مبادرة سودانية قبل فوات الأوان
عبدالوهاب بدرخان
للأسف، وقعت الفاس في الراس، شئنا أم أبينا، أحببنا أم كرهنا، قد تكون مذكرة اعتقال الرئيس السوداني بعوضة في أذن فيل كما قيل في الخرطوم، لكنها مزعجة جداً جداً، وقد تدفع الفيل إلى تصرفات غير منضبطة للتخلص منها، ويبدو أنه لا مجال للتخلص منها.
للأمر وجوه عدة، دولي وعربي، سوداني ودار فوري، وكل منها ينعكس على الآخر ويؤثر فيه، وليس مؤكداً أن الخرطوم أحسنت التعامل مع المشكلة، علماً بأنها كانت تراها تدب نحوها منذ مطلع العام 2005 حين أعلنت اللجنة الدولية للتحقيق في الأوضاع في اقليم دارفور أن هناك ما يدعو للاعتقاد بأن جرائم حرب ارتكبت، وكان يفترض في الحكومة السودانية أن تأخذ المسألة بجدية كاملة، على الأقل بعد تصويت مجلس الأمن الدولي على احالة ملف دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية، ثم بعد انكشاف وجود قائمة بأسماء 51 شخصاً يتشبه في ارتكابهم جرائم حرب، وبينهم مسؤولون سودانيون، شكل ذلك انذاراً أصبح عمره الآن أربعة أعوام، وحتى بعدما أعلن المدعي العام للمحكمة لويس مورينو أوكامبو أن الرئيس عمر البشير متهم شخصياً، في يوليو 2008، لم يختلف تعامل الخرطوم مع المشكلة، بل ظلت تعتبرها كأنها لم تكن.
طبعاً، لا يمكن التبرع بالنصائح الآن، بعد فوات الأوان، لكن أبسط ما كان يتوقع هو ألا تضيع الشهور الثمانية الأخيرة بالتظاهرات والخطابات والتحديات، وإنما كان مفترضاً اتخاذ قرار حكومي استراتيجي بوجوب وقف القتال واحداث تغيير نوعي ملموس في الأوضاع على أرض دارفور، ذاك أن السباق بين المبادرات السلمية ومذكرة الاعتقال كان قد انطلق، وكان بل لايزال معروفا أن عدم التوصل إلى حل للأزمة من شأنه أن يشجع على اصدار المذكرة، في حين أن أي مصالحة حقيقية مع أي طرف نافذ في دارفور كان من شأنه أن يضعف احتمالات ذهاب المحكمة إلى استحقاق التوقيف.
وعندما أمكن تأمين لقاء بين ممثلي الحكومة وحزب العدالة والمساواة في الدوحة، تم ذلك في ربع الساعة الأخيرة، وعلى رغم النجاح المحدود الذي تحقق وكان ينبغي البناء عليه بسرعة، كان الوقت قد تأخر على تفعيل مبادرة متكاملة، ففصائل الدارفوريين كانت قد دخلت في حسابات ما بعد مذكرة الاعتقال ولم تبدِ أي استعداد للقيام بأي عمل يمكن أن يساهم في انقاذ الرئيس البشير، وليس معروفاً تماما في أي كواليس أو دهاليز سودانية ضاعت أيضا الأفكار التي طرحتها الجامعة العربية ولا المساعي التي بذلتها دول افريقية عدة، وحتى الأمم المتحدة كانت هي الأخرى قد أصبحت ملزمة بروزنامة المواعيد التي حددتها المحكمة الجنائية، لذلك اكتفت المنظمة الدولية بالاهتمام بأعمال الاغاثة وباصدار التحذيرات من وقت إلى آخر، من دون أن تركز على الأساس وهو ضرورة ايجاد اتفاق وآليات لوقف القتال بمعزل عن مجريات القضية أمام المحكمة.
وحتى الآن، لايزال هذا هو الهدف، لكن أحداً لم يعد معنياً به، هناك كثرة من الأطراف غير السودانية متورطة في التأزيم والتوتير وهناك كثرة من الفصائل الدارفورية المتفاوتة النفوذ، التي يئست من أي تعامل مع الخرطوم، لذا وجدت مصلحة في الانتظار ولابد أنها تتوقع تحقيق مكاسب – قد تأتي أو لا تأتي – من الاندفاع إلى المحكمة، هناك أيضا وسطاء عرب وأفارقة يئسوا بدورهم بعدما لمسوا أن تعاون الأطراف معهم كان هروبياً وتسويفياً، لكن تبقى الوساطة القطرية الوحيدة المتوفرة إذا رغب الأطراف في الاستفادة منها.
أكثر من يثير المخاوف سودانياً، وهو من لا يبدو أن المجتمع الدولي يعيه جيداً، أن المسألة في ظاهرها مسألة رئيس في السلطة ومطلوب إلى العدالة الدولية – إذا افترضنا أنها موجودة، لكنها مسألة السودان نفسه كصيغة في صدد التبلور خصوصا في ضوء استحقاقات الاتفاقات بين الحكومة والجنوبيين، كذلك في ضوء الاستحقاقات المستجدة من جراء اندلاع قضية دارفور والنزاعات الأخرى المحتملة، وهي أيضا مسألة السودانيين أنفسهم الذين تآكلت مع الوقت ثقتهم بأن بلدهم قادر على تجاوز التحديات، ويزيد في احباطهم ومرارتهم أن الأطراف الاقليمية والدولية تخطت كل حدود في تكالبها على أراضي السودان وثرواته، وإذا كانت هذه التعديات والتحديات لم تتوقف منذ نحو أربعة عقود، فإنها أنجزت على الأرجح هدفها الرئيسي الذي لا يعترف به أحد، وهو انعدام امكانية انبثاق حكم قوي ومتمتع بشرعية غير مشكوك فيها للاقدام على الخيارات التي لابد منها لتأمين استقرار السودان وتعايش ابنائه على اختلاف أعراقهم بالصيغة التي يجري التوافق عليها سلميا.
معلوم أن اتفاقات نيفاشا تعتبر في نظر الغالبية الشمالية مجحفة بحق أهل الشمال وتعطي الجنوبيين مكاسب الانفصال فضلا عن مكاسب الاتصال، ولعل هذه المعادلة هي التي أثارت الأقاليم الأخرى، ومنها دارفور، فاعتبرت أنه مادام الحكم المركزي في الخرطوم كريما إلى هذا الحد مع الجنوبيين فالأحرى به أن يعاملها بالأريحية نفسها، علما بأنها لن تطرح الانفصال وإنما يمكن أن تطمح إلى نوع من اللامركزية الموسعة، لكن سقوط حكم البشير، بأي طريقة، قد يعيد النظر في كل ما اتفق عليه سابقاً، لكنه ربما يدفع البلاد إلى أتون حروب داخلية معممة على الأقاليم كافة ليتحقق عندئذ الهدف الآخر غير المعترف به أيضا، وهو تقسيم السودان إلى دويلات.
لا أحد يرفض العدالة في المبدأ وفي التطبيق ومن دون كيل بمكيالين، لكن مذكرة اعتقال البشير لاتزال أبعد من أن تشكل بداية رسوخ العدالة في النظام الدولي، لاشك ان الرئيس السوداني اخطأ، لكنه يستطيع الآن أن يصحح أخطاءه سودانياً عبر ادارة تنحيه عن السلطة قبل أن يصبح عبئاً على نظامه، أما الفصائل الدارفورية فقد تكون طامحة إلى التحصل على العدالة من الباب الدولي، لكنها مطالبة بألا ترتكب خطأ التسبب بتفتيت البلاد، فلنترك المحكمة لعملها، لكن فليقدم السودانيون والدارفوريون على الخطوة الضرورية للحفاظ على وطنهم قبل فوات الأوان.
الشرق الأوسط