السودان :”الجنائية الدولية” وهدر القانون
د. برهان غليون
باستثناء حركات التمرد الدارفورية المناوئة للحكومة المركزية في الخرطوم، وغيرها من الحركات في أقاليم سودانية أخرى، يكاد الرأي العام العربي وحكوماته كافة يجمعون على أن مذكرة التوقيف التي وجهتها محكمة الجنايات الدولية في 5 مارس آذار 2009 ضد الرئيس السوداني عمر البشير، تشكل استمراراً للاستراتيجية الغربية ذاتها التي تهدف إلى حصار العالم العربي وتركيعه، والتي كان العراق أحد ضحاياها. ورغم أن قطاعات واسعة من الرأي العام العربي لم تعد تشك في ما حدث في دارفور من مجازر، ولا تمانع في الاعتراف بقسط من مسؤولية حكومة الخرطوم عن ذلك، فإن هذه القطاعات تعتقد أن هناك مبالغة في تصوير حجم الجريمة، كما تستبعد أن يكون الدفاع عن الضحايا هو الهدف الحقيقي للمحكمة. والدليل على ذلك أن ما طبق على السودان لا يطبق بالمثل على دول أخرى، وبشكل خاص لا يطبق على مجرمي الحرب الإسرائيليين الذين لا تزال أياديهم ملطخة بدماء المدنيين العرب، في لبنان وفلسطين. وأي تشكيك في صدقية القضاء الدولي وشفافيته يمكن أن يكون أقوى من اتهامه بازدواج المعايير وبالخضوع لإرادة القوى الكبرى؟
لا ينبع هذا الرفض لقرار المحكمة الدولية إذن من الاعتقاد ببراءة الحكومة السودانية، بل من الشك في أن يكون الانتقام للضحايا هو دافع القوى الراعية للمحكمة الدولية. وكما يعتقد كثير من العرب فإن المسؤولية قد تكون واقعة، لكن الرئيس البشير لا يستهدف من أجلها فقط، وإنما أيضاً لكونه حلقة من حلقات الممانعة العربية، ولرفضه التسليم للغرب، ولسعيه للحفاظ على وحدة السودان وهويته العربية. فقد نجح البشير بعد استلامه الحكم عام 1989 في إخراج السودان من الحرب التي دامت عشرين عاماً في جنوبه، وفي أن يؤمن شروط استغلال الثروة النفطية، ويؤسس للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. إن ما يسعى إليه الغرب ، هو إثارة القلاقل والفوضى في السودان من أجل زعزعة حكم البشير ونظامه، ودفع السودان إلى الانقسام وشق أجزاء كبيرة منه عن الكتلة العربية. ومن أجل ذلك لم تَكُف القوى الغربية خلال العقدين الماضيين عن شحن الأجواء وتغذية التناقضات واستغلال المصاعب والمشاكل الداخلية للسودان وتضخيمها.
قد لا يكون هذا التحليل الذي يركز على الطابع السياسي للمحكمة أو بالأحرى للمحاكمة خاطئاً كلياً. فليس هناك في نظري حكم قانوني خال من المحتوى السياسي، والقانون جزء من السياسة ونظامها. وليس من قبيل الصدفة أن تكون المحكمة الدولية محكمة غربية. كما أنه ليس من قبيل الصدفة أيضاً أن لا تكون هناك، لا في السودان ولا في أكثر الدول النامية، محكمة أصلا، لا دولية ولا وطنية. وأن تكون المحاكمة تقليداً ضعيفاً في هذه الدول لدرجة لم يشعر حكام السودان أن ما جرى من جرائم في دارفور يستحق تحقيقاً قانونياً وإقامة محكمة ورد الحقوق إلى أصحابها، ولا أن مثل هذا العمل (أي تطبيق القانون) هو المسؤولية الأولى للحكومة والدولة. وحتى يحصل مثل ذلك ينبغي أن تنغرس فكرة القانون أولا في أذهان المسؤولين والرأي العام معاً، وأن يتطور الشعور بأن العنف غير المشروع، أي المنفصل عن القانون، ليس الطريق الأقصر لتحقيق المآرب السياسية. ولا يولد معنى القانون ما لم يترسخ في وعي النخب الحاكمة أن الإنسان هو غاية السياسة والاجتماع معاً، وان العمل على تحسين شروط معيشته والارتقاء بشروط تكوينه وتأهيله وتربيته، والحفاظ على حياته، هو مبدأ أي عمل عمومي ومبرره وأصل مشروعية الدولة والسياسة ذاتها.
فالدول والشعوب التي تدرك معنى القانون وخطورته هي وحدها التي تستطيع أن تستفيد منه وأن توظف تقدمها القانوني هذا في سياساتها. أما الدول والشعوب التي لا تعرف معنى القانون، فهي تعتقد بأن القوة المجردة عن القانون والمبادئ هي وحدها القادرة على الفعل والإنجاز، فتجد نفسها ضحية سياسة القوة والعنف التي خبرتها. والقصد أن أصل استخدام المحاكم الدولية اليوم وسيلةً للضغط على الدول، هو تجاهل هذه الدول الأخيرة للقانون، بل استهتارها به وخروجها عليه، وتركها ساحته فارغة للقوى الكبرى التي تطرح نفسها عندئذ راعيةً للقانون وحامية للحقوق والحريات.
وفي العقود الأربعة الأخيرة، عملت ظروف متضافرة، خارجية وداخلية، على زعزعة التقاليد والأصول المرعية في كل المجتمعات، وعلى تشويه المرجعيات السياسية والأخلاقية والدينية لدرجة لم يعد فيها للحياة الإنسانية في بلادنا العربية معنى. وصار القتل والسجن والتعذيب والاعتقال… أمراً شائعاً وطبيعياً، لا يثير أي قلق أو تأنيب ضمير ولا يدفع إلى أي مراجعة فكرية أو أخلاقية. وشيئاً فشيئاً صار العنف هو العملة الاجتماعية الوحيدة القابلة للصرف. واستسلمنا جميعاً للاعتقاد بأن النجاح والتفوق والاكتمال وتحقيق الذات كلها مرتبطة بإظهار الاستعداد الأقصى لاستخدام العنف من دون رادع سياسي أو أخلاقي. وطبقنا بنجاح مبدأ الغاية تبرر الوسيلة، ففقدنا معنى القوة الأخلاقية ونبالة الدفاع عن القيم الإنسانية.
خطأ السودان لا يكمن في أن العمليات التي خاضها جيشه قد تسببت في مقتل عشرات الألوف من البشر الأبرياء وفي تعذيب الكثير منهم وتهجير الكثيرين أيضاً، فهذا ما يحصل في كثير من عمليات التمرد أو الثورة أو الاحتجاج في العديد من بقاع الأرض، وإنما خطؤه أنه لم يكترث لما حصل، ولم يشعر أنه كان من الخطورة بحيث يستدعي التحقيق وشيئاً من العدالة، حتى لو جاء ذلك لأهداف سياسية. وبذلك قدم نفسه للذين يتصيدون في الماء العكر، وإذا لم يكن عكراً فهم يعكرونه بأنفسهم، ضحية على طبق من ذهب. وما كان في حاجة، لو تمثل هو نفسه شيئا من فكرة العدالة والإنسانية والحق وقدسية الحياة البشرية، وأنشأ محكمة سودانية لمعاقبة الجناة وتعويض الضحايا، إلى “التمرد على الشرعية الدولية” والذهاب إلى دارفور لإعلان المحكمة الجنائية الدولية ومدعيها العام نفسه تحت حذائه، كما قال.
ما لم نستبطن روح الإنسانية، ونفهم معنى الحق والقانون، ونطبقهما بالفعل، سنبقى لا محالة ضحايا قانون الآخرين، أي الاستخدام الشكلي والسياسي للقانون. لكن عندما نقول ذلك لا نحل للأسف أي مشكلة. فالمفارقة كامنة في جوهر الوضعية السياسية المسيطرة في البلاد العربية!
جريدة الاتحاد