العدالة الدّولية بين الحضور والغياب!
السيد يسين
في الوقت الذي تتهاوى الامبراطورية الأميركية بالتدريج، نتيجة هزيمتها في كل من العراق وأفغانستان، وفشلها الذريع في الاحتواء الاستراتيجي لروسيا بنشر شبكة الصواريخ المحيطة بها، وأخيراً وقوعها في هوة الأزمة المالية الكبرى، فإن امبراطورية العولمة تصعد في سلم الهيمنة العالمية سياسة واقتصاداً وثقافة.
وامبراطورية العولمة مصطلح موفق في الواقع، صاغه كل من الفيلسوف الإيطالي توني نغري والمؤرخ الأميركي مايكل هاردت في كتابهما المهم “الامبراطورية”، والذي ترجمته «دار العبيكان” إلى العربية.
وتاريخ توني نغري جدير بالتأمل نظراً لغرابته الشديدة! فقد كان نغري أستاذ الفلسفة الشيوعي هو زعيم حركة “الألوية الحمراء” الارهابية في إيطاليا، والتي استطاعت الحكومة الإيطالية تصفيتها نهائياً، وصدر حكم على نغري بالإعدام.
هرب نغري إلى فرنسا، وتبنّاه ودافع عنه الفيلسوف الفرنسي المعروف ميشال فوكو وساعده لكي يصبح أستاذاً للفلسفة في الجامعات الفرنسية. وأمضى نغري في المنفى أكثر من خمسة عشر عاماً، ولكنه أخيراً قرر العودة إلى وطنه وتسليم نفسه للحكومة، وأعيدت محاكمته وحكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة.
غير أن المحكمة – في استثناء نادر – سمحت له بالتوجه كل يوم إلى مكتبة الجامعة حتى يقوم بأبحاثه، ثم يعود لكي يبيت في السجن. وهكذا ولد الكتاب المهم “الامبراطورية” في السجن بالتعاون مع المؤرخ الأميركي مايكل هاردت.
نغري كان ماركسياً متعصباً من هؤلاء الذين يطبقون الأفكار الماركسية بشكل عقائدي جامد لا مرونة فيه، ولذلك حين طالعت الكتاب أردت أن أختبر مدى التحولات الفكرية التي حدثت له وكيف سيعالج موضوعاً معقداً مثل “العولمة”، لا يحتاج إلى إيديولوجية جامدة بقدر ما تتطلب دراسته تبني منهج متعدد المداخل يتسم بالشمول. وعنيت بأن أراجع هوامشه لأعرف ما هي المراجع التي عاد إليها، وهذه إحدى قواعد منهج قراءتي للأعمال الفكرية.
وأيقنت أن نغري تحول تحولاً فكرياً عميقاً. لأنه لم يقنع – كما يفعل غيره من الكتاب الماركسيين – بتطبيق بعض مبادئ الماركسية على العولمة تمهيداً لرفضها رفضاً مطلقاً باعتبارها إفرازاً رأسمالياً في عصر بلوغ الرأسمالية ذروة تطورها، ولكنه بأصالة فكرية وسّع من مدى رؤيته، واستعان في فهم هذه الظاهرة المركبة بأوثق المراجع العلمية وأشملها.
والدليل على ذلك أنه رجع رجوعاً متكرراً لأهم كتاب حلل وشرح وفسر ظاهرة العولمة، وهو كتاب “عصر المعلومات” تأليف عالم الاجتماع الأميركي كاستلز، والذي هو في الواقع ثلاثية فريدة تتكون من ثلاثة أجزاء هي المجتمع الشبكي، وقوة الهوية، ونهاية الألفية.
واستطاع نغري في ضوء نظرية كاستلز أن يفهم بصورة عميقة ظاهرة العولمة، غير أنه – نظراً لخلفيته كماركسي مناضل قديم – استطاع أن يصوغ نظرية سياسية متكاملة تضع أسس فهم العولمة.
وأهم عناصر هذه النظرية أن العولمة كظاهرة كونية تظهر على المسرح العالمي وكأنها ورثت كل القوى الكبرى المتحكمة في النظام العالمي، وأبرزها من دون شك هي الامبراطورية الأميركية.
ويرد نغري هذه الظاهرة إلى أن الامبراطورية الأميركية يمكن أن تتهاوى بتأثير عوامل متعددة سياسية وعسكرية واقتصادية، وامبراطورية العولمة ليست كذلك، لأن امبراطورية العولمة هي بنية عضوية للهيمنة العالمية على مستوى الكون، تتشكل مفرداتها من عناصر سياسية وقانونية واقتصادية وثقافية.
ولا شك أن مفردات العولمة السياسية هي الديموقراطية والتعددية واحترام حقوق الإنسان، غير أن أهمية هذه المفردات ليست في ذاتها، ولكن لأن قانون امبراطورية العولمة الجديدة يفرض على المجتمع الدولي (اقرأ الدول الكبرى) تطبيق هذه المفردات بالقوة من خلال التدخل السياسي.
وهذا التدخل السياسي قد يتضمن الضغوط السياسية والاقتصادية على النظم السياسية الشمولية والسلطوية، وقد يتصاعد لدرجة استخدام القوة المسلحة، مهما بدا ذلك غريباً، حين تستخدم القوة لفرض الديموقراطية فرضاً، وهذا – والحق يقال كما يقول المناطقة – تناقض في الحد!
إذ كيف تفرض الديموقراطية والتي هي حكم الشعب بالشعب، عن طريق قوى أجنبية وباستخدام القوة، التي تشمل الغزو العسكري الشامل كما حدث في العراق؟
غير أن هناك قانوناً آخر بالغ الخطورة فرضته امبراطورية العولمة التي تحركها القوى الكبرى في النظام الدولي، وهو قانون العدالة العالمية! وهذا القانون يتمثل أساساً في إنشاء “المحكمة الجنائية الدولية” ولها اختصاصات واسعة، تشمل – من بين ما تشمل – محاكمة مجرمي الحرب حتى ولو كانوا رؤساء دول. والملفت للنظر أن الولايات المتحدة الأميركية – التي أيّدت قرار المحكمة الجنائية الدولية بالقبض على الرئيس عمر البشير – رفضت التوقيع على المعاهدة لتحصن ضباطها وجنودها من الخضوع للمحاكمة بتهم ارتكاب جرائم حرب!
وليتأمل القارئ دلالة هذا التناقض الفج في الموقف الأميركي، بين رفض التوقيع على معاهدة المحكمة الجنائية الدولية، وتأييدها في الوقت نفسه لقرارها بالقبض على الرئيس البشير. بل إن الولايات المتحدة – أبعد من ذلك – عقدت اتفاقيات ثنائية مع 52 دولة، وذلك في عهد الرئيس جورج بوش الابن، لتحصين أفراد قواتها المسلحة من المحاكمة الجنائية على جرائم الحرب التي قد يرتكبونها!
والواقع أننا دخلنا – بممارسة المحكمة الجنائية الدولية لأعمالها – عصر العدالة العالمية. ونعني بذلك وجود كيان قانوني وقّعت على إنشائه كثير من الدول، وهي المحكمة التي من حقها أن تقيم العدل بين الدول والشعوب طبقاً لقانونها. غير أن المشكلة أن العدالة الدولية التي كانت مطلب كثير من الشعوب لمحاكمة مجرمي الحرب، تحولت في عصر امبراطورية العولمة لتصبح نوعاً من «الاستعمار القضائي» بحسب تعبير أحد الكتّاب العرب!
وها نحن نشهد استعماراً من نوع جديد تمارسه امبراطورية العولمة، ويتمثل في المحكمة الجنائية الدولية التي ستستخدم كأداة استعمارية للنهب الجديد لثروات العالم النامي، من خلال إصدار أحكام ظالمة بحق عدد من الرؤساء الذين يقفون ضد مخططات الهيمنة.
وأيا كانت أخطاء الرئيس البشير في إدارة أزمة دارفور، إلا أن المساعي الديبلوماسية أدّت في النهاية إلى اتفاق على حل المشكلة من خلال تنازلات بارزة وافقت عليها الحكومة السودانية. غير أن قرار اعتقال البشير من شأنه إجهاض الحل السياسي لمشكلة دارفور، وقد يكون مقدمة لحرب أهلية من الصعب التكهن بنتائجها.
وإذا كنا – في العالم العربي – قد وجهنا انتقادات عنيفة لظاهرة ازدواجية المعايير في مجال تطبيق مواثيق حقوق الإنسان، إلا أننا في عهد “الاستعمار القضائي” نواجه بجريمة حقيقية تتمثل في غض طرف المحكمة الجنائية الدولية، التي تدعي أنها القيّمة على العدالة العالمية، عن جرائم إبادة الشعب الفلسطيني التي مارستها إسرائيل في حربها الهمجية التي شنتها على غزة.
فهذه الجرائم التي قام بها قادة إسرائيل لا تحتاج إلى توثيق لأنها مسجلة على شاشات التلفزيون، وشهد العالم أجمع هدم البيوت وقتل المدنيين نساءً ورجالاً وأطفالاً. وإذا كانت هذه الوقائع صحيحة – وهى صحيحة بالفعل – وأدانتها أصوات سياسية غربية منصفة، بالإضافة إلى المؤسسات الاجتماعية ومؤسسات حقوق الإنسان الغربية، فلماذا لم تتخذ المحكمة الجنائية الدولية والمدعي العام أوكامبو الإجراءات اللازمة لمحاكمة قادة إسرائيل؟
وكيف تكون العدالة الدولية حاضرة في حالة دارفور والرئيس البشير، في حين أنها غائبة تماماً في حالة إسرائيل، هذه الدولة العنصرية التي تمارس العدوان المنهجي المنظم ضد كل قواعد القانون الدولي العام؟
وليس في تحليلنا أي انحياز للرئيس البشير، لأننا نعتقد أن الرأي العام العربي مستعد أن يقبل محاسبة رؤسائه على أفعالهم، اذا كانت مخالفة للقانون الدولي، لو كانت هناك عدالة عالمية حاضرة، لا تفرق بين الدول، ولا تخشى هيمنة الولايات المتحدة، ولا ترتدع هلعاً من النفوذ الصهيوني العالمي، الذي يمنع أي إدانة في مجلس الأمن لإسرائيل، عن طريق حاميتها الرئيسة وهي الولايات المتحدة الأميركية.
إن خطورة السابقة التي استنتها المحكمة الجنائية الدولية، بإصدارها قرار اعتقال البشير، أنها يمكن أن تكون مؤشراً لطريقة تعامل امبراطورية العولمة في المستقبل القريب مع القادة العرب الذين قد يقاومون الهيمنة العالمية. وفي تقديرنا أن الدول العربية – من وقّع منها معاهدة المحكمة الجنائية ومن لم توقع – عليها أن تصوغ مبادرة عالمية تجمع حولها الدول التي تتسم بالحد الأدنى من الإنصاف للمطالبة بمحاكمة قادة إسرائيل أمام المحكمة الجنائية الدولية، وفي الوقت نفسه مراجعة نصوصها المجحفة بحق المتهمين من دول العالم النامي، سعياً وراء هدف أساسي، هو القضاء على ازدواجية المعايير في مجال حقوق الإنسان، وفي مجال العدالة العالمية.
إن لم يتم التغيير الجذري لهذه الأوضاع الخاطئة، فمعنى ذلك أن موجات العنف والإرهاب سيتسع نطاقها على المستوى الكوني، بالإضافة إلى احتمال نشوب حروب أهلية طاحنة، من شأنها أن تؤثر بالضرورة على الاستقرار العالمي.
* كاتب مصري
الحياة