أي عروبة للقرن الحادي والعشرين؟
منى فياض
لم يتصور منظمو مؤتمر «أي عروبة في القرن الحادي والعشرين؟» من تيار المستقبل في أواخر فبراير (شباط)، أن يلقى هذا الإقبال الشديد، والذي لم يقتصر على الافتتاح، بل تعداه الى سائر الجلسات. وقبل ذلك بيومين كان «مركز دراسات الوحدة العربية» قد نظم ندوة بعنوان: «من أجل الوحدة العربية: رؤية للمستقبل».. الأمر الذي يؤشر على الحاجة المستجدة الى إعادة طرح مفهوم العروبة هذه التي بدا أنها تسترجع القدرة على الاستقطاب، بعدما كادت تصبح مؤشراً على الانحطاط الذي بلغته المجتمعات العربية، وما يسودها من انقسامات وخلافات ونزاعات واقتتال غير مسبوق، بلغ قلب الساحة الفلسطينية التي لم يعرف من حسناتها سابقاً سوى تماسكها أيام الراحل ياسر عرفات.
يضاف الى ذلك الشعور المتنامي لدى الشعوب العربية وقادتها بتزايد التحديات والتهديدات الإقليمية، هذا عدا عن تزايد التهديد الناجم عن الحركات الأصولية المتزايدة داخلياً، والتي تهدد بمزيد من العنف والاحتراب. كل ذلك يجعل من العودة الى حضن العروبة مفهوماً ومبرراً، لكن السؤال يظل أي عروبة هي تلك التي تستعاد الآن في بيروت بهذا الزخم؟
عندها نسأل لماذا صار الكثير منا يشعر بالضيق لدى الاستماع الى الخطاب القومي العربي الذي يتغنى بالعروبة؟ ولماذا صارت هذه في نظر الكثيرين مجرد تعبير خطابي، او استخدام لفظوي فقد معناه؟ أليس لأنها ارتبطت في أذهاننا بفشل الوحدة بين مصر وسورية، وبهزيمة الـ 67 وبتحولها الى مجرد غطاء للاستقواء والاستبداد للأنظمة التي تمارس الممانعة اللفظية، فيما هي تقدم المهادنات والتنازلات السرية؟
على المستوى الفردي كيف ينظر الشاب العربي الى نفسه وإلى عروبته، أليست العروبة مرادفا عنده للتأخر والعنف والتعصب وانعدام الشفافية والمسؤولية وضعف الإنتاجية وانعدام الحريات؟
على المستوى السياسي ألا ترتبط العروبة بالاستبداد والديكتاتورية والتبعية والتسلط والفساد وسيطرة المنطق الميليشيوي والصراعات الدموية العشائرية والقبلية والمذهبية، في شكل مناقض تماماً لمنطق المؤسسات الديمقراطية التي تعتمد المساءلة والمحاسبة والشفافية وتحترم حقوق الإنسان؟
للأسف وكما تمت الإشارة في المؤتمر الى تجربة اللبنانيين مع العروبة، بخاصة تلك التي شهدوها في نهاية القرن الماضي، والتي أدت بهم إلى «مفارقة موجعة» بسبب تعرضهم «للاستبداد الأخوي» تحت شعار «الدفاع عن عروبة لبنان».
وفي سياق ارتباط العروبة الحديث بالإسلاموية، ومن منطلق التشكيك بعروبة لبنان يتم تناسي أن هذه العروبة وجدت جذورها في هذه المنطقة من المشرق وعلى أيدي المثقفين المسيحيين بخاصة، حيث توفر لهم الانفتاح على أوروبا وعلى الداخل في آن معا. وكانت مساهمتهم في النهضة الأدبية والثقافية العربية كبيرة، فلقد وفّرت بيروت البنية التعليمية والثقافية والموقع الحضري، لظهور نهضة أدبية جديدة بتأثير الأدب الغربي. كانت «النهضة» اللبنانية حركة من أجل نهضة العرب القومية، وصار مطلع قصيدة إبرهيم اليازجي «تنبهوا واستيقظوا أيها العرب / فقد طمى السيل حتى غاصت الركب» صرخة التعارف والتعبئة بين الأجيال الأولى من العروبيين. وإذ حضنت بيروت أول التعابير عن الفكرة العروبية، وطبعتها بطابعها الثقافي، فقد حولتها التطورات المضطربة داخل السلطنة العثمانية من فكرة إلى حركة.
هذه العروبة كانت مطلبا مهماً للمسيحيين الذين كانوا مواطنين من الدرجة الثانية في السلطنة العثمانية. لذا تأثرت العروبة بالنزعة الإنسانية الكونية للقرن التاسع عشر وبأفكار عصر النهضة، وحملت شعارات الثورة الفرنسية: حرية، عدالة، مساواة.
ارتبطت العروبة في بداياتها بالفلسفة القومية التي انبعثت في القرن التاسع عشر في أوروبا؛ بخاصة بعد فشل مشروع تحديث الإمبراطورية العثمانية وظهور حركة التتريك القومية، سوف تكتسب فكرة استقلال العرب وتكوين دولة عربية المزيد من التأييد في أوساط الرأي العام والطبقة الوسطى. وهذا ما عبرت عنه الثورة العربية الكبرى ومشروعها في العشرينيات من القرن العشرين. لكن العروبة التي أعيد بناؤها بقوة، بخاصة في الخمسينيات والستينيات، خصوصا بعد انهيار حلم المملكة العربية، هي عروبة جديدة قومية وثورية وانقلابية وسوف تؤسس لبروز قوميات قطرية ضيقة متعصبة تحت شعار العروبة.
كان منطلق العروبة الجديدة مختلفا تمام الاختلاف عن المفاهيم القديمة من أفكار ثقافية وإنسانية كونية، ومن مفاهيم النخبة في فترة الاستعمار التي حلمت بتكوين دولة سيدة مستقلة، فتحولت الى حركات شعبوية جمعت بين العداء للاستعمار وبين مناهضة النخب والطبقات الارستقراطية الحاكمة التي بدت وكأنها الحليفة الأساسية لهذا الاستعمار. ومن هنا كانت الحركة القومية العربية منذ بداياتها حركة انقلابية تراهن على التعبئة الشعبوية كبديل عن النخب الريفية والمدينية التي كانت مسيطرة على الدولة.
وعلى الرغم من أن الوحدة كانت محور التعبئة الأيديولوجية للحركة القومية العربية، إلا أن نشاطها سوف يتركز على تغيير توازنات السلطة داخل كل قطر وإعادة توزيع الثروة لصالح الفئات والطبقات الحاكمة الجديدة. ولم يتحقق من حلم الوحدة سوى تلك التي حصلت بين مصر وسورية، ولم تدم أكثر من 3 سنوات. ولكونها ثورية وشعبوية لم تعط أي قيمة للقيم الديمقراطية وللتمثيل الدستوري أو القانوني. واستقرت في النهاية طبعة جديدة من العروبة اختلفت جذريا عن العروبة السابقة ذات قيم الاستقلال والوحدة والسيادة، وسميت بحسب الأدبيات الماركسية باسم حركات التحرر الوطني، ولم تكن سوى أنظمة أمنية ومستبدة حكمت باسم أحزاب مكونة من الطبقات الجديدة وأتباعها.
من هنا لم يسفر انحلال السلطنة العثمانية وظهور أنموذج الدولة القومية عن نشوء جماعة عربية موحدة في دولة عربية تتطابق فيها الحدود الثقافية القومية مع الحدود السياسية، بسبب غياب قوة سياسية عربية، الأمر الذي أدى الى أزمة على مستوى الهوية وعروبتها.
وهكذا أخفقت الحركة القومية العربية في تحقيق حلم الدولة القومية، كما أخفقت في تحقيق العدالة، أو التقدم والنمو، وأوصلت الأمور الى طريق مسدودة. هذا الإفلاس نزع عن الأيديولوجية العروبية كل صدقية، وهذا ما أدى الى انفصال الواقع عن الأيديولوجيا وأوجد هوة بينهما، ولم تعد هذه العروبة خياراً أو حلاً ممكناً.
من هنا ضرورة العمل على إرساء دول تكون مرجعيتها الديمقراطية والمواطنة واحترام حقوق الإنسان. فلكي تستعيد العروبة أحقيتها، ينبغي أن تحمل قيم الحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة التامة الأخلاقية والقانونية.
ولكي نأمل بعروبة للمستقبل تصلح لأن تكون أداة انبعاث جديد يمكنها استقطاب الأجيال الجديدة وتلبي لها طموحاتها، ينبغي أن تبرهن عن استحقاقها عبر بناء بلدان مدنية متطورة وقادرة على احترام مواطنيها وحرياتهم الفردية وحرية التعبير والمعتقد وعلى تلبية حاجاتهم كافة. عندها فقط يمكن أن تتمكن الدول العربية من مجاراة العالم في تحوله الى كيانات كبيرة عبر وحدتهم المنشودة منذ عقود بين دول ديمقراطية حقيقة.
اوان