هل يمكن إصلاح وضع المرأة العربية؟
فهمية شرف الدين
يستطيع القارئ في تاريخ الحركة النسائية العربية ان يلاحظ “الرضى” بالنسبة للاصلاحات التي قدمتها الدول الوطنية، او بالنسبة لما تضمنته الايديولوجيات ” التحررية” اي الإيديولوجيات القومية والماركسية من افكار ومواقف عن المرأة وحولها ولها، وغض الطرف عما يتضمنه التمييز في قوانين الاحوال الشخصية من تشريعات واجراءات الغت فعلياً معنى المساواة التي تضمنها الدستور.
وبالرغم من ان هذه الاصلاحات كانت في مجملها في مصلحة النساء ( قضايا التعليم، والعمل، الا ان غياب الوعي بقضية الجندر (النوع الاجتماعي)، لم يعط الاشكال الجديدة للانضباط الاجتماعي من خلال اجهزة الدولة الإيديولوجية (التعليم، الاعلام، الدين…) الاهمية التي تستحق، حيث تساوى في الخطاب الوطني المبثوث بواسطة هذه الاجهزة مفهوم ” الوطن” مع (اي ادوار الرجال والنساء في المجتمع) علاقات النوع والنسب ولون البشرة اي تلك العناصر التي تخضع للاختبار. وتشير دنير كانديوني ” الى ان ربط النساء بالمجال الخاص يؤكد على تواصل مفهوم الوطن والمجتمع بالام المضحية والمخلصة” ولا يخفى ما لهذا التداخل من اثر على الفصل بين الادوار الاجتماعية للنساء والرجال التي تكرسها الثقافة التقليدية. لقد مارست الدول الوطنية وكذلك الاحزاب السياسية دمجاً قسرياً للمطالب الاجتماعية المختلفة بالاهداف السياسية التي سعت اليها الدول الاستقلالية. هكذا اصبحت قضايا النساء جزءا من كل: فالمرأة انسان وهذا اعتراف ذو قيمة معنوية عالية على النساء ان يقبلن به.
ولم تمض فترة قصيرة بعد نيل الاستقلال، حتى اصبحت المطالبات الخاصة بالنساء او غيرهم “مرفوضة” بداية تحت عنوان التنمية الشاملة المستقلة العتيدة الاداة الوحيدة لتغيير المجتمع و”ممنوعة” في ما بعد بحجة عدم زعزعة الاستقرار وعدم التعرض لـ”الوحدة الوطنية” الضرورية في خضم الصراع العربي الاسرائيلي.
ونزعم هنا ان الاجتهاد قد توقف في تلك الفترة في كل ما له علاقة بالمجتمع، واصبح الخطاب السياسي الايديولوجي للدولة هو نفسه الخطاب الاجتماعي الذي تبنته الحركات السياسية والاجتماعية المنتمية للدولة او المهادنة لها: ومنها الحركات النسائية.
ومع ان الدولة الوطنية اخذت على عاتقها تطبيق بعض الاصلاحات الخاصة بالنساء، كالتوسع في انشاء مدارس للفتيات واتاحة الفرصة للنساء للالتحاق بالتعليم العالي وتوظيف النساء في الجهاز الاداري للدولة، الا ان التصورات والرؤى المحيطة بالمرأة ودورها ظلت تدور في فلك السائد، وظلت الصور المبثوثة في كتب التعليم والمناهج الدراسية المختلفة تظهر التمايز الواضح بين الحيز الخاص الذي تشغله المرأة والحيز العام الذي هو ملك للرجل، ظلت “امي” في البيت تطبخ وتكنس وظل “ابي” يقرأ الجريدة.
لم تتجاوز المرأة في ظل هذه المكاسب ما كان يسميه قاسم امين الدور الرابع وهو دور نشوء المدنية حيث يتم الاعتراف للمرأة بشيء من الحق لكن استبداد الرجل والثقافة الابوية يمنعانها من ممارسة هذا الحق.
أي ان المرأة استطاعت ان تنفض عن نفسها غبار الاستبداد او ما سمّاه قاسم امين الدور الثاني المجتمع البطريركي، لكنها وقعت مرة اخرى في براثن المجتمع الابوي المستحدث على ما يسميه هشام شرابي، حيث استطاع هذا المجتمع تطويع الافكار الجديدة حول المرأة الانسان، وحقوق المرأة الانسان وضبطها في حدود الخصوصيات الثقافية التي ما لبثت ان اتخذت مساراً جديداً في سنوات الثمانينات.
-2 كيف يتم التعامل مع اصلاح وضع المرأة اليوم؟ وهل تستطيع دعوات الاصلاح المرفوعة ان تحدث التعديلات المطلوبة في ما نسميه الجوهري والعميق في قضية المراة؟
عودة الى الوقائع. لا يحتاج الباحث في موضوع المرأة الى الكثير من الجهد ليتعرف على الوضع المتردي الذي تعيشه المرأة العربية فالاحصاءات الكمية والتحليلات النوعية جميعها تشير الى تدني موقعها في المجتمعات العربية. ومنذ ان اصبح تمكين المرأة احد العناصر الرئيسة في تقويم تقدم الدول، والدول العربية لا تزال تتدرج في قائمة الدول الاكثر تخلفاً، وقد ابرز تقرير التنمية العربية الانسانية عام 2002 النقص في تمكين المرأة معتبراً انه هو نقص اساسي لا بد من العمل على تلاقيه من اجل السير بالمجتمعات العربية نحو التقدم.
ويرى التقرير ان تحسناً كمياً في بناء قدرات المرأة تحقق خلال السنوات الاخيرة فعلى سبيل المثال اظهرت المنطقة العربية تحسناً في تعليم الاناث اسرع منه في اي اقليم آخر، فقد تضاعفت معدلات النساء في القراءة والكتابة ثلاث مرات منذ عام 1970، وازدادت معدلات التحاق الاناث بالمدارس الابتدائية والثانوية باكثر من الضعفين، الا ان هذه الانجازات لم تنجح في تعديل المواقف والمعايير الاجتماعية المتحيزة ضد المرأة، اي تلك المعايير التي تشدد على نحو حصري على الدور الانجابي للمرأة وتعزز قيم التمييز وثقافة اللامساواة بين الرجل والمرأة في جميع المجالات.
ان اكثر من نصف النساء العربيات لا يزلن اميات كما تعاني النساء في بعض البلدان العربية من عدم المساواة في المواطنة (حق اعطاء الجنسية لاولادهن) وفي الحقوق القانونية (حق الانتخاب والتصويت) ولا تزال الاستفادة من قدرات المرأة العربية في التنمية والمشاركة السياسية والاقتصادية الاقل في العالم. وتعاني المرأة من عدم المساواة في الفرص، وهو مما يتضح من الوضع والاجور ومن التمييز الوظيفي القائم ضد المرأة.
لكن التقرير لم يشر الى العقبات والموانع التي تقف حجر عثرة في طريق اصلاح مكانة المرأة وتغيير مركزها في المجتمع. لقد غاب عن التقرير ايضاً المسألة الاهم التي تقرر في وضع المرأة الحالي، اي المسألة الثقافية. واقصد بالثقافة هنا مجمل حياة المجتمع أي آداب الناس واحوالهم في المعاش وامور الدنيا ومعاملاتهم وتصرفاتهم في الحياة اليومية كما يمكن ان يقال بلغة ابن خلدون.
ونزعم هنا ان مجموعة المكونات للثقافة العربية قد ساهمت بشكل او بآخر في انتاج الصورة الدونية للمرأة، واذا كانت المدارس والجامعات قد فتحت ابوابها للفتيات، لكن ابواب المساواة والبنى الثقافية والتقليدية لم تمس بعد. واذا كانت البيئة الاجتماعية والسياسية تؤثر في موقع المرأة في المجتمع ودرجة مشاركتها الفاعلة في صنع القرار، فإن البعد الثقافي هو الذي يؤسس لهذه البيئة ويحدد الاطار النظري لصورة المرأة وموقف المجتمع منها.
فالحياة الاجتماعية لا تزال تكرر صورة الحياة الاسرية، والشق القيمي والثقافي لا يزال يخضع سيرورة حياة المراة لقواعد ثوابت سلوكية تجد اساسها الموضوعي في تقاسم الادوار الذي تعيد انتاجه الثقافة الابوية. ولا بد من الاشارة هنا الى ان المعايير والهياكل الاجتماعية والسياسية تقع في صلب علاقة جدلية تتمحور حول الثقافة نظراً الى كونها من مكونات الثقافة ونتائجها على حد سواء، كما انها تعكس انساق القيم السائدة في المجتمع، ويتفاوت سلوك الفرد العائلي والسياسي والاقتصادي ايضاً بتفاوت آليات الضغط الاجتماعي الذي يشرط الاكراه الذي تمارسه الاسرة او العائلة.
ان احد اقوى الجوانب المؤثرة للثقافات يتمثل بالطريقة التي تكونت فيها الاعراف. ويتعلق الامر هنا بمجموعة معقدة من المبادئ او المعايير التي انفصلت عن مرجعياتها لتصبح هي نفسها المرجعيات، ومما يثير الشكوك في امكان الحد من هذه التأثيرات هو الميل الى تبسيط المشكلات المتعلقة بالبعد الثقافي وجعلها في حدي التناقض الايجابي والسلبي للخصوصية. ونحن نرى ان مسائل الخصوصية والعالمية ليست قضايا مجردة بعد ان تحولت الى مقولات سياسية تصاحب النقاش الدائر حول العولمة وتؤطره. وفي هذا السياق نرى ان مفهوم الخصوصية بحاجة ماسة للتأمل بغية اخراج القضايا المرهونة له كقضايا النساء من مشكلات الخصوصية.
ان الانزلاق نحو تثبيت الخصوصيات وتأبيدها اصبح اشكالية حقيقية ترافق البحث الاجتماعي العربي، وتتجلى في اكثر الصور عنفاً عندما يتعلق الامر بموضوع النساء وموقفهن ودورهن في المجتمع، هكذا نرى ان البلاد العربية هي الاقل ترحيباً بالاتفاقيات الدولية المعنية بقضايا المرأة وقضايا حقوق الانسان، فالدول العربية مثلاً لم توقع جميعها حتى الآن على اتفاقية القضاء عن جميع اشكال التمييز ضد المرأة التي اقرتها المنظمة الدولية سنة 1979، والدول التي وقعت تحفظت على اهم البنود التي تساهم في تغيير البنى الذهنية وتعيد بناء التصورات حول الوجود المستقل للنساء ودورهن في المجتمع ؛ ونحن ننظر الى هذه التحفظات وخاصة التحفظات عن المواد المتعلقة بالاحوال الشخصية باعتبارها تعبيرا عن استقرار النظر الى المرأة باعتبارها تشكل الارض الخصبة لازدهار ما تسميه الحركات الاصولية بالخصوصية، وان عناصر الرؤية لمكانة اخرى للمرأة لم تصبح جاهزة بعد.
-3 ما الذي يجب اصلاحه اذن؟
ليس الكلام عن اصلاح وضع المرأة العربية جديداً، فقد بدأه المصلحون الاوائل منذ النصف الاول من القرن التاسع عشر، ويكفي ان نراجع ادبيات الاصلاح التي رافقت مشاريع النهوض على مدى القرنين الماضيين لنرى كيف كان اصلاح وضع المرأة في قلب هذه المعادلات.
واليوم تتقدم قضية المرأة جميع الدعوات الاصلاحية الداخلية منها (وثيقة الاسكندرية، اعلان صنعاء) او الخارجية (مشروع الاصلاح الاوروبي، الاميركي…).
وتتأسس هذه الدعوات على ملاحظات ومؤشرات حقيقية، تضع البلاد العربية في آخر قائمة البلدان في قياس تمكين المرأة. قد نختلف مع هذه الدعوة او مع غيرها في اولويات الاصلاح وفي اهدافه، وقد نعترض على مفهوم الاصلاح نفسه، فنحن دعاة تغيير، لجميع الاوضاع التي لا تزال سائدة في المجتمعات العربية. والاصلاح بالنسبة لنا لا يقتصر على تحسين وضع المرأة في هذا المجال او ذاك، بل اكثر من ذلك يتعلق بالثقافة السائدة التي لا تزال بعيدة عن احتضان افكار المساواة، والديموقراطية وحقوق الانسان. وليس ما تعانيه المرأة سوى ثمرة لهذه الثقافة التي ترخي بظلالها على حياة النساء والرجال معاً. فقهر المرأة مثلاً جزء لا يتجزأ من ثقافة الاستبداد السائدة، وليس الاستبداد السياسي سوى تتمة لممارسة الاستبداد في الاسرة، وليست جدلية السيطرة والاخضاع سوى تجلٍ لسلطة ابوية لا تزال تبرر هذه الثقافة الاستبدادية.
في دراسة حديثة لي عن البعد الثقافي للعنف ضد المرأة في المجتمع اللبناني. وجدت ان تحسين وضع المرأة وتعديل مكانتها في المجتمع يتطلب تعديل الشروط المختلفة التي تساهم في انتاج الصور النمطية لكل من المرأة والرجل على السواء، ونستطيع ان نوجز هذه الشروط في مستويين: مستوى اول وهو المتعلق بالمنظومة التربوية ومستوى ثانٍ وهو المتعلق بالمنظومة الحقوقية.
واقصد بالمنظومة التربوية مجموعة القيم والعادات التي تخترق العلاقات الاجتماعية وتنعكس في نظم التربية والتعليم وقواعد الضبط والسلوك الاجتماعي، وهي المسؤولة الى حد بعيد عن انتاج الصور النمطية للنساء والرجال على السواء. فالموقف من النساء لا تحده القوانين فقط، وانما تساهم فيه وتفرضه منظومة القيم الابوية التي تجعل صور النساء وانتظارات المجتمع منها ودورها ومكانتها مرهونة بالكيفيات التي تستغل بها هذه القيم، وقد تقدم لنا حالة لبنان نموذجاً مبسطاً لعدم المواءمة بين القوانين وتأثيراتها الموضوعية في ظل بنى اجتماعية ابوية قادرة على اعادة انتاج وتشغيل منظومتها القيمية.
واشير هنا الى قانون مشاركة المرأة في الحياة السياسية، حيث قدِّر للمرأة ان تحصل على حق المشاركة السياسية سنة 1953، لكنها لم تمارس هذا الحق سوى بالانتخاب فقط وتحت وصاية الرجال، وكان يجب انتظار التسعينات مع ما حملته المؤتمرات العالمية من دعاوى حول اهمية مشاركة المرأة في ادارة الشأن العام حتى تتحرك المسألة قليلاً، لكن طغيان الابوية وانكسار العناصر المدنية الفتية خلال الحرب استبقى هذه المشاركة اسيرة لدى الابوية، فلم تدخل اية امرأة الا وكانت اما زوجة او ارملة، او اخت لشهيد من شهداء الحرب، او انها تنتمي الى النجوم الصاعدة بعد الحرب، ولعل ما يجب الاشارة اليه ان لبنان ظل البلد الاقل تقدماً في مقياس التنمية البشرية، حيث النسبة المئوية للمشاركة السياسية هي اقل من 4،7%، وهي أدنى نسبة في العالم من افريقيا جنوب الصحراء.
4- اذن ما هو مستقبل المرأة العربية؟
الاجابة على هذا السؤال لا تزال مرهونة لعناصر شتى فالصورة المحتملة للمرأة العربية يشرطها اجتماع عناصر، وتقاطع عناصر اخرى، واذا كان لا بد من التذكير ان الكثير من العناصر التي تعتبر شروطاً ضرورية للتطور الاجتماعي لا تزال مطالب لم تتحقق في اكثرية البلدان العربية كالتعليم والعمل حيث ان الأمية في بعض البلدان تزيد على 50%، فإن فرص العمل في ظل هذه الأمية تتضاءل في بلدان كثيرة لتصل حتى 7%. ومن الضروري الاشارة ايضاً الى أن الظروف الحالية لاصلاح وضع المرأة في البلدان العربية لا تتقاطع بشكل ايجابي مع المناخات العالمية، بل ان الاستجابات الداخلية في معظم الاقطار العربية لا تزال تقف عائقاً امام تحرير المساحات الموضوعية للمرأة، اي تعديل الشروط القانونية التي ترعى حياتها الخاصة.
وقد يكون من المفيد التذكير ان مجموعة القوانين التي لا تزال تميز ضد المرأة هي قوانين الاحوال الشخصية وبعض مواد قانون العقوبات وقانون الجنسية، ونزعم هنا ان تعديل هذه القوانين يقع في اساس الاصلاح المنشود لوضع المرأة، فهو برأيي سينتج اعترافاً اجتماعياً لوجودها الاجتماعي المستقل. ان الاصرار على تعديل هذه القوانين يتيح رفع الوصاية الذكورية عنها ويزيل التناقض بين وجودها الاجتماعي الذي لا يزال يربطها بالاسرة من المهد الى اللحد، وبين وجودها الذاتي الذي وفرته ويجب ان توفره الدولة (اي خدمات التعليم والصحة والعمل). وفي زعمنا ان هذا الوضع المتناقض يستند في عناصره الاساسية الى ارث التقليد المتساند مع الاديان، هذا الارث الذي يكرس الصورة الدونية للمرأة.
ان الرشاوى التي يقدمها هذا الارث للمرأة الأم او المرأة الزوجة لا تستطيع ان تعدّل هذه الصورة، فتضخيم دور الام، يتناقض اليوم مع شروط التربية الحديثة، وتضخيم دور الزوجة واشاعة تداعيات لغوية من صنف “وراء كل رجل عظيم امرأة ” لا يحل التناقض الموجود الذي تفرضه طبيعة العلاقات الأسرية القائمة على اساس التمييز. ولن تستطيع هذه الرشاوى ان تمنع ما تتعرض له المرأة من تحقير لأتفه الأسباب. إن التمييز ضد المرأة ليس مسألة تقنية نستطيع حلها من طريق اجراءات ادارية او حتى قانونية، لان التمييز كالنهر يجري في مفاصل الحياة اليومية لمجتمعنا اللبناني. فاللغة المستخدمة للتعبير عن صفات وافعال المرأة تعكس النظرة الدونية لها، فهي تنضح بجميع اشكال التمييز ضدها، وفي جميع مستويات وجودها العقلي والنفسي والجسدي، وليست الصورة التي تتداولها وسائل الاعلام والاعلان سوى انعكاس لهذه اللغة وللصورة التي ينتجها المجتمع للمرأة ويروجها عبر اجهزته الإيديولوجية.
وليس من الممكن تغيير ذلك الا اذ استطعنا ان ننجز قطيعة كاملة مع ارث التقليد الذي يحتمي بالنصوص لتأييد سيطرته.
لقد اشارت وثيقة الغاء جميع اشكال التمييز ضد المرأة الى دور الثقافة والممارسات التقليدية في استقرار آليات التمييز ضد المرأة. وبأن الغاء جميع اشكال التمييز هو متكامل يبدأ في الموضوعي حيث القوانين تحمي حرية المرأة وكيانها المستقل وينتهي بالثقافي الذي وحده يحرر كينونتها الذاتية ويحمي وجودها الاجتماعي.
ان المطالبة بتغيير القوانين والغاء جميع اشكال التمييز تهدف الى التأكيد على انسانية المرأة واهليتها الكاملة لاتخاذ القرارات بنفسها عن نفسها، ونحن نزعم ان ايجاد حدود قانونية وضعية للنساء سيساعد بالفعل على تدعيم فكرة المساواة في المجتمع، لذلك فان هذه المهمة ليست ولا يجب ان تكون مهمة النساء فقط، بل هي مهمة جميع الناس الذين يؤمنون بالمساواة بين جميع المواطنين.
لقد قطعت المرأة اشواطاً كثيرة بين الامس واليوم، لكنها لم تستطع منذ بدايات القرن وحتى اليوم ان ترفع سقف مطالبها لتطول الكينونة نفسها ولم ترفع الحركات النسائية ايضاً الى مستوى الوعي اللازم لادراك اهمية مطالب الكينونة، والكينونة تفرض الوجود الاجتماعي المستقل. والوجود الاجتماعي المستقل له شروط عينية في المكانة والدور وشروط ثقافية قائمة في الوعي والضرورة.
ان النساء لم يستطعن تحقيق الكثير من هذين الشرطين. فالمكانة والدور، جوهر الدعوة الى التغيير السائدة اليوم، لا يزالان في طور الامكان وهما يستلزمان الكثير من عناصر الوعي والمعرفة للحصول عليهما، والوعي والضرورة شرطهما في الزمن الراهن ليس التعليم فقط، وليس التربية العقلية والنفسية والجسدية كما كان يقول قاسم امين، بل الخضوع للتجربة في حدودها القصوى التي تكفلها الحرية. من اين نبدأ اذن؟ وما هو مستقبل المرأة ؟
وكيف ترتسم حدود صورة امرأة العصر الآتي؟
أمن ذلك الركام الهائل الذي تركته الحركات النسائية، حتى الآن ممهوراً بالتحفظ والقلق والمساءلة التي جعلت مطالب النساء اليوم امتداداً للمطالب القديمة ذاتها التي صاغها قاسم امين دون اي تغيير في المعنى والوجهة والمبنى؟ ام من القطيعة مع هذا التراث مهما كان عظيماً؟
في كتاب بعنوان “عالم النساء- سير نساء على مفترق ثقافات القرن العشرين” يتضح البعد الثقافي لمسألة العنف ضد النساء، فصفية السودانية المولد والمنشأ، وشريعة الافريقية حياتيهما عبر وصف حياة اربعة اجيال من النساء هن جداتهن وامهاتهن، انتهتا الى ما يشبه النتيجة وهي ان النساء “سواء كن يعشن في المدن او في الارياف، او انتمين الى الطبقة / الوسطى او العليا، متعلمات كنّ او اميات يواجهن الكثير من المشكلات المتشابهة والقائمة على القيم الثقافية.” ولكن القيم الثقافية ليست ثابتة، فالثقافة كائن يتطور وينمو تحت تأثير عوامل اخرى، علماً ان نوع العوامل الاخرى يرتبط الى حد كبير بالتنمية بالمعنى الجديد لمفهوم التنمية البشرية المستدامة.
كيف تتحقق كينونة المرأة وشخصيتها المميزة؟ وشخصيتها المتميزة ليست اقل او اكثر من الرجل، هي بكل بساطة شخصية اخرى، “شخصية مختلفة”. فان تكون المرأة كائناً بذاته يعني ان تتوافر على شروط موضوعية وذاتية ما زالت في دائرة الامكان.
ما هي حدود الكينونة في ظل استمرار الثقافة الابوية في جميع مستويات الحياة العربية؟
ما معنى الاستقلال والخروج من التبعية الوجودية في ظل تقاسم الادوار على اساس الجنس؟
هل نستطيع الاجابة؟ وهل تساعد شروط مجتمعنا على تعديل عناصر الضرورة التي ترتسم في افقها حدود صورة امرأة العصر الآتي.
هل نستطيع ان نقيم حدوداً تقطع مع الاشكال الحالية للتمييز ضد النساء في جميع المستويات.
لن اقترح مشروعاً للبدائل، فليس بالامكان تغيير الثقافة دون تغيير العناصر الدينامية المكونة لها، والعناصر الدينامية بلغة ابن خلدون هي آداب الناس في احوالهم في المعاش وامور الدنيا ومعاملاتهم وتصرفاتهم في الحياة اليومية. وبكلمة اخرى هي فرص التغيير التي تنتجها عمليات التنمية بالمعنى الجديد لكلمة التنمية، اي تنمية موارد المجتمع البشرية والمادية وتنمية ثقافته الاجتماعية التي تتيح انتاج صور اخرى للمرأة ترعاها فكرة المساواة القائمة على اهلية المرأة وقدراتها الفعلية للمشاركة في ادارة الدولة والمجتمع.
(استاذة في الجامعة اللبنانية)
النهار