هل يستبق الخيال السياسي في منطقتنا وضعية الانتظار البليد؟
نهلة الشهال
تطبيقاً لقصص الخيال العلمي على السياسة، يمكن حبك صورة لمستقبل ليس ببعيد جداً – بعكس أزمنة تلك القصص، تستعيد فيه سورية نصف الجولان، وتباشر هناك مشاريع سياحية واستثمارية كبرى بإشراف وضمانة أميركيين وتمويل عربي ودولي متنوع. تعتمد قصص الخيال العلمي على الواقع، على معطيات متوفرة يقوم الخيال بدفعها نحو آفاق لم تصلها بعد. وهو بذلك يستبق التطور، متّبعاً آلية تؤدي في الواقع إلى تجسيد العديد من الاختراعات المقبلة وتدفع إلى تحقيقها. كانت الدوائر الأكثر نفوذا في الاتحاد السوفياتي السابق ترعى بشكل مباشر وحثيث مواهب كتّاب هذا الميدان، وكذلك تفعل وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، أو المكتب المولج بذلك داخل إدارتها. ولا تتوفر معلومات عما يجري في الصين، ولكن من المسموح افتراض وجود مكتب في غاية السرية يراقب – ويواكب – ما تنتجه عقول جامحة لعلماء وروائيين يضيق بهم الحاضر! الدول العظمى فحسب تتمكن من الالتفات إلى هذا الشأن أو تعتبر نفسها معنية بمثل هذا الطموح.
لكن الخيال السياسي لا يتطلب توفر إمكانات مشابهة. فيوم حصل اتفاق أوسلو مثلا، قيل (في تبريره) إن منظمة تحرير فلسطينية على هذا القدر من الفوضى، ومن نخر الفساد لها، ومن الارتباط العضوي بواقع عربي رسمي، هو الآخر على هذا القدر من التخلي والعجز والتواطؤ… كل ذلك واقع لا يمكن أن ينتج أفضل من ذلك. صحيح! ويوم حقق حزب الله انتصارات كبرى، في 2000 و2006، قيل إنها نتاج بنية فولاذية، تدعمها إيديولوجيا مستنهضة للهمم، وعمل ميداني شديد العقلانية، دؤوب ومتشعب العناصر، ومساندة مادية ولوجستية بلا حساب لدول صديقة. صحيح! وحين لم يقاوم الشعب العراقي زحف القوات الأميركية الغازية، واختفت وتحللت مؤسسات الدولة العراقية كأنها فص ملح، قيل: ذاك نتاج عقود من ديكتاتورية سحقت المجتمع وأفنت قدرته على المبادرة، ونتاج حروب متواصلة منهكة، وحصار قاس أدى إلى القضاء على ما تبقى، في ظل رفض صدام حسين ونظامه الاعتراف بالمأزق التاريخي الذي أوصلا إليه البلاد، وتعنتهما في الاستمرار كأن شيئاً لم يكن. صحيح! القانون يقول إن «النتائج مرتبطة بالمقدمات».
ولكن المشكلة كل المشكلة هي في التطبيق الميكانيكي للقاعدة، حيث يُغفَل عن عناصر أخرى فاعلة غير تلك الأساسية، وأيضاً عن الحاجة إلى حلول لحظة محددة، هي النضج الذي يفرض تطابق طرفي المعادلة. فكم قيل إن سورية – التي يسود فيها نظام اقتصادي-اجتماعي ليبرالي بطريقته العجيبة متقدم الملامح، نقيضٌ لكل شروط «المواجهة» – تقاتل إسرائيل في لبنان وباللبنانيين، ولكنها غير مستعدة لإطلاق طلقة واحدة من حدودها، وأنها تفعل تحسيناً فحسب لشروط التسوية التي تبحث عنها… وهي تأكيدات كانت بلا طائل طالما كانت الظروف المحيطة لا تطّل بها على مآل ما. وكان من حق الأطراف الحليفة لسورية، والمستفيدة من تلك الوضعية، التغاضي عنها خدمة لاستراتيجياتها الخاصة ومصالحها هي.
يبدو ذلك على وشك التغير الآن. تبدو «لحظة النضج» ممكنة. أحد عناصرها رحيل بوش وحلول أوباما، وما يعنيه ذلك من تغيير في المقاربة الإستراتيجية الأميركية للعالم، ليس كتحول نحو العدالة أو سواها من السذاجات المضجرة، ولكن كمراجعة جادة يفرضها تقييم محصلة الإستراتيجية السالفة من زاوية نظر «المصلحة الوطنية الأميركية» وليس سواها، تلك نفسها التي لم يتوقف بوش عن الاعتداد بها واستخدامها لتبرير كل ما فعل. وهنا، لا بد من العودة للقول إن الطبعة البوشية من تجسيد انتصار الولايات المتحدة في الحرب الباردة لم تكن قدراً حتمياً، أو ضرورة، وكان من الممكن أن يتحقق ذلك بصورة مختلفة. وبالتأكيد، فقد شرعنت الأزمة الاقتصادية العاصفة النقاش العالمي الدائر اليوم حول احتمالات تطور الرأسمالية، وعما إذا كانت الطبعة النيوليبرالية الممتزجة بقدر عال من الخصائص المافياوية، هي مسرب وحيد وحتمي لذلك التطور. ولكن النقاش ذاته بدأ قبل ذلك بكثير، في الأوساط المؤيدة للرأسمالية، كما لدى الداعين لتخيل «عالم آخر ممكن».
العناصر الأخرى في اقتراب محتمل للحظة النضج تلك متعددة. فقد حصل توازن بين أجنحة «النظام العربي»، وتم فعلياً تحدي بل تعطيل هرمية كانت سائدة فيه، تحتل مصر والسعودية قمتها، وبدا أن بديلها يمكن أن يكون تذررا قابلا للاستمرار، سيما وأن أحد المكونات الأساسية لذلك النظام، أي العراق، كان غائبا تماما، بل كان هو نفسه مسرحاً للتصارع والتجاذب. التوازن المعطِّل ذاك يعطي لسورية مكانة لائقة في التفاوض على موقعها داخل النظام العربي، وفي تسوية شاملة برعاية أميركية. والتغييرات المتوقعة في العراق وبخصوصه، وإن كان تأثير مفاعيلها ما زال مرتبكاً، كما من المبكر إدخاله في الحساب (وليس تخمينه)، تلقي بظلالها هي الأخرى على دوافع الأطراف وسلوكياتهم. ولعله يجب أيضاً، في الحسابات، إدخال الدور الذي تلعبه تركيا في المنطقة، وقدرتها النسبية على موازنة ما للدور الإيراني بخصوص العديد من الملفات، كما الحساسيات.
لا يعني ذلك كله أن سورية ستستفيق غداً وقد قلبت سترتها، وأن المعضلات التي تقف في طريق انخراطها في تسوية مع إسرائيل قد اختفت، سيما وأنه قد تشهد المرحلة المقبلة توتراً غير مسبوق بين «المصالح الوطنية الأميركية» وتلك الإسرائيلية، يفترض بالخيال السياسي أن ينطلق في رسم سيناريوهاته، من دون إيديولوجيا، ومن دون إسقاط الرغبات عليه. كما لا يعني استحالة حصول «انتكاسة» في هذه الوجهة كما عبرت عنها لقاءات الرياض الجارية هذه الأيام. يقول الرئيس الأسد «لنتفق على كيفية إدارة الخلاف»، ويبدو متمكناً من الوقت، بخلاف نظرائه… وفي القاهرة، تجري المباحثات الفلسطينية – الفلسطينية وقد ألقت كل تلك المعطيات بظلالها عليها.
أوسلو، وقبلها هزيمة 1967، وبعدها احتلال العراق، كلها كانت «مفاجآت». هل يستبق الخيال السياسي هذه المرة وضعية الانتظار البليد تلك؟
الحياة