صفحات العالم

من أجل أن يحاكم البشير

آرام كربيت
المجتمع الدولي هومجتمع سياسي قائم على بنيان تسلطي قاسي, يحوز فيه الأقوياء على الثروة والقوة والنفوذ والمال والتكنولوجيا والقرارالسياسي الدولي المجحف بحق أعضائه الصغار. هذه المسألة يجب أن لا تغيب عن بالنا في أي تحليل أو بحث, وحتى لا نقع في أي مطب سياسي. وأغلب الدول القوية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية ينتهجون سياسية القوة من أجل تحقيق المصلحة القومية الذاتية لبلادهم, وتحسين مواقفهم السياسية في الموقع الدولي على حساب البلدان الفقيرة التي لا حرج في تجاهلها أوإدخالها في وضع عدم الاستقراروالفوضى.
إن استراتيجية القوة, التي تنتهجها الدول الكبيرة تعمل على إبقاء توازن القوة في يديها, تعمل لمصلحتها بحيث يبقى الضعفاء مشرذمون, مفتتون, يعانون الويلات لمصلحة الأقوياء, ولن تسمح الدول القوية للبدان الصغيرة أن تخلخل هذا التوازن أو تلعب فيه.
لقد شهدت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية بروزقوى جديدة وكبيرة على الساحة الدولية, هما الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية. سميت الحرب الباردة, كمصطلح غامض وملتبس.
جاءت هذه الحرب الباردة, كنتاج مباشرللمنافسة بين قوتين كبيرتين, تعملان على امتلاك القرارالدولي والسيطرة عليه, عبر تعبئة وتفريغ الطاقة الزائدة من حمولة البلدان الغنية والمركزية في ميادين أخرى, كبيرة وواسعة, نستطيع أن نقول في مساحات الدول الصغيرة.
نشهد اليوم تفكك ذلك النظام العالمي القديم, كبنية فوقية, يعتمد على قيم متباينة في شكله السياسي كحد أدنى, وعلى أدلجة مفاهيم جديدة, أُدخلت عنوة على الأدب السياسي, كالسيادة والحدود الوطنية والولاء للقيم الوطنية, وجرى دعم وتهميش الدول الصغيرة عبرالرفع مرة والاخضاع لسيطرة القوى الكبرى مرة ثانية مع هامش كبيرمن المناورة والانتقال إلى هذا الطرف أو ذاك.
لقد تسببت تلك الحرب الباردة, في بروززمزحاكمة فاسدة, في البلدان الفقيرة, منها عالمنا العربي, خرجت من قلب الجيوش, صعدت على طرفي الصراع, إلى ميادين السياسة, متسلقة كرسي الحكم, متعطشة للسلطة والقوة والنفوذ. يتملكها إحساس بالغبن والدونية والقهر, وفي داخلها عطش كبير لتعويض النقص والذل اللذان كانوا يرزحون تحت ثقله.
من خلال صيرورتهم في الحكم, نمت وكبرت وتعملقت هذه الزمر, أخذت أدواراً خطيرة وكبيرة لنفسها, في السياسة والمال وإدارة الدولة والمجتمع أكبر مما كانت تحلم به حتى في قصص ألف ليلة وليلة, دون حسيب أورقيب أو يتجرأ مواطن هذه الدول أن يقول له لماذا تفعل هذا.
شكلت هذه الفئة الاجتماعية الصاعدة بسرعة البرق, طبقة اجتماعية موحدة الأهداف والمصالح والغايات الأنانية, عبر شبكة واسعة من الفاسدين والمفسدين واللصوص, مستفيدة من الرافعة السياسية التي هيئتها لها دول المركزكي تنمو وتكبر. بعد فترة قصيرة تحولت هذه الفئات إلى طبقة اجتماعية فوقية متفارقة عن المجتمع, مشكلة من قائد الانقلاب, عائلته, أقرباءه, طائفته, زلمه, زبائنه, جواسيسه. بالإضافة إلى العسكر, المواخير, المخابرات, السماسرة, التجارالصغار, الوسطاء, الدلالين, المخبرين, الكتاب المرتزقة, الصحفيون المأجورين, كتاب العرائض, وجيش من المنتفعين كل واحد على طريقته وقدرته على الدجل وتقديم الخدمات.
نعم نمت بسرعة هائلة, طبقة انتهازية رخيصة لا تعمل, ولا تتعب, مستفيدة من كرسي الحكم, لها مصالحها وأحلامها وأفكارها منفصلة تماماً عن المجتمع. مافيا سياسية, لا تتورع عن فعل كل شيئ, من التجسس على مصالح الوطن, والتعاون مع إسرائيل, ومد جسورخفية معها من تحت الطاولة, بالإضافة إلى القتل والسحل والاغتصاب والسجن لكل إنسان يقف في طريقها. أنها طبقة فاسدة بامتياز, تعمل على نهب المجتمع وتهميشه وتخريب كل توازناته الاجتماعية والاقتصادية, تحت شعارات براقة كالسيادة الوطنية وحماية الأرض.
لقد نما دورهذه الطبقة الجديدة, على حساب الفئات الاجتماعية الفقيرة والمهمشة, بحيث جرى أستبعدها من المعادلة السياسية الداخلية, سواء على صعيد الحريات العامة والقانونية أو الثروة والنفوذ والمكانة الاجتماعية. كما أبعدت عن الأنظارعما تعانيه هذه الفئات من مشاكل كبيرة على كل المستويات, الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. بل تحول الإنسان في وطنه إلى غريب, وشيئ, يلاحقه الذل والقمع والقهر, بحيث أصبح مهمش وهامشي وغريب.
ما زالت أغلب القوى السياسية النافذة في العالم العربي والاسلامي, الفئات الحاكمة, في مواقعها السياسية من القرن الماضي. معبأون بذلك الإحساس القائم على فرادة موقعهم في الشأن الدولي, واهمية دورهم في النظام الدولي, وما يستتبعه ذلك من اعتداد بالنفس وبقيم عظمة شأنهم ومكانتهم على حساب شعوبهم, متمسكين بأيديولوجية قديمة قائمة على فكرة السيادة السياسية والحدود الوطنية من أجل حماية بقائهم في السلطة وتأبيد هذا البقاء إلى أجل غير مسمى. نسي هؤلاء أو تناسوا, وعلينا ان نذكرهم أن الأوطان الضعيفة اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وعسكريا, هي أرض رخوة, مباحة, خرائط سياسية على الورق قسمت وستقسم إن لم يكن الأن, فسيكون ذلك في الغد القادم بلا شك, على مقاس حاجة الأقوياء سواء القدامى منهم أوالجدد, وهذا سيؤول إلى أن يعيد المخطط قياس حساباته مرة أخرى بمسطرة المصالح الدولية المتنافرة أو المتوافقة.
لقد أنتج المجتمع الدولي المحكمة الدولية ومقرها لاهاي في هولندا بعد الحرب العالمية الثانية, لمحاكمة الرموزالسياسية التي كانت السبب الرئيسي للحرب العالمية الثانية, وجرمت أغلبهم. ثم تم إنشاء المحكمة الجنائية الدولية منذ بضعة أعوام لملاحقة من يتسبب في جرائم ضد الإنسانية.
يقول الكثير من الكتاب لماذا لا تحال قادة إسرائيل أو بوش إلى محكمة الجنايات الدولية. أقول وبالصوت العالي:
هل قتل بوش الشعب الأمريكي. هل قتلت الدولة الإسرائيلية مواطنيها حتى تعقدوا مقارنة بين الأثنين. البشيررجل فاسد ومجرم, حتى لو بنى الإهرامات وأسوار الصين, كل بناءه لا ينفع إذا كان الإنسان مذلولاً في وطنه والبوط العسكري على رأسه. البشير قتل عشرات الآلاف من الناس من شعبه وتعاون مع الغرب في كل شاردة وواردة. ولم يوفر شيئ من أجل خدمة بقاءه في السلطة. أليس هو من أنقلب على الديمقراطية في السودان. أنا لم أسمع أن الولايات المتحدة الأمريكية أدانت أنقلابه, بل تعاونت معه. فليذهب إلى المحكمة الجنائية الدولية, ويسلم الحكم لقوى منتخبة من الشعب السوداني ويعفيها من العقوبات الدولية القادمة التي سيدفها الإنسان البسيط. أنا أتمنى شخصياً ولست نادماً أن يحال البشيرإلى المحكمة الجنائية الدولية وأتمنى في الغد أن أرى بشار الأسد يقاد إلى نفس المحكمة, وغيره من الحكام العرب, غير مأسوف عليهم على الأطلاق. ليذهب كل الفاسدين الذين أذلوا شعوبهم واذاقوهم القهر والحرمان والجوع إلى السجن.
الأن, بعد انزياح الحرب الباردة وانفتاح العالم على مكونات جديدة من الصراع المستتر, ظهر بديل مختلف عن السابق يؤكد على ضرورة التحالف بين مقابلات القوة, وعلى تسوية العلاقات القائمة بينهم عبرطاولة المفاوضات, لرسم خرائط العالم, قائم على التعاون بين الأقوياء وتفريغ شحنات القوة الكامنة فيهم في أماكن رخوة. أي تقسيم جديد للعالم قائم على التعاون بين الكتل الاقتصادية والسياسية الكبيرة, كبديل إجباري عن الحرب, قوامها الانتظار. أي انتظاركل طرف لما ستؤول إليه مرادفات شحنات القوة النشطة المعبأة في كل كتلة دولية كبيرة, كالكتلة الأوربية, الكتلة الأمريكية, والكتلة الصينية, الهندية, البرازيل وغيرها.
لقد انتقل تركيزالصراع بين القطبين أيام الحرب الباردة إلى تحالف مختلس ومؤقت وقلق ومذبذب بين القوى الكبرى كبديل عن حرب ساخنة ومكلفة ومدمرة, نظراً للوضع المائع والهلامي والسريع في العالم, وفي حالة انتقال من موقع إلى أخر.
نعيش في هذه الأونة, حرب كونية وهمية, تلف العالم, مستمرة بوسائل أخرى, بعد أن تم تسوية الخلافات أو في طريقها إلى التسوية بين القوى الكبرى من خلال التفاوض الدبلوماسي أوتذويب المشاكل العالقة بدلاً من الصراع المباشر. هذا لا يعني على الأطلاق أن العلاقات بين القوى الكبرى لا تتسم بالشحن في محصلات سياسية متنافضة. لكن نشاط هذه القوى يتركزيوماً بعد يوم على المناطق الضعيفة من العالم, وما تتسم به من شدة وثقل وكثافة التركيزحسب متطلبات تركيبة المصالح الدولية وتناقضها وتعارضها مع بعضها, وما تفرزه من قسوة وثقل على شعوب البلدان الرخوة والضعيفة سياسياً واجتماعياً واقتصادياً.
كما يسعى كل طرف من خلال هذه الحرب إلى تدعيم موقعه ووضعه العالمي المتميع والمتحرك, والاستفادة من الأزمات النشطة, لتنشيط مكانتها من خلال الضغط الكبيرعلى الدول الصغيرة, العالم ثالثية, وخلق أزمات كبيرة وتفجيرها في أكثر من منطقة من العالم من الهند إلى الباكستان مروراً بالشرق الأوسط إلى أفريقيا وأمريكا اللأتينية, لتشمل كل الدول حتى الحيادية منها.
المجتمع الدولي الجديد, مجتمع غير مستقر, ولا يمكن أن يستقرفي المدى المنظور. نظام مفتوح الأفاق, يحمل في طياته المفأجات الكثيرة والإثارة, في إمكانات لا تخطرعلى البال أوالخاطر. أنه نظام مفتوح على كل الاحتمالات ولا يمكن رصد حركاته وفق معاييرسياسية تقليدية كما لم يتبلورلدينا فضاء مفهومي جديد يستطيع أن يفكك التوجه الدولي الحديث يعطي مرساة أمان لدول العالم وشعوب كثيرة على وجه الأرض. ما زالت أغلب الآليات التي نتعامل بها ذات بعد ماضوي لا يمكن أن تفيد في هذه الأوقات.
كما أن المجتمع الدولي يعيش حالة قلق, لا يمكن التنبؤء ما ستكون عليه الآليات القادمة في المستقبل القادم, وهو غير محدد الأبعاد ولا يسيرعلى مساراستراتيجي واضح يحمل ضمانات لخط سيره, وهو معقد المعالم والأبعاد.
حتى الولايات المتحدة الامريكية تعيش حالة تخبط استراتيجي, ومن خلال الأحداث الدولية السابقة والمثيرة في أكثر من مكان نرى أن الدور الذي تقوم به الأن أكبرمن قدرتها على احتوائه أو القيام بدورالدولة المهيمنة الأولى في العالم كما كان سابقاً. كما لا نعرف الكيفية التي ستؤول إليه الأمورمن حيث توزيع القوى على الرقعة الدولية القادمة نتيجة وصول النظام السياسي الدولي إلى طريق غامض.
تثبت الأحداث أن الولايات المتحدة الامريكية ليس في مقدورها أن تكون رافعة لبناء نظام عالمي جديد تحت قيادتها, لكنها تستطيع أن تعبئ العالم سياسياً وراء توجهاتها مثلما يحدث في افغانستان والعراق عسكرياً ومالياً, رغم أنها الدولة الأولى في التراتبية العالمية للقوة, لكن ليس في وسعها تحمل أعباء المسؤولية العالمية.
لقد اتضح أن جميع الدول تتحرك في ثلاثة مجالات, محلي وإقليمي وعالمي, وكل دولة تعمل على تقييم وضعها الداخلي والدول المجاورة لها من أجل مد النفوذ واستثماره السياسي على حساب الأخرين من أجل التساوق مع البعد العالمي.
لقد استطاعت في السابق, البلدان الكبيرة أن تمتص تناقضاتها الداخلية, أن يكون الداخل متماسكاً عبر مؤسسات كبيرة وفاعلة من أجل التفرغ للمستقبل, وكل حروبها البينية السابقة كانت نزوعاً من أجل أمتلاك المستقبل, من أجل التفرد في زعامة النظام الدولي.
لكن المسألة في البلدان الطرفية, منها بلداننا العربية, تعاني من هشاشة الوضع الداخلي اجتماعيا واقتصاديا ووجود هوة كبيرة وواسعة بين السلطة والمجتمع نتيجة لنزوع السلطة الحاكمة فيها إلى حيازة القوة والثروة والنفوذ وتملك المشروعية الدولية واللعب في التناقضات الداخلية لمصلحة النظم الحاكمة مما دفع واقع البلدان الطرفية أن يصل التناقض بين الطرفين إلى المدى البعيد وفي حدية عمودية. هذه التناقضات العمودية تنزع يوماً بعد يوم إلى الصراع السياسي المسلح والاحتكام إليه بدلاً من لغة الحوارالمباشر.
إن السلطات الحاكمة في هذه البلدان تعمل بشكل حثيث إلى تعميق الشرخ القائم بينها وبين المجتمع بأنانية مطلقة دون أن تحسب أي حساب للفئات الاجتماعية المتضررة. هذا يدفع كل طرف أن يلعب على حسابه الخاص مع القوى النافذة على الصعيد الدولي, ويمد جسوره معها. أنها جسورشرعية وحق لها كي تؤكد حضورها على الساحة الداخلية والإقليمية والدولية.
أما الحروب العالم ثالثية سواء كانت داخل كل دولة أو بين دولة وأخرى فهي لتأكيد دورها وحضورها الدولي أو أنتزاع المشروعية لها بكل الوسائل.
لكن هذه الدول العالم ثالثية أو الطرفية إن لم تسوي وضعها الداخلي, وتفتح أفاق واسعة لمشاركة المجتمع في شؤونه وشجونه, سيبقى الحاكم في هذه الدول خائفاً, يهرب من الألتزامات الداخلية التي تلاحقه كظله, كالديمقراطية وحق الإنسان في العيش الكريم, حق الأخرفي وطن حراً يكون فيه مرفوع الرأس. أقول سيهرب إلى أحضان الدول الكبيرة والقوية والتي تفرض الوصاية عليه من أجل إظفاء الشرعية عليه بدلاً من شعبه, وستكون المحاكم الدولية وراء مؤخرته إينما ذهب مثل الخازوق التركي.
الحوار المتمدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى