مذكرة اعتقال… ورئيس!
موفق نيربية
من المستحسن معالجة موضوع مذكرة اعتقال الرئيس السوداني عمر البشير الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية بهدوءٍ ورويّة، من دون خضوع للمشاعر المتضاربة بين الغضب والاستنكار وأحذية الاحتقار أو بشاشة الترحيب والاحتفاء وصرخات الشماتة، ولن يكون أحدها صحيحاً أو نافعاً. وقد ابتدأت دورة الفعل والانفعال هذه منذ انتهاء عمل لجنة التحقيق الدولية بشأن دارفور، وتقديمها تقريراً عن أعمالها إلى مجلس الأمن الذي أصدر بعد ذلك قراره رقم 1593 لعام 2005. لوحظ بانتباه آنذاك أن الولايات المتحدة امتنعت عن التصويت عليه، فرأى من يرغب أنها تُبقي الباب موارباً لصفقاتٍ مقبلة، ورأى غيرهم تحفظاً ناتجاً عن عدم توقيعها على اتفاقية روما، لأنها لا تريد تعريض نفسها لاتهاماتها في أي مرحلة لاحقة، ورأى غيرهم أن ذلك لن يمنع الولايات المتحدة من دعم مواقف المحكمة وأدائها خارج حدودها.
أهم ما جاء في القرار أن مجلس الأمن «إذ يقرر أن الحالة في السودان لاتزال تشهد تهديدا للسلام والأمن الدوليين، وإذ يتصرف بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، 1- يقـرر إحالة الوضع القـائم في دارفور منذ ١ تموز/يوليـو ٢٠٠٢ إلى المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية…». قدم تقرير لجنة التحقيق الدولية وقائع مرعبة حول ما جرى في دارفور، وطرح عشرات الأسماء لمتورطين عنها، من دون الإشارة إلى مسؤولية البشير ذاته، وذلك التقرير، مع تحقيقات المدعي العام للمحكمة لسنوات، انتهى إلى طلب الاعتقال الذي صادقت عليه المحكمة أخيراً.
ردود الأفعال السودانية تميل إلى رفض تسليم الرئيس، واعتبار ذلك من أسس السيادة والكرامة الوطنية. قال الصادق المهدي إننا يجب ألاّ نقبل بتسليم رأس الدولة، ولا نفرّط بالعدالة في الوقت نفسه، في حين نصح الترابي البشير بأن «يفدي السودان»… ثم ذهب إلى السجن.
عبرت مصر عن انزعاجها من قرار المحكمة، ودعا وزير خارجيتها إلى عقد اجتماع طارئ لمجلس الأمن وتفعيل المادة 16 من النظام الأساسي للمحكمة لتأجيل تنفيذ القرار ولفحص تداعياته «على مستقبل تنفيذ اتفاق السلام الشامل وجهود تفعيل العملية السياسية».
ورغم الرويّة المطلوبة، لا بدّ من مواجهة الموضوع قبل تفاقمه، ويمكن التقدم هنا نحوه بملاحظات على هامشه، أو مواقف تتجنّب الصلابة قدر الإمكان، قبل التورّط في حمأةٍ لا عودة منها أو عنها:
أولاها أن هنالك تساهلاً عربياً وإسلامياً جارحاً مع ما حدث في دارفور حتى الآن، فأي حديث عن السيادة والكرامة الوطنية، أو المطامع الدولية في «ثروة» السودان من البترول واليورانيوم، وعن الميل الأميركي الصهيوني إلى تفتيت البنى الوطنية وإشغالها بصراعات لا تنتهي، بغضّ النظر عن مدى صحة ذلك أو زيفه، هو حديث زائدٌ أمام جوع أهل دارفور وتشريدهم الجماعي، ومع آلاف الضحايا والمغتصبات. هذه المأساة الإنسانية كانت تجري أمام أعيننا ونغضّ الطرف عنها بتبريرات سلطوية أو قومية. الأصعب من ذلك كان تناسي إسلامية المظلومين، لمصلحة إسلامية مقابلة، الأمر الذي أظهر المقياس كأنه يحتاج لإعادة معايرةٍ من جديد.
وثانيتها ما يواجهه النظام العربي من تحدٍّ لا يستطيع احتماله في شروط تفسّخه الراهنة. أكثر الأشياء خطورةً عليه تعلّقه بهذه المعركة واستسهالها لتصليب عوده المنخور، وهو لا يعي كونه قد تعرّض لزلزالين من هذا النوع النادر الطارئ في السياسة الدولية: أولهما حين أعدم صدام حسين، رئيس الدولة العربية القوية بعد محاكمة اشتهى حتى بعض أعدائه أفضل منها، ثم خصوصاً بعد عملية الإعدام المخجلة، التي ملأتها صيحات الثأر والانتقام الشبيهة بصرخات الأولاد الوحشية في رواية «أمير الذباب». وثانيهما مع «مذكرة اعتقال» لرئيس عربي يحاول بعث العنفوان الذي رافق النزعة الصَدّامية وهو يرفع في وجهنا عصاه الماريشالية الجليلة والمرعبة. والتعبير ذاته «مذكرة اعتقال» يستفزّ مشاعر الكرامة الوطنية والقومية والدينية والقبلية. فإن كان حظّ العرب سيئاً بأن يكون أول قرار «معولم» من هذا النوع من نصيبهم، فحظّ العدالة وحقوق الإنسان معهم أسوأ من ذلك… حتى إشعارٍ آخر.
فمرة أخرى يضعنا بعض حكامنا أمام الاختيار بين كرامة وطنية وقومية لا يريد أحد التفريط بها، وعدالة نتوق إليها منذ زمنٍ، بحق من ظنّوا أنه مسموح لهم ما هو غير مسموح لغيرهم، وهم المدللون طويلاً، والمسكوت عن استبدادهم واستهتارهم بحقوق الإنسان وحريات مواطنيهم… وكرامتهم.
سمعوا مرةً أن الهجوم خير وسائل الدفاع، فصدقوها وجعلوها مبدأً ثابتاً في سياساتهم، في حين أن الدفاع هو الدفاع، وإن كان هجوماً لمرة، فهو تراجع مراراً. والعصر عصر الحرية والعدالة وحقوق الإنسان، فلهم الخيار!
* كاتب سوري