الأزمة الفلسطينية وضرورة مراجعة الذات
برهان غليون
لم يكن انقسام الرأي العام والحركات السياسية في الخمسينيات والستينيات، بين وحدويين وقطريين، مما شكل محور النقاش السياسي لعقود طويلة، مستقلا عن خيارات استراتيجية وسياسية أساسية. فقد كان أنصار الفكرة القومية يعتقدون أن أولوية تحقيق الوحدة نابعة من أنها شرط التحرر من السيطرة الأجنبية، ومن وراء ذلك استعادة الشعوب العربية لهويتها وأصالتها وشخصيتها، وانخراطها الفعلي والفعال على طريق الحضارة الحديثة. ذلك أن نهضة المجتمعات رهن بتحررها واستقلالها وسيادتها، ولا تحرر ولا استقلال ولا سيادة للدول والأقطار العربية، صغيرها وكبيرها، من دون تفكيك نظام السيطرة الأجنبية. وفي المقابل، كان أنصار الفكرة الليبرالية الذين استلموا السلطة في البلاد العربية بعد رحيل الاستعمار يرون أن الأولوية ينبغي أن تعطى لتحسين شروط حياة الشعوب وتحديثها، وأن مثل هذا البرنامج يستدعي التكيف مع الواقع العربي القائم، مهما كانت أسباب ولادته ونشوئه، والتعامل مع القوى الدولية الكبرى، في نطاق الهامش المتاح، على أمل تغييره في المستقبل. ومن هنا، كما دفعت الفكرة القومية بأصحابها إلى التوجه نحو استراتيجية الثورة والانقلاب لمواجهة النظام القائم، دفعت الفكرة الليبرالية التي كانت منافستها الأولى إلى التقرب بشكل اكبر من الدول الغربية والاستعمارية السابقة والتعاون بل والتفاهم معها، كما حصل في الخمسينات والستينات.
ولعلنا نلحظ معالم هذا الانقسام واختياراته المتناقضة وقد عادت من جديد إلى واقعنا العربي بعد أن فقدت الحركة القومية نفوذها الواسع وتقلصت سيطرتها في العقود الثلاث الماضية. ويكاد الوضع الفلسطيني يقدم مثالا ناصعا لهذا التناقض الذي وصل إلى حدوده القصوى بين الخيارين، بمقدار ما تمثل الحالة الفلسطينية حالة حدية قصوى في تاريخ تحرر العرب الحديث. فكيف يمكن الجمع، ولو بصعوبة، بين مهام تحرير الأرض الفلسطينية من مستعمر غاشم بكل المعاني، من جهة، وتأمين شروط العيش الطبيعي، ولو بحدوده الدنيا، من جهة ثانية؟ فالأولى تقتضي القطيعة مع نظام الاحتلال ومن يتعامل معه، والثانية لا تستقيم إلا بالتكيف أو التعامل أو التفاهم مع نظام السيطرة القائمة. وهي الصعوبة التي تكتشفها حماس السلطة في غزة، حيث المقاومة تعني التضحية بشروط الحياة الطبيعية الدنيا، كما تكتشفها سلطة فتح في الضفة حيث لا يمكن الحفاظ على شروط الحياة الإنسانية من دون مساومة مبدئية، ليس مع سلطات الاحتلال فحسب وإنما مع النظام الدولي الذي يدعمها.
ويكاد تاريخ القضية الفلسطينية يلخص التاريخ السياسي العربي الحديث ويعيده من جديد إلى نقطة الصفر في الوقت نفسه. فمثلما حدث في جميع الأقطار العربية، تحولت فتح ذات الفكر القومي والثوري والفدائي، شيئا فشيئا، وبموازاة وصولها إلى السلطة وتمثلها منطقها، وممارستها لمسؤولياتها فيها، وهي تتركز قبل أي شيء آخر على تحسين شروط حياة السكان، كأي نظام دولة، إلى حركة مسالمة ومساومة في الوقت نفسه. وهو ما حصل من قبل لجميع الحركات الاستقلالية العربية التي انتزعت استقلالها من الاستعمار. وبالمقابل، يؤدي تمسك حماس بمنطق المقاومة إلى تعريض منطقة سيطرتها للانتقام، وما يجره من دمار، ويخرجها من المعادلة السياسية الإقليمية والدولية.
والسبب أن التناقض بين مصالح القوى الاجنبية واختياراتها، وهنا مطامح إسرائيل ومطامعها على سبيل المثال، والمصالح الدنيا للشعوب العربية، في السلام والاستقرار والأمن والتنمية الإنسانية الطبيعية، يكاد يكون من الشدة بحيث يلغي أي إمكانية للتسوية او لتسوية مقبولة. فأي تسوية يمكن أن تحصل بين إسرائيل تريد وتعمل علنا على انتزاع الأرض من ساكنيها واستيطانها، وشعب فلسطيني يريد العيش بسلام على أرضه، أو ما تبقى منها؟
إخفاق النظم الليبرالية العربية لحقبة ما بعد الاستقلال في ايجاد جواب لهذه المعادلة الصعبة بين والاستقلال والسيادة من جهة، والتنمية الإنسانية من جهة أخرى، ألم يترك لها خيارا سوى الرحيل تحت ضغط الحركة الشعبية والقومية الناقمة. لكن حظ الحركة القومية الشعبية التي انتزعت القيادة منها، لم يكن أفضل من ذلك في حل هذا التناقض التاريخي في الحياة العربية الحديثة. بل ربما كان إخفاقها مضاعفا بالمقارنة من النخبة التي سبقتها. فقد ضحت بمصالح التنمية العربية من دون ان تربح معركة مواجهة النفوذ الغربي. هكذا وجدت الشعوب العربية نفسها في حالة تفاقمت فيها السيطرة الخارجية والتبعية المباشرة للغرب مع فساد النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية وانعدام فرص التنمية الانسانية.
زيادة الضغط الخارجي تزيد الانقسام داخل الشعوب، بمقدار ما تفرقهم في اختيار استراتيجيات المواجهة. ويزيد هذا التفرق في قوة النفوذ الأجنبي ومقدراته على التلاعب بالقوى المحلية واستتباعها، ويقضي في النهاية على الحركة الوطنية بأكملها، محولا قسما منها إلى متمردين على النظام وخارجين عليه موسومين بالمروق والإرهاب، وقسما آخر إلى عملاء يحتضنهم النظام ليستخدمهم أداة في تحقيق سياساته واستراتيجيته.
هكذا حصل فرط الشعوب والحركات الوطنية التي قادتها في العديد من بلدان العالم. ولا يختلف عن هذا ما تعيشه اليوم الحركة الوطنية الفلسطينية التي يتهم بعضها بالعمالة للغرب وإسرائيل وبعضها الآخر بالعمل لحساب أجندة ايرانية ليس لها علاقة بالعرب. والنتيجة تخوينا متبادلا، هو مقدمة لصراعات ونزاعات أهلية تجهض الحركة من الداخل وتقضي على أحلام الشعب الفسطيني الوطنية.
لا ينبغي أن نركن للتفكير المبسط والانفعالي الذي يقود إلى العداء والقطيعة داخل صفوف الحركة الواحدة. وفتح وحماس هما مكونان أساسيان في هذه الحركة. ولا ينبغي كذلك أن نسكر بالانتصارات الجزئية حتى لو كانت نتيجة تضحيات كبيرة، فنعتقد أننا قادرين لوحدنا، كطرف مقاوم أو كطرف مساوم على القيام بالتزامات القضية واستحقاقاتها. لا يزال الطريق طويلا جدا امام الفلسطينيين، ومزروعا بالألغام الاسرائيلية والغربية والعربية أيضا. ولا يحق لنا أن ننسى الدرس الذي استخلصته حركات التحرر الوطني خلال أكثر من قرن من الكفاح والصراع مع العدو نفسه، وهو الحفاظ، مهما كان الثمن، على وحدة الحركة الوطنية، ومن ورائها على الوحدة الوطنية نفسها. إن تغلبنا على الانقسام الذي يدفعنا إليه عجزنا وأحيانا إخفاقنا المشترك، من ثورويين قوميين وإسلاميين مقاومين، وليبراليين علمانيين، متعايشين ومتعاملين ومعتدلين، هو وحده الذي يمكننا من احتواء الضغوط الخارجية، ومنع أعدائنا من اختراق صفوفنا، واللعب على تناقضاتنا الداخلية. وبالعكس، إن فشلنا في التوصل إلى تسوية تمكنا من استعادة وحدتنا ومبادرتنا الوطنية، يعني أن نظام السيطرة الأجنبية قد نجح في تحقيق أهدافه، وفي فرط مجتمعاتنا وحركاتنا الوطنية والتحررية، ونقل الحرب الخارجية لتصبح حربا داخليا نواجه فيها بعضنا البعض.
ليس هناك، ولم يكن عبر التاريخ، حلا للتناقض القائم بين المقاومة والدولة. فهو أحد مكونات الوضع الاستعماري أو شبه الاستعماري نفسه. ولن يزول إلا بزواله. إنما هناك بالضرورة، ولا بد أن يكون هناك، من أجل العمل على هذا الزوال، تسويات مؤقتة، وحلول عملية، جزئية أو أكثر من جزئية، تحول دون الصدام وتجنب النزاع، وتحقق أوسع وحدة وطنية ممكنة، بهدف تكثيف الضغط على القوى الاستعمارية، ولعل ما حصل في لبنان من اتفاق بين الدولة والمقاومة مثال على العمل الذي ينبغي القيام به في فلسطين للحفاظ على ما يشبه الدولة ومهامها، حتى لا يسقط المجتمع في الفوضى والجهل والتخلف وغياب القانون، وتمكين المقاومة من متابعة عملها حتى لا يشعر العدو بالراحة ولا يطمئن إلى المكاسب التي حققها ويعتبرها نهائية، وفي مقدمها ضم الارض واستيطانها ومنع قيام دولة فلسطينية مستقلة.
يستدعي هذا بالتاكيد مراجعة من قبل الأطراف جميعا، حتى تكون الدولة دولة، وليست وكرا لأصحاب المصالح المكرسة، وحتى تبقى المقاومة في إطار أجندة وطنية شاملة تأخذ بالاعتبار مصلحة القضية العليا والشعب بأكمله، ولا تكون رهينة أجندة سياسية تمارس لتحقيق تقدم فريق سياسي على آخر. وليست هذه المراجعة من المستحيلات، إنما يحتاج تحقيقها إلى صفاء ذهني ونكران للذات وارتفاع على الحزازات والحساسيات والنزاعات الصغيرة. لكن وحده الذي يملك مثل هذه الملكات هو الذي يحقق الوحدة من حوله، أي يقدر ان يستوعب الآخر، ويكسب الرهان.