الـ لا السودانية
محمد كريشان
من حق السودان ورئيسها أن يرفعا ‘لا’ كبيرة في وجه محكمة الجنايات الدولية ومذكرة اعتقالها للبشير ولكن من واجبهما أن يقرنا هذا الرفض القوي، المجيش بالكثير من المظاهرات والعواطف والتصريحات النارية، بخطة عمل محددة للخروج من هذا المأزق وإلا تحول هذا الرفض إلى تمترس المعاند بلا أي أفق للنجاة.
‘لا’ هذه كانت اسما لمجلة تصدر بليبيا لا أدري إن كانت بعدها في الأكشاك، لكن من الصعب أن تصبح هذه المفردة لوحدها سياسة بلد بكامله لم يعد قادرا على التلفظ بغيرها تجاه كل المبادرات والمواقف الدولية حتى تلك التي تصدر عن دول يفترض أنها قريبة منه وحريصة على إخراجه من ورطته.
من استمع لخطاب الرئيس عمر البشير الأخير في الفاشر عاصمة شمال دارفور لم يحتفظ إلا بتلك الجملة المثيرة التي قال فيها إن مدعي المحكمة وأعضاءها ومن يقف معها كلهم تحت حذائه ولكن الخطاب نفسه تضمن كشفا لمعلومات خطيرة قد تكون تعلن لأول مرة. ماذا قال البشير؟ قال إنه لما صدرت مذكرة اعتقال أحمد هارون المسؤول السوداني المتهم بارتكاب جرائم في دارفور، قالوا له (لم يذكر من بالضبط) سلم لنا هارون ننسى موضوع جلب البشير فقلنا لهم لا، قالوا: اطردوه من الحكومة قلنا:لا، قالوا اجعلوه يستقيل منها قلنا:لا، قالوا لنا بعد طرد منظمات الإغاثة الثلاث عشرة: دعونا نؤجل مذكرة اعتقال البشير لسنة فقلنا لهم: لا، ليخلص الرئيس في النهاية إلى القول بأنه يرفض أي تأجيل لمذكرة الاعتقال مجلجلا أنه لم يعد أمام هؤلاء الآن إلا أحد أمرين: إما إلغاء مذكرة الاعتقال بحقه وإما بلها وشرب مائها.
وبغض النظر عمن بإمكانه حقا الآن أن يتحدث بلهجة القادر على فرض كلمته على الثاني: البشير المطلوب دوليا أم الآخرون، فإن ما يهم هنا بعد هذا الاعتراف الخطير هو كيف أن تكرار ‘لا’ في مواقف مختلفة وقبل أشهر عديدة هو ما أوصل السودان إلى هذا الوضع المحشور الحالي، وهي الكلمة نفسها التي يبدو أنها ستوصله إلى وضع أسوأ منه بكثير. كل ما قاله السودان عن انتقائية العدالة الدولية صحيح، وهو مفضوح إلى درجة لا تحتاج إلى إثبات أو نقاش، ولكنه في الحالة السودانية ليس هو لب الموضوع. لب هذا الموضوع هو هل ارتكبت فعلا هذه الفظاعات في دارفور فعلا أم أنها ملفقة أو مفتعلة، فإن كانت ارتكبت حقا فلا مجال للتدثر بأية حجج حقيقية أو واهية للتنصل من المسؤولية السياسية والجنائية عما جرى. هكذا باختصار.
حتى تلك المبادرات التي يبدو أنها تحاول كسب الوقت لفائدة الخرطوم على غرار مبادرة القاهرة للدعوة لمؤتمر دولي حول السودان لبحث الوضع الحالي بمختلف تعقيداته بعد صدور مذكرة البشير جوبهت هي الأخرى بـ ‘لا’ حتى قبل أن تستطيع الدبلوماسية المصرية أن تشرحها أو تجمع حولها المؤيدين. وهكذا يبدو أيضا موقف السودان تجاه المسعى العربي الافريقي تجاه مجلس الأمن وإن لم يعلن ذلك بوضوح لا مراء فيه. وقد كانت فرنسا سعت، على طريقتها طبعا، لإيجاد مخرج ما بعد لقاء ساركوزي بالبشير في الدوحة نهاية العام الماضي لكن الأمور لم تسر كما طالبت باريس.
الآن لم يبق تقريبا، إذا ما استثنينا طبعا تسليم البشير لنفسه وهذا غير وارد بالمرة، سوى ألا يترشح لانتخابات الرئاسة المقررة هذا العام ضمن اتفاقية السلام الموقعة عام 2005 بين الشمال والجنوب، وهو ما تقول بعض المصادر ان واشنطن أبلغته للخرطوم لقاء دعمها لتأجيل مذكرة الاعتقال لعام واحد، وهو ما يبدو أن الفرنسيين يدعمونه أيضا. المشكل الآن أن البشير قد لا يرى ذلك ويستعذب أكثر فأكثر كلمة ‘لا’ التي يعشقها كثيرون ويهتفون لها ويرسلون الوفود لشد أزرها، فيصر على الترشح ليربط مصيره المهدد بمصير بلد بأكمله.. وهنا تكتمل فصول المصيبة.
القدس العربي