا ما سوف يتمخض عنه التحرك الأميركي الجديد. ليس حلا دائما أو غير دائم، ولا انسحابا من الجولان، بل “خارطة طريق” جديدة قد تتضمن ذلك.
وسوف تصاحبنا هذه الحركة للتوصل إلى الخارطة الجديدة، وليس للتوصل إلى حلول. وسوف تشغلنا طيلة الأعوام القادمة، اللهم إلا إذا قطعتها أحداث عظيمة الشأن مثل تجدد المقاومة والحروب وغيرها.
ولتصوير فرضياتنا الواردة أعلاه نناقش نقديا باقتضاب محاضرة رئيس لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس جون كيري في مركز سابان/ بروكنجز في واشنطن في الرابع من مارس/آذار 2009، وذلك بعد زيارة إلى المنطقة شملت مصر والأردن وسوريا ولبنان وإسرائيل والضفة الغربية وقطاع غزة.
وكيري هو مرشح رئاسي سابق ومن أقطاب الحزب الديمقراطي الذين دعموا باراك أوباما مبكرا. وهذا هو المكان للعودة إلى تحليل سبق أن طرحه الكاتب وهو أن استنتاجات لجنة بيكر هاملتون، بما فيها وزير الأمن بيل غيتس، هي ما تطبقه الإدارة الجديدة في المنطقة.. وهذا بالضبط ما جعلها تحافظ على غيتس في منصبه.
ويعني أيضا أن المؤسسة الأميركية استنتجت كل ما يلزم استنتاجه من فشل سياسة الحرب التي قادتها إدارة بوش تشيني في فترة بوش. وهذا ما جعل المؤسسة الأميركية تتبنى المرشح أوباما. ولنقرأ في استنتاجات كيري من زيارته للمنطقة، خاصة أنها مطروحة بشكل منهجي يستحق المناقشة.
يعتبر كيري في بداية المحاضرة انتخاب أوباما فرصة جديدة للمنطقة ببراغماتيته الجديدة و”استعداده إلى أن يصغي ويقود”. وطبعا يورد كيري الانطباعات “العاطفية” من الزيارة بشكل منتقى ومحسوب برأينا.
فنرى أن “أعمق الأثر” تركته في نفسه “معاناة” مستوطنة سديروت طيلة السنوات الثماني الماضية، أما في حالة غزة فقد أكد على دمار المدرسة الأميركية بعد تعرضها للقصف.. (لدينا مشكلة حقيقية مع الليبراليين الذين يودون أن يبدوا معتدلين ومتوازنين. فهم يجمِّلون الضحية حين يريدون التضامن مع جزء منها، وليس أفضل من طفلة على خرائب مدرسة أميركية في غزة لتأدية الغرض.. أما دولة الاحتلال فهي مقبولة في معسكرهم كما هي، إنها الضحية الدائمة والحصرية).
يعدد كيري أربعة أسباب للأمل، وذلك رغم انتخاب نتنياهو، ورغم الحروب. وسوف نرى أنه لا يأمل فعلا بحل بل هو متفائل بإمكانية التوصل إلى “خارطة طريق” جديدة:
1- لقد أدى صعود إيران إلى “استعداد غير مسبوق لدى الدول العربية المعتدلة للتعاون مع إسرائيل”.. وسوف يؤدي ذلك برأيه إلى إرساء أساسٍ متينٍ للمضي نحو السلام.. أي أن التعاون الإستراتيجي الإسرائيلي العربي يسبق السلام. هنا طبعا يُسْأَل السؤالُ: ما حاجة إسرائيل إلى حلول مع من بات يتعاون معها إستراتيجيا ضد أعداء مشتركين؟
2- يؤكد كيري على مبادرة السلام العربية.. فوجودها يشكل أساسا لبناء خارطة طريق إقليمية جديدة.. وتتضمن هذه الخارطة: “أن تلعب الدول العربية المعتدلة دورا أكثر نشاطا في صنع السلام”.
3- يقول كيري، مثل كل ناشط متوسط في حزب العمل الإسرائيلي، وكما قال أولمرت نفسه في المقابلة الوداعية الشهيرة لصحيفة يديعوت أحرونوت ( 13 أكتوبر/تشرين الأول 2008) بعد نزع الثقة عن حكومته في الكنيست: إن الخطوط العريضة للحل الدائم باتت واضحة. ويكمن التحدي برأيه في كيفية الوصول إلى هناك. وبرأيه يجب بناء “قوة وكفاءة” السلطة الفلسطينية في المجالين الاقتصادي والأمني بموازاة لأية مفاوضات تقود إلى الحل الدائم.
من الملفت هنا أن كيري يؤكد أن خطوط الحل الدائم باتت واضحة ولكنه لا يجرؤ على التعريف بها صراحة، والأهم أنه يجعل الطريق إليها هو الأساس. عدنا إلى: العملية كل شيء، الهدف لا شيء، والحياة مفاوضات.
4- انتخاب أوباما, هنالك فرصة بوجود إدارة تدعم قوى الاعتدال والسلام. وهو يقصد أن الإدارة السابقة لم توفر لهذه القوى الدعم الكافي وأبقتها في حالة ضغط وصدام مع محيطها دون تفهم لأوضاعها ومصالحها.
لقد وصلنا إلى انقلاب كامل في الموقف العربي. كان الموقف العربي القومي يقضي بأن فصل القضية الفلسطينية عن عمقها العربي هو تآمر لتصفيتها. ووقع فصل القضية عن بعدها القومي في كامب ديفد ثم في أوسلو، وتم التسليم به.
ولكن القيادة الفلسطينية فشلت داخليا وخارجيا في التوصل إلى حل مع إسرائيل. وعاد الاستنتاج فجأة بضرورة العودة إلى البعد الإقليمي ليس بسبب البعد القومي العربي، بل لأن الأخير لم يعد يشكل تهديدا.
ولأن النظام الرسمي العربي تخلى عن هذا البعد القومي للقضية الفلسطينية ولغيرها. هذا انقلاب كامل.
ومن هنا برأينا يستنتج كيري أن القضية الفلسطينية هي قضية إقليمية يجب التعامل معها ضمن خطة تشمل بقية القضايا. هذا خلافا لمحاولة فصلها في الماضي. ويقول إنه يمكن تبني هذه المقاربة بسبب الموقف الإقليمي الحالي من إيران: فقد ولَّت اللاءات الرسمية العربية الثلاث من الخرطوم، وحلت مكانها لاءات رسمية أخرى ضد التسلح النووي وضد التدخل الإيراني.
ويضيف كيري في محاضرته حرفيا أن: “الدول العربية المعتدلة تتعاون اليوم مع إسرائيل بأشكال لم يكن ممكنا تخيلها قبل سنوات معدودة”.
ويتابع أن إدارة بوش وضعت خطوطا حمرا أكثر مما يجب، ومنها ما لم تستطع تنفيذه.. وهو يقصد تحريم محاورة إيران وسوريا وغيرها. في حين أن إدارة أوباما يجب أن تركز جهودها في ما يمكن فعله وترك المعارك الجانبية. الهدف الإقليمي هو منع إيران من التسلح النووي. ولذلك، ودون التخلي عن الخيار العسكري، يجب برأي كيري تجاوز الخطوط الحمر السابقة.
فمثلا يجب الاستعداد للتحاور مع إيران حول مصالح مشتركة في أفغانستان وغيرها واستيعاب إيران دوليا والاعتراف بدورها في مقابل وقف التخصيب. ويجب التحاور مع سوريا لعزل وإضعاف إيران وأدواتها مثل المقاومة اللبنانية.
كما لا بد من طلب التعاون من الصين وروسيا.. وطبعا لا يكمل كيري شرح الثمن. فلروسيا مطالب تمتد من البلطيق شمالا وحتى صربيا جنوبا، وحول بحر قزوين والبحر الأسود، وكذلك للصين. فهل ستغضب الولايات المتحدة حلفاء لها آخرين في العالم وتضحي بهم لإرضاء الصين وروسيا، كل ذلك لغرض محاصرة إيران وفي خدمة إسرائيل؟ لم يتعب كيري نفسه كثيرا في متابعة سلسلة الاستنتاجات.
يدعم كيري الحوار مع سوريا ويعتبر أهدافه واقعية، فسوريا فاوضت إسرائيل في السابق رغم اعتراض إيران. وطبعا بإمكان سوريا برأيه أن تلعب “على جهتي السياج” لفترة من الزمن، ولكن رئيسها يفهم برأيه “أنها كدولة علمانية ذات أغلبية سنية تدرك أن مصالحها في الغرب وفي العالم العربي وليس مع إيران”.
وكأن كيري الآن يريد أن يشرح لسوريا تركيبتها السكانية. ولكن ما دامت هذه مصالحها فلماذا لم تدركها من قبل؟ لأن كيري لم يتشرف بشرحها، أم لأن هنالك لقاء بين الأمن الوطني السوري ومفهوم الأمن القومي العربي ساهمت السياسات الأميركية والإسرائيلية وحلفاؤهما العرب في تعميقه؟ طبعا هو يدرك أن التساؤل الأخير في مكانه.
ولذلك لا تعارض أميركا محاولة الحلفاء العرب احتضان سوريا حاليا والامتناع عن تنفيرها. ولكن هذا لا يكفي. فهنالك مصالح سورية وعربية ليس لدى الولايات المتحدة وإسرائيل المرونة الكافية لتلبيتها.
ولذلك يبقى الحوار مع سوريا، الحوار وحده، مصلحة للطرفين. وسوريا تلعب هذه اللعبة لأن لديها مصالح سياسية واقتصادية في كسر الحصار عنها. وطبعا ربما يجد المرء في النخبة الحاكمة من يعول على الحوار أكثر، وكيري يدرك ذلك خاصة في مجال ربط سوريا بالاقتصاد الغربي، ولكن هذا البعض ليس صانع قرار في سوريا بعد.
أين البداية؟ تكمن البداية في تشجيع العرب على التمسك بمبادرة السلام العربية، التي لم تلق الصدى والتشجيع الذي تستحق من قبل الإدارة الأميركية السابقة. وهو يلخصها بالأرض في مقابل السلام والاعتراف بإسرائيل وتطبيع العلاقات. ولكنه مثل إسرائيل ما زال في كافة تحليلاته يعتبر التطبيع سابقا على السلام.
فمثلا هنالك “خارطة الطريق” الرباعية للمسار الفلسطيني. ولكن المنطقة تحتاج إلى “خارطة طريق إقليمية”، يتبعها نشاط يذكِّر بالنشاط الأميركي الإقليمي المتكامل في المنطقة بعد العام 1991. وهو نشاط يحب الجميع أن يتذكروه مع أنه لم يقد إلى شيء على مستوى الحلول للعرب.
كما أن المطلوب الآن من الدول العربية أن تضغط على حماس لتوقف إطلاق الصواريخ وتوافق على حكومة وحدة بشروط الرباعية المعروفة. وعلى مصر أن تضبط تهريب السلاح، وأن تواصل الأردن تدريب الأجهزة الأمنية الفلسطينية.
هنا وفي إطار التنسيق مع دول الاعتدال وشرح واجباتها لها، تُدّسُّ فجأة في المحاضرة ملاحظة مقصودة ضد قطر. يقول كيري: “لا يمكن لقطر أن تكون حليفة للولايات المتحدة يوم الاثنين، وأن تدعم حماس بالمال يوم الثلاثاء”!! هذا كلام عربي. نعرف أن بعض أتباع أميركا العرب كانوا يرددون في الإعلام العربي أن قطر تدعم حماس وهي في الواقع حليف لأميركا، كان هذا يقال للتشكيك بدعمها لحماس حين كان موجها للعرب.
أما حين يقال لمسؤول أميركي في اجتماع فهو يكرر كما هو ولكن مقلوبا، فهدفه يصبح التشكيك بتحالفها مع أميركا، كيف يمكن أن تكون قطر مخلصة لتحالفها مع أميركا وهي تدعم حماس؟ وطبعا لتكتمل الوشاية على النمط العربي يقال إنها تدعمها بالمال.
المطلوب هو دعم السلطة اقتصاديا وأمنيا. وهذا يبدأ بمنع حماس من الاستفادة من إعادة بناء غزة لتجنب ما حصل مع حزب الله في لبنان. فالأخير استفاد من الحرب ومن إعادة الإعمار في الوقت ذاته.
والخطوة الوحيدة التي يعرضها كيري مقابل كل ما هو مطلوب من الحلفاء العرب هي العمل بجدية أكبر لفرض تجميد الاستيطان على إسرائيل، معترفا بأن التصريح بأن موقف الإدارات المتعاقبة أن الاستيطان عقبة أمام السلام بقي حبرا على ورق.
يجدر بنا أن نذكر هنا أن إدارة أوباما أكثر تشددا في موضوع دارفور ضد السودان من إدارة بوش، فمن جماعات الضغط الرئيسية فيها أوساط تحرض الأفارقة السود ضد العرب، وهو أمر سهل مع بعض الأفارقة أخذا بعين الاعتبار طبيعة القوى العربية الحاكمة. (وهذا التحريض هو إستراتيجيتها الأساسية في مواجهة مؤتمر ديربن أيضا)، وتخترع تحالفا ليبراليا صهيونيا أفريقيا، وتعتبر “إبادة الشعوب” المزعومة في دارفور أحد عناصر فولذته ضد العرب. ومن ممثلي هذا اللوبي في الحزب الديمقراطي منذ أيام أوباما في شيكاغو المندوبة الدائمة لدى الأمم المتحدة سوزان رايس.
ربما يصلح الإطار المطروح أعلاه بما في ذلك تصويره عبر استعراض محاضرة كيري نقديا في فهم الهجمة الأميركية الحالية على المنطقة، وفي فهم بعض التحركات العربية التصالحية الطابع. ولا بد من العودة للتساؤل المطروح في بداية المقال عن إستراتيجية القوى المؤيدة لمراجعة نهج التسوية برمته، فحتى فترة قصيرة كان الظرف مؤاتيا تحديدا لها، وليس لقوى التسوية.
الجزيرة نت