تباين المواقف بين الولايات المتحدة وأوروبا حول محاكمة البشير
د. يوسف نور عوض
يثير قرار محكمة الجنايات الدولية كثيرا من التساؤلات حول النظام السياسي الذي يتحكم في عالم اليوم، وما إذا كان هذا النظام يتسم بالعدالة؟ ولا شك أن مثل هذه القرارات تحدث ربكة في النظم السياسية لاصطيادها في الماء العكر، وذلك ما حدث في السودان إذ تجاهل الكثيرون طبيعة النظم التي تقف وراء هذه القرارات، وركزوا فقط على ما يخدم مصالحهم باعتبار قرارات محكمة الجنايات الدولية وسيلة لتحقيق العدالة، وذلك ضرب من الانتهازية السياسية إن لم يكن في ذات الوقت ضربا من السذاجة، ذلك أن محكمة الجنايات الدولية التي لم تحصل على توقيع سائر الدول في المجتمع العالمي تستخدم مجلس الأمن وسيلة لإنفاذ قراراتها، ولكن ما هو مجلس الأمن؟
إنه المؤسسة التي حيدت الجمعية العامة وجعلت القرار السياسي في أيدي خمس من الدول ثلاث منها لها أهداف استعمارية واضحة واثنتان غير قادرتين على اتخاذ قرار مستقل، وهذه الدول لا تستطيع أن تقول إنها محايدة أو أنه ليست لديها أجندة سياسية خاصة بها، وإذا كان الأمر كذلك فلماذا يقبل المجتمع الدولي أن يرهن مصيره في أيدي دول لا يتفق على نزاهتها؟ الإجابة تثير تساؤلا حول جدوى مجلس الأمن بل وجدوى الأمم المتحدة ذاتها في ظل نظام يقنن الظلم ويتيح للدول ذات التاريخ الاستعماري أن تستمر في سيطرتها على العالم من خلال نظام عدالة لا تطبقه على نفسها وتطبقه بمنتهى القسوة على غيرها.
وقبل أن نتحدث عن الكيفية التي أجازت بها محكمة الجنايات الدولية أن تقدم اتهامات إلى الرئيس السوداني نتوقف عند موقف المدعي العام من الاتهامات التي يمكن أن تقدم إلى إسرائيل بسبب ما ارتكبته من جرائم في حرب غزة الأخيرة، فقد قال المدعي العام إن المحكمة ليست لديها الصلاحيات القانونية التي تحاكم بها من ارتكبوا جرائم حرب في غزة كما طالبت بذلك منظمات حقوق الإنسان في مختلف أنحاء العالم، فإذا كان الوضع كذلك فما الذي أعطى محكمة الجنايات الدولية الحق لمحاكمة الرئيس السوداني؟ وإذا افترضنا أن ما قاله المدعي العام صحيحا أما كان من الممكن من الناحية النظرية أخذ الأمر إلى مجلس الأمن لمطالبة المحكمة باتخاذ إجراءات ضد إسرائيل؟ نعم كان ذلك ممكنا من الناحية النظرية ولكن بالتأكيد فإن مجلس الأمن لم يكن ليقرر ذلك لأن أي قرار من هذا النوع ينتظره الفيتو الأمريكي أو الأوروبي وتلك هي المشكلة التي تواجه نظام العدالة الدولي لأنه باحتكار القوى الاستعمارية للفيتو في مجلس الأمن فهي قد أخضعت نظام عمل الأمم المتحدة بأسره لرغبتها وإذا كان ذلك جائزا في عهد الاستعمار فلا يمكن أن يكون جائزا بعد أن نالت معظم دول العالم استقلالها، إذ ما الذي يعطي فرنسا أو الولايات المتحدة أو بريطانيا امتيازا على غيرها من الدول المستقلة لتتحكم في القرار الدولي بعد أن ثبت أن هذه الدول تتخذ القرارات وفقا لمصالحها وليس وفقا لمصالح المجتمع الدولي؟
ولا شك أن قرارات محكمة الجنايات الدولية ستواجه دائما تحديات مثل التي تواجهها الآن في السودان، ولكن هذه التحديات قد لا تكون هي الحل الأمثل لمواجهتها لأننا سنجد أطرافا أخرى لها مصلحة في دعمها وقد رأينا في الحالة السودانية أن فصائل التمرد أيدت القرار وطالبت بمحاكمة الرئيس السوداني كما رأينا الدكتور حسن الترابي يطالب بأن تأخذ العدالة مجراها ويعني ذلك أن تستمر إجراءات المحاكمة. ولا شك أن الموقفين ينطلقان من رؤية ضيقة للمصالح الخاصة قبل مصالح الوطن العامة، ذلك أن الكثيرين ممن خرجوا لتأييد الرئيس البشير قالوا بوضوح إن موقفهم لا ينطلق من تأييد خاص للرئيس البشير بقدر ما هو موقف وطني عام يرى أن الاقتراب من رأس الدولة هو اعتداء على استقلالية الوطن وحريته، ويظهر هذا بشكل جلي في موقف السيد الصادق المهدي الذي على الرغم من خلافاته مع الحكومة فقد أعلن صراحة أنه لا يؤيد تسليم رئيس الدولة لأي جهة خارجية وذلك موقف أعطى السيد الصادق المهدي تقديرا سياسيا عاليا.
ونعترف بان القضية في مجملها قضية سياسية ولكنها أعطيت شكلا قانونيا، وبالتالي حين نتوقف لمعرفة طبيعة التآمر المحاك ضد السودان فلا بد أن ننطلق من الأسس القانونية التي تعتمد عليها محكمة الجنايات الدولية في المطالبة بمحاكمة الرئيس البشير.
والمعروف أن محكمة الجنايات الدولية كما قالت دراسة حديثة هي محاولة أوروبية تستهدف خدمة المصالح الأوروبية في مواجهة النفوذ الأمريكي وهي تستند أساسا على اتفاقية روما، وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة وقعت على اتفاقية روما فإن الكونغرس لم يوافق على الاتفاقية وبالتالي لم تعد الولايات المتحدة من الدول التي تعتمد الاتفاقية بل ذهبت الولايات المتحدة إلى أبعد من ذلك عندما اصدر الرئيس بوش قانونا يدعو إلى استخدام القوة ضد المحكمة إذا ما قامت باعتقال أي مواطن أمريكي تتهمه هذه المحكمة بارتكاب جرائم حرب. وعلى الرغم من أن السودان لم يوقع على الاتفاقية فقد نجحت بعض الدول الأوروبية في إقناع المجتمع الدولي بأن هناك عمليات إبادة وجرائم حرب ترتكب في إقليم دارفور ومسؤول عنها النظام السوداني من خلال ما تقوم به فصائل الجنجويد مع صمت كامل في ما يتعلق بما تقوم به فصائل المتمردين.
ولعل الشيء الخافي على الكثيرين حتى هذه اللحظة هو أن الصراع الدائر في محكمة الجنايات الدولية هو بين أوروبا والولايات المتحدة، ذلك أن الولايات المتحدة لم تكن متحمسة لتقديم الرئيس البشير لهذه المحكمة التي لا تعترف بها ولكن أوروبا ظلت تدفع في اتجاه المحكمة كوسيلة لمواجهة ما تعتبره نفوذا أمريكيا في بعض جهات العالم، وبدأت الأزمة في شباط (فبراير) عام 2007 عندما أصدرت محكمة الجنايات الدولية مذكرة توقيف ضد أحمد هارون وزير الدولة للشؤون الداخلية وضد علي كشيب الذي اعتبرته قائدا للجنجويد، وقالت مصادر محكمة الجنايات الدولية إن تقديم هذين المسؤولين للمحاكمة هي الضمان الوحيد لعدم تقديم الرئيس البشير للمحاكمة ولكن الحكومة السودانية رفضت تسليم هذين المواطنين لأن المحكمة في رأيها غير مختصة في النظر في مثل هذه القضايا ولأن القضاء السوداني قادر على محاكمة كل من يرتكب جرائم مما تدعيه المحكمة، وإزاء هذا الموقف تقدم أوكامبو بمذكرته الشهيرة ضد الرئيس السوداني، ولا شك أن الولايات المتحدة مارست ضغوطا كبيرة ضد ملاحقة الرئيس السوداني على عكس ما يتصور الكثيرون وظل الضغط كله من قبل الفرنسيين وخاصة فرنسا التي تربطها علاقات قوية مع تشاد وهي الدولة التي عملت جاهدة على الإفراج عن الفرنسيين الذين تورطوا في اختطاف الأطفال من إقليم دارفور للمتاجرة بهم في فرنسا.
ولدى هذا الوضع المتأزم نرى أن قضية البشير ليست قضية محدودة كما يظن الكثيرون على الرغم من أنها تتم في سياق دولي اقنع الكثيرين في العالم بان حكومة البشير ارتكبت فظائع وجرائم في دارفور، بل هي في نظرنا تضع نظام العدالة الدولي كله في المحك، فهل سيكتسب العالم حريته الحقيقية أم كما قال الرئيس البشير إننا نشهد مرحلة جديدة من الاستعمار الجديد تستخدم فيها الدول الكبرى ودول الاستعمار القديم نفوذها من أجل تسخير المؤسسات الدولية في الأمم المتحدة وغيرها لتحقيق الأهداف الاستعمارية القديمة؟ الإجابة على هذا التساؤل تتطلب الفصل السريع بين الأغراض السياحية المحدودة والنظرة الشاملة لنظام العدالة الدولي، ذلك أنه حين نفكر في الأمور من منطلقات سياسية محدودة فقد نجد أنفسنا متورطين في انحياز للمصالح الاستعمارية الجديدة، ولكن حين ننظر نظرة إستراتيجية عريضة فسنكون قادرين على أن نرى مستقبل العالم بطريقة أفضل. ولا شك أن الأزمة التي يواجهها السودان هي أزمة عميقة جدا لأن الأمر غير مرتهن بالرئيس البشير ولو كان الرئيس قد ارتكب جريمة حرب فالأمر لا يعدو محاكمته لتحقيق العدالة ولكن محاكمة البشير في السياق الحالي تعني أكثر من ذلك لأنها تعني إسقاط النظام في وقت لا يكون فيه البديل غير الفوضى التي ستؤدي إلى مزيد من التفكك، وهذا أمر تدركه الولايات المتحدة التي اشك في أنها تريد إسقاط نظام الرئيس البشير لأنها تعلم أن استمرار النظام كبطة عرجاء أفضل من إسقاطه، وأعتقد أن توجهات السياسة الداخلية يجب أن تنطلق من فهم عميق لما قد ينجم عن إسقاط النظام في وقت يعمل فيه الحكم بصورة جادة لتحول ديمقراطي قد يؤدي إلى تحقيق مصالح جميع الاطراف في معادلة سياسية مقبولة للجميع.
‘ كاتب من السودان
القدس العربي