زمن المحاكمات الدولية
عبدالله تركماني
بعد انتهاء مراسم انطلاق المحكمة الدولية الخاصة بلبنان يوم 1 مارس/آذار في لاهاي تشعّب الاهتمام ليصل إلى قضية السودان، حيث صدرت عن المحكمة الجنائية الدولية مذكرة يوم 4 مارس/آذار تطالب بتوقيف الرئيس السوداني عمر البشير على خلفية اتهامه بارتكاب جرائم ضد الإنسانية. وتم مسارا المحكمتين في ظل حراك سياسي متواصل في المنطقة وقد تؤسسان لمرحلة جديدة فيها، لجهة حضور العدالة الدولية، طالما أنّ العدالة الوطنية مغيّبة، في الشرق الأوسط.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل يحق لرئيس أن يرتكب جرائم بحق الإنسانية وبحق شعبه وأن يفلت من العقاب ؟
لقد انطلقت محكمة الجنايات الدولية في العام 2002 استجابة للمطالبة المستمرة بتعقب مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية، وتضمنت معاهدتها تعريفا واضحا ومحددا لهذه الجرائم: ” كل الجرائم التي ترتكب في إطار هجوم واسع النطاق ومنهجي وموجه ضد أية مجموعة من السكان المدنيين ويشمل جرائم القتل المتعمد والإبادة والاسترقاق وإبعاد السكان أو نقلهم بالقوة والسجن أو الحرمان الشديد من الحرية البدنية والتعذيب “. وفي كل الأحوال تكمن أهمية المحكمة في أنها المحكمة الأولى التي تختص بجرائم الحرب والإبادة الجماعية والانتهاكات المنظمة لحقوق الإنسان في أي مكان من العالم، إنها أهم مؤسسة لحقوق الإنسان تم إنشاؤها خلال الخمسين سنة الأخيرة، ويمكنها أن تكون بمستوى التحديات والتطلعات الإنسانية إذا ما تيسرت لها الشروط والمستلزمات الضرورية. وتعتبر تطورا عمليا لنمط التفكير الدولي الذي يتطلع لعمل مشترك يقوم على مبادئ المساواة والاعتراف بحقوق الشعوب في العيش الآمن وتقرير المصير وردع الظلم والعدوان.
ويبدو أنّ القيادة السودانية لم تدرك أنّ أحد مشاغل عالم اليوم تتلخص في التحول المؤسسي القائم على مجموعة قيم عالمية، مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والشفافية والحكم الصالح. حيث يدفع هذا التحول الحكومات إلى الانتقال من شخصنة السياسة، أي ربط مصير الأمة بشخص ما، إلى مأسستها، وربط مصير الدول والمجتمعات وعلاقتها بمدى حيوية المؤسسات وتكيّفها للتعاطي مع المؤسسات العالمية المماثلة.
لقد أوصلت السلطة السودانية نفسها إلى المأزق الحالي، بفعل تنكرها للجريمة ضد الإنسانية في دارفور، ورفضها تقديم التنازلات الضرورية لمواطنيها لطمأنتهم إلى تمتعهم بحقوق المواطنة والحياة الكريمة، وأيضا فهمها الخاطئ للرسائل الخارجية التضامنية والتحذيرية.
ويجدر بالمسؤولين العرب الذين يتهمون المحكمة الجنائية الدولية بالانحياز أن يتذكروا أنّ ضحايا أعمال العنف، بما في ذلك تلك التي تعرض لها مدنيون عددهم 300 ألف قُتلوا في دارفور بين عامي 2003 و2008، هم من أهل السودان شأنهم شأن المليونين ونصف المليون من المهجّرين الذين يعيشون تحت الخيم وفي مخيمات اللاجئين منذ ست سنوات، ناهيك عن العدد الذي لا يحصى من النساء اللواتي تعرّضن للاغتصاب خلال أعمال الاقتتال. وأنه بعد قرار المحكمة سيكون عمر البشير الرئيس الرابع الذي سيتم توقيفه من قبل المحكمة الجنائية الدولية، وهو لا يزال يمارس السلطة، إذ سبقه في هذا المجال ثلاثة رؤساء: الصربيان سلوبودان ميلوسوفيتش، وميلان ميلوتيفيتش، والليبيري شارل تايلور.
وبالرغم مما ينطوي عليه قرار المحكمة من مخاطر على حاضر السودان ومستقبله لا يبدو أنّ مواقف المسؤولين السودانيين، ولا سيما ذوي الرؤوس الحامية مثل وزير الدفاع الذي هدد بأنه ” سيحطم المحكمة “، ستعدّل من مسار القضاء الدولي في ما يتعلق بلائحة الاتهامات التي سيقت ضد الرئيس عمر البشير. وسواء كان أسلوب التهكم جادا أو غير جاد فهو دليل على غياب النضج المسؤول، لا يبشر باتخاذ أية خطوة إيجابية للتعامل مع القرار، ولا يعطي بشائر حكمة في تناول تبعاته.
وبعيدا عن كل التداخلات الحقوقية والقانونية والسياسية المحيطة بالمحكمة فإنّ قرارها ستكون له تداعيات داخلية وخارجية. وفي هذا السياق، من حقنا أن نتساءل عن ما هو الأفضل والأقل خسارة: بقاء الوضع على حاله في السودان، أم انتظار المخاطر المحتملة، أم تبنّي الحكمة والتعقل في التعاطي مع الوضع ؟
من المؤكد أنّ أية مبادرة حكيمة سوف تنطوي على أنّ الشعوب أهم من الحكام، وأنّ الحاكم يزول بينما الشعب يبقى، وأنّ مهمة الزعيم الحقيقي هي حماية شعبه وتوفير الأمن والاطمئنان له، وليس لشخصه وأولاده وعشيرته. ومن حيث المبدأ يمكن أن يكون المخرج من هذا المأزق هو وضع مصلحة السودان فوق مصلحة البشير، وهناك أصوات سودانية، حتى داخل حزب ” المؤتمر الوطني “، ممن يدافعون حاليا عن الرئيس البشير، تدعو إلى ذلك وتفضل عدم الدخول في مواجهة مع المؤسسات الدولية، لما لذلك من انعكاسات سلبية على علاقات السودان الخارجية وعلى أوضاعه الاقتصادية.
ومن جهة أخرى، إذا كان المنطق الذي يقف خلف صدور القرار يتحدث عن القانون الدولي والعدالة وحقوق الإنسان، فإنّ من المناسب، بل الضروري، في هذا الشأن الإشارة إلى أنّ منطقا كهذا يجب أن يكون مطبقا وفق معيار واحد، بعيدا عن الانتقائية أو الازدواجية أو التوظيف السياسي، أو التغاضي عن قضايا أكثر بشاعة وأقدم عمرا، والانتهاكات الفظة لحقوق الإنسان والجرائم ضد الإنسانية وحروب الإبادة الجماعية تتواتر صورها على مرأى من العالم كله وفي شكل يومي ودائم كما حدث في غزة حديثا.
وفي العالم العربي ما أحوجنا إلى وعي جديد يؤصّل لثقافة سياسية تعتبر التحرر من الأنظمة الشمولية أحد أهم المداخل للاستقلال الوطني والقومي، يميّز بين معاناة شعوبنا من وطأة النظم الشمولية ومعاناتها من الآثار السلبية المحتملة لتدخل المجتمع الدولي ومحاكم العدل الدولية، من دون التمسك بهذه النظم، التي هي معضلة عربية سابقة على محاكمتي لاهاي.
وأيا يكن من أمر، فإنّ التطور على مستوى انطلاق المحكمة الخاصة بلبنان، وتزامنها مع التطور الكبير على مستوى مذكرة التوقيف بحق البشير، يؤشران إلى أنّ ثمة مسارات دولية يبدو أنه من الصعب أن تتوقف، وإن طال أمد الوصول إلى نتائج ملموسة لإحقاق العدل، فما بعد المحكمتين هو غير ما قبلهما، واختبار مدى إدراك ذلك من جانب الحكام العرب المعنيين بالأمر سيظهر خلال المرحلة المقبلة. والأمر نفسه ينطبق على قادة إسرائيل الذين ضربوا بعرض الحائط الاتجاه العالمي الجديد، بالجرائم التي ارتكبوها ضد الفلسطينيين.