منطق عجيب
زياد ماجد
تثير مذكّرة المحكمة الجنائية الدولية، القاضية باعتقال الرئيس السوداني عمر البشير بتهمة ارتكاب جرائم حرب في إقليم دارفور، ردود فعل عربيّة مختلفة، يتقاطع أكثرها على إدانة المذكّرة والتنديد بمصدّريها والتشكيك بخلفيّاتها.
ولعل التوقّف عند بعض ردود الفعل هذه ومساءلة منطقها يفيد لتسليط الضوء على التخبّط السياسي والقيمي الذي نعيشه في منطقتنا، والذي يضع أكثر الأنظمة كما العديد من القوى المعارضة لها في مركب واحد، وقودُه شتمٌ “للتدخّل الخارجي ولمشاريع الهيمنة المتلطّية بقوانين أو بقرارات أممية”.
فإن أحلنا المنطق الذي تتعالى بموجبه بياناتُ الشجب والاستنكار الى قوام سياسي و”قانوني”، وقعنا على دعائم – مقولات ثلاث تكرّر التالي:
أولاً، أن المذكّرة تخفي المصالح الفعلية المحرّكة لها، والمتمثّلة بتقسيم السودان لضرب شعبه ونهب ثرواته النفطية والمعدنية والذهبية والمائية. وهي، بهذا المعنى، استهداف لوحدة البلاد وسيادتها وليس لشخص البشير أو لنظامه.
ثانياً، أن المذكّرة تجسّد ازدواجية المعايير المعتمَدة في العالم بحيث لا تنظر المحاكم سوى في جرائم وحالات بعينها، فيما تغضّ الطرف عن مجازر وأهوال في حالات أخرى لأسباب سياسية، أميركية تحديداً.
ثالثاً وربطاً بذلك، لم تتحرّك المحكمة الجنائية تجاه الهمجية الإسرائيلية وانتهاكاتها اتفاقيات جنيف في غزة منذ أسابيع، في حين أنها تقيم الدنيا ولا تقعدها اليوم في “عدوان سافر على السودان وأهله”.
لنحاول معاينة كل مقولة من المقولات الثلاث وتفكيكها، ولو بشديد اختصار.
أولاً، ليس مفهوماً كيف أن مذكّرة جلب بحق شخص، ولو كان رئيساً، هي أشدّ خطراً في استهدافها بلداً من قتل وتشريد مئات الألوف من أبنائه وتدمير نسيجهم الاجماعي وتهجيرهم من منطقة الى أخرى في حروب قبلية لم تحرّك السلطات ساكناً تجاهها، أو هي حرّضت على الاستمرار بها أو تواطأت ضد بعض أطرافها. وليس واضحاً كذلك كيف أن التحقيق مع رئيس ثم إدانته (أو تبرئته) قد يفضيان نهباً للثروات يفوق تبديد هذه الثروات إنفاقاً على حروب متواصلة منذ عقود حصدت حتى الآن في الجنوب والشرق، وفي الوسط وانقلاباته، أكثر من مليوني إنسان وجعلت البؤس والفقر واقع حال ملايين غيرهم.
ثانياً، لا شك أن في العالم ازدواجية معايير، ولا شك أن من تُعينه دول عظمى، غالباً ما قد ينجو من عقوبات أو من زجر أو من إجراءات. والازدواجية في المعايير هذه، المرفوضة والظالمة، ليست وقفاً على الولايات المتحدة ولا هي معتمدة تجاهها حصراً. فروسيا والصين لا تقلاّن ضراوة في الحروب والاحتلالات (من الشيشان الى جورجيا فالتيبت) من “زميلتهما” في مجلس الأمن، وحصانتهما (كما قدرتهما على استخدام الفيتو حمايةً لحلفائهما) ليست أقل من تلك المتمتّعة بها واشنطن. على أن الأهم من ذلك، وبمعزل عنه، هو أن وجود ازدواجية معايير لا يمنح أحداً الحق في ارتكاب المجازر أو السماح بوقوعها، ثم القول رداً على مريدي الحساب إن ثمة ما يوازيها هولاً في أماكن أخرى! ففي ذلك رداءة حجة يصبح بحسبها المتّهَم بالتسبّب في مجازر أو المشارك فيها بريئاً ليس لأن أدلّة قد تثبت تهافت اتّهامه، بل لأن مجرمين غيره موجودون في مكان ما من العالم لم يُحاكموا بعد!
ثالثاً، إن كان التواطؤ مع إسرائيل وممارساتها في الكثير من الدوائر السياسية في العالم وانعكاس ذلك على الدوائر الحقوقية مقزّزاً، فإن استمرار تبرير الاستبداد أو القتل أو الاغتيال في الدول العربية تجاه مواطنين عرب أو غير عرب من أبنائها وسكّانها بحجة “حصانة” الجرائم الإسرائيلية صار أكثر تقزيزاً. فالجريمة جريمة ورفض ازدواجية المعايير يبدأ بعدم اعتمادها، إلاّ إن كان البعض يعتبر أن الردّ على وحشية الاحتلال في فلسطين يكون مثلاً بإبادة أبناء منطقة في السودان، أو اغتيال أساتذة جامعيين وصحفيين في العراق!
إن “النموذج السوداني” الذي نراه اليوم هو أحد تجلّيات الإفلاس الفكري والأخلاقي عندنا. والتصدّي لهذا النموذج شرط ضروري لاستقامة النقاش في غيره من النماذج.
ولعلّنا في لبنان ندرك أهمية ذلك، وندرك معنى الاحتفال بالأول من آذار والتمسّك بالمسار الذي انطلق بعده، من دون أوهام ومن دون كلل أو سأم…