النسوية التائهة بين الحجاب والفيديو كليب
دلال البزري
النسوية كهيمنة ثقافية. النسوية كيوتوبيا نسائية واثقة الخطى. النسوية كمرشد لتفكير وسلوك النساء المنضويات تحت راياتها. النسوية بصفتها صاحبة تفسير خاص للتاريخ البطريركي، وصاحبة تاريخ بطريركي مخمّن ومحتمل، وتوقعات مستقبلية؛ وممْسكة بالحاضر عبر المصطلحات والرموز والشعارات… هذه النسوية لا تشهد هذه الايام أبهى عصورها.
اللواتي شبّين على النسوية وبقين متمسّكات بها، كما عرفنها في ايامها الذهبية، لم يعدنَ مقْنعات. فاتهن ضمور الهيمنة النسوية لصالح هيمنة اخرى. فاتتهن “المقاومات” الفكرية وازمة الهوية الجنسية. فبدين مفوّتات؛ أي خارج زمنهن الراهن. وهذه فئة قليلة على كل حال، ومهمشة. اما الاكثرية من النساء اللواتي طلنَ شيئا من المجال العام وانشغالاته ووظائفه، فلا تجدن امام السؤال عن نسويتهن المحتملة غير الجواب اياه: “أنا نسوية؟! كلا! كلا! انا لست نسوية!”؛ وبنبْرة استنكارية، كأن خطب داخلي ما يحدث، عند السؤال عن النسوية. وعليّ ربما القول بانني واحدة من صاحبات الجواب المباغَت هذا. واحدس بان كل واحدة منا، وخاصة بنات الجيل الخمسيني، قبيله او بعيده، ممن عرفن النسوية في عصر هيمنتها الفكرية، بصفتها فكرة تحرر ودور وعدالة… كل واحدة منهن لها قصة مع النسوية، الشبيهة بقصص الباقيات والمختلفة عنها في آن. وقد اصابها تشوشاً حول النسوية. او عودة “ثقافية” عنها غالباً.
وأودّ هنا ان أروي واحدة من هذه القصص، الحميمة الارتباط بما حولها كما سنرى؛ اي تجربة الاخريات وتجربتي، بعدما انتقلت الهيمنة من النسوية والحداثة الى هيمنة اخرى، دينية.
النسوية بلغتني في نهاية الستينات وبداية السبعينات من القرن الماضي. وبوسائط وافرة: “روح العصر” في تلك الحقبة المتطلعة نحو التقدم والحداثة، والثورات الجذرية والآمال المطلقة المنبثقة من امكانياتها. روح عصر؟ ام روح شباب؟ الاثنان متضامنان، العصر والشباب. كانت ديناميكية “الثقافة” مشحونة بطاقة هائلة تدفع بالبنات “المحظوظات” نحو مجالات جديدة لم تعهدها امهاتهن.اشدها حيوية، السياسة. وفي الاحزاب السياسية اليسارية التقدمية خصوصاً، صاحبة ايديولوجيا حميمة الارتباط بالنسوية وبشعاراها المساواتية. الإطار الحزبي اعطى دفعا لقراءات نسوية، وتاريخية ونفسانية، فرويدية جديدة خصوصا تؤازرها. بالرغم من زخمها، لم تكن القراءة الوسيط الثقافي الوحيد. المناخ كله كان مفْعما بها: السينما، الفن، نقاشات المقاهي والحلقات الطلابية والحزبية وموضوعاتها… كانت من روافدها ايضا. واما ثاني هذه المجالات فكانت: التعليم والعمل، والاندفاع نحوهما بأعداد متزايدة، وإنشاء جمعيات ومنظمات، وتطوير برامج وافكار ومشاريع للتخفيف عن كاهل اولئك اللواتي انخرطن بهما، أي التعليم والعمل، وتزوجن؛ فكانت “مهماتهن المزدوجة” تنهكهن. البيت وخارجه، العام الخاص. و”بطولات” اللواتي يدِرنَ الاثنين، مع الأولويات المضطربة دائماً.
والسؤال الضروري الذي كان يصعب طرحه آنذاك: كيف يمكن للنسوية ان “تربح”؟ كيف تتحقّق اليوتوبيا النسوية؟ بل هل تتحقق؟ على اية صورة تكون المرأة المستقبلية؟ وبالتالي الرجل المستقبلي؟ خصوصا الرجل. فرحة النسوية بهيمنتها آنذاك، وصراعها “الناجح” ضد التقليد؛ بل اجتياحها للتقليد… استبعد الشك والحذر والتواضع. الثقة اعمتها من رجْفات التاريخ الآتية.
رجْفات تنذر بإهتزاز الدولة وتراجع الحداثة على يد صعود الهيمنة الدينية. وقد “إنتفضت” هذه “الصحوة”، كما سمّيت في بداياتها، على فراغ احدثته الأدآءت الفاشلة لهاتين الدولة والحداثة؛ وتأسست على العداء الثقافي والسياسي لمنْبتهما، أي الغرب. والعلاقة الوثيقة بين النسوية من جهة وكل من الدولة والحداثة لا تحتاج الى كثير تبيان: فالنسوية، مثل الدولة والحداثة، ذات منشأ غربي ايضاً. وقد أتتنا من الغرب مرجعياتها ونماذجها وشخصياتها النموذجية المحرّكة للمخيلة والدافعة للوثْبات والديناميكيات. اما الدولة فهي الاطار الحداثي التي تجري بداخله التغيرات التي تتوسّلها النسوية. هي الاطار الأمثل، الأضمن، لتحقيق اليوتوبيا النسوية. القانون والمؤسسات؛ والبقية تأتي معها؛ اي ولوج ازمنة افضل من سابقاتها.
“الصحوة” الدينية الآن. التبديل الاساسي الذي ادخلته بفضل هيمنة الايديولوجية الاسلامية: ان كل حركة، كل مفهوم، بل أتفه الأفعال احيانا… كلهم يخضعون اليوم لفحص الحلال/الحرام. كلهم ينشدون المرجعية الاسلامية؛ الفتاوي والاجتهادات المحلِّلة او المحرمِّة. المرجعية الدينية الراهنة تضع نفسها بثبات بوجه المرجعية الغربية الزمنية؛ وترسانة حججها من انحلال الغرب وانهيار العائلة فيه وضياع اخلاق نسائه ورجاله الخ. كل خطاب، نسائيا كان ام سياسيا ام شبابيا… وطبعا دينيا… كل شأن من الشؤون التي تهمّ البشر في محياهم من ملبسهم وحتى قرارات حكامهم… خاضعة لتسلسل يعود الى القرآن او الحديث او القياس الفقهي، يضفون عليه الشرعية ويعطون الإذن بمباشرته. والحرب المشتعلة الآن على بلاد الاسلام، او العنصرية في بلدان الغرب التي يوجد فيها مسلمون، تعزّزان هذه المرجعية وتمنحها المزيد من المشروعية والقدرة على الاستمرار. تراجع النساء في السياسة، عودة عقلية الحريم؛ تعدد الزوجات، الزوجة الثانية، ازدياد جرائم “الشرف”… كل هذه وغيرها وقائع تفرض نفسها في مناخ مشحون ضد النساء والثقافة النسوية خصوصا. وقد صارت الغالبية تنظر اليها، أي النسوية، بما يتراوح بين الابتعاد والنكران.
صحيح ان الشيوخ والدعاة وكافة انماط المسْتشيخين مهيمنون وحارسون لهذه المرجعية بكل ما أوتوا من حماس لموقعهم ونفوذهم وسلطتهم الآتين من “الصحوة”. فيلْجمون إنطلاقة النساء ويحاولون اعادتهن الى المكان الذي أتَين منه. لكن تحت هذه الحراسة تجري مياه كثيرة، واحيانا متضاربة. وابرز وجوه هذا التضارب ما يعبّر عنه الحجاب المسيطر الآن عن إختلاط المفاهيم. فالمحجبات، وحتى بعض المنقبات، لم “يقرنَ” كلهن في بيوتهن، ولا تراجعن عن الحق بالتعليم والعمل. وبعضهن الآخر له آراء ومسالك نقدية تجاه السقف الذي وضعته الايديولوجية الدينية المهيمنة. لا بل هناك محجبات، خاصة الشابات من بينهن، يتصرفن بحجابهن تماماً عكس مقولة “رد الفتنة”، التي تملي عليهن نفس هذا الحجاب. فيتجمّلن ويتبرّجن ويتدلّعن ويعتمدن الهندام المثير. وتبدو “فتْنتهن” احيانا اقوى من “فتْنة” السافرات، ذوات الشعر المكشوف.
واما الأكثر دلالة من الحجاب والهندام، فهو عدد من الملتزمات بالسقف الديني والناشطات في دوائره الفكرية، والمطالِبات بحقوق نسائية اصلها نسوي، ولكن صيغتها دينية. تكثر الشواهد على إسلاميات يحملن الارث النسوي، ويدافعن عنه من موقع “إسلامية” هذا الارث الصميمية. وقد اخترنا هنا مثَلين: أسلامية تذهب بعيدا في نسويتها، وتقترب من الجنسوية (sexism)، أو النسوية المتطرفة. واسلاميات نسويات يرفعن شعار “الجهاد الجندري” (Gender Jihad). وما بين المثلين، العشرات من الحالات الفردية التي تحتاج الى حصر وفرز ودراسة.
المثل الاول: الدكتورة سعاد صالح، العميدة السابقة للأزهر، تصدر فتوى تجيز للشابات اللواتي فقدن عذريتهن ورغبن بالزواج: بالقيام بعمليات إعادة غشاء البكارة عن طريق العمليات الجراحية، وبعدم الافصاح للعريس عنها. وهذا حقها تضيف، لكي تنعم بالزواج وبالحياة الهانئة. ولا حاجة الى الملاحظة ان الدكتورة تطرفت بنسويتها، التي لا تعترف بها. ونحو جنسوية (sexism) من نوع خاص: صراع صامت وصاخب مع الرجل. عماده المكر والاخفاء والكذب من جهة، ثم الحقوق النسوية في التمكين من توسيع خيارات الحياة، من جهة اخرى. يكفي ان تتصور لو كان ممكنا اصدار هكذا فتوى منذ قرن.
المثل الثاني يختلف: ظاهرة النسوية الاسلامية المفْصحة عن الارث النسوي الغربي والممتنّة له. والنسوية الاسلامية هي حركة نسائية اسلامية نشأت في الغرب، مكونة من غربيات وآسيويات وافريقيات مقيمات في الغرب وحاملات احدى جنسياته. يعترفن بارث النسوية؛ ولكن يأخذن عليها اصلها الغربي؛ ويستنْبطنَ من الاسلام مبادىء العدالة بين الجنسين، وعلى ضؤ النسوية نفسها. فيحاولن المصالحة بين الاثنين، النسوية والاسلام.
والمشهد النسائي العربي لا يقتصر على هذه العوالم. فبموازاتها تماماً، وعبر الوسيط الثقافي الجديد، التلفزيون، في عوالم الشاشة والافتراض والاحلام، تبرز نماذج اخرى من النساء. مثلها مثل النماذج الدينية، تنكر هذه الفئة الارث النسوي ثقافيا؛ ولكنها تعتمد عليه، على دعوته لحرية الجسد، لتوظّفه في حربها الايروتيكية مع الرجل؛ فتلتقي بذلك مع فتوى الدكتورة حول استعادة غشاء البكارة؛ والمنطوية على صراع مع الرجل بأدوات تقليدية وذرائع تحررية. ولكن في حالة الكليب، هو صراع مستحب؛ صراع من اجل إصطياد الصياد. فبواسطته يدخل تشييء الجسد النسائي في دائرة انتاج المعاني الفنية والاعلانية والاعلامية. انها المرأة “الكليبية” (من الفيديو كليب)، او التائقة الى “الكليبية”؛ نقيض المرأة المحجبة، وحلم الشباب الذكور، المتعطش نظرهم الى البصْيصة لشدة حرمان عينهم… ولفيض القماش المغطّي للجسد النسائي، في عالم الواقع.
ويلْتبس الامر غالباً على شاهد ذاك المنظر؛ فكما ان المرأة المحجبة ليست بالضرورة امرأة قابعة خانعة، متعفّفة عن الخوض في العمل والتعليم واحيانا السياسة… كذلك فإن المرأة “الكليبية”، بمضامينها الايحائية، ليست بالضروة “حرة بجسدها.”
ولكن بين الفئتين من النساء، المحجبة و”الكليبية”، هناك فئة ثالثة من النساء مغيّبة: فئة الحرّات باجسادهن وغير المستعدّات لتخبئته وحجبه، ولا لكشفه وعرضه على الملأ؛ وتحويله الى محطّ نظر وشهوة دائمَين. وهذه الفئة السافرة غير الكليبية ليست لها نماذج ولا منابر ولا مناخ ولا مرجعية تمكّنها من بلورة وجهة نظرها، أو إعطاء دفع خاص لها. فئة متروكة للطبيعة…
اننا هنا بصدد حالة فريدة في تاريخنا الاجتماعي. نسوية كانت صاعدة. أفرزها عصرها، وكأن لا عودة عنها: خروج النساء الى المجال العام وقيامهن بوظائف جديدة، وظائف كانت تقتصر على الرجال. والآن صعود وهيمنة الايديولوجية الدينية. عصر آخر. حيث النساء في الخارج، بنكران الارث النسوي ومحاولة تدعيم مكتسباته بمرجعية اخرى. ثم حركة تحت سقف هذه المرجعية تراوح بين النسوية المتطرفة (sexism) برداء ديني (حالة سعاد صالح)، وبين محاولة المواءمة بين النسوية والاسلامية (حالة النسويات الاسلاميات). وما بينهما من تبعْثر.
ماذا تطرح علينا هذه الحالة من مجالات للتفكير؟
لا يفترض معاملة النسوية الماضية مثل بقرة وقعت فكثُر جلادوها. على صعيد حيواتنا الخاصة كانت النسوية رافعتنا المفاهيمية والفكرية التي مكنتنا من الاندفاع نحو الخارج واكتساب مهاراته، المهنية والاجتماعية والسياسية خصوصا. ولكنها في عصورها الذهبية كانت ايديولوجيا ايضا؛ صاحبة شعارات أقصوية ارهقت مساراتنا الفردية؛ وخلقت تجاذبا حادا بين “الداخل” و”الخارج”، وافشلت ادوارا لحساب ادوار. (ولكن تبقى فضيلتها الكبرى: انها ولدت “نسويات” مختلفة، وتسمح بنقدها بنفس ادواتها. نقد النسوية من منطلقات نسوية) النقطة الثانية ان النسوية وضعت الصراع مع الجنس الآخر في قائمة نظريتها وممارساتها. صراع مكشوف او مستتر. صراع نافذ حاذق حيناً، او صراع فظ وشرس احيانا. واذا اضفت الى هذا الصراع من اجل العدالة بين الجنسين، الإلحاح والاستعجال لتجسيد هذه العدالة التي اتسمت بها الاندفاعة النسوية وايديولوجيتها. تفهم الآن، والآن فقط، خوف الرجل من هذه الاندفاعة؛ تهديد هذه الاندفاعة لدوره، تهديده بفراغ هائل. هي، المرأة، تغيرت، وحصلت على الادوار “الخارجية”، أو وُضعت على الاقل على سكتها، أو هكذا يتحقّق أو ينذر بالتحقّق… وابقت، من جهة اخرى، على منطق الانثى القوية ايضا بأدواتها القديمة، الاغراء والجاذبية، والعائدة الى مهارات “الداخل”. فأين يذهب هو؟
أزعم بأن قوة الصعود الديني في حالنا عائدة جزئيا الى ذكورية هذه الدعوة؛ والتي تطمئن الرجل الى وظائفه العائدة الى العهد القديم ومناخاته، الى التواضع الانثوي، الى القوامة والجنس المباح… “ما طاب…”، الى الدعوات المتفرقة للعودة الى البيت الخ. والنزعة الصراعية الآخذة بالنمو في وسط الاسلاميات النسويات، واستعدادهن لخوض معارك وجود مع الرجل الفرد من اجل سلطة ما، في العائلة خصوصا؛ هذه النزعة الموروثة عن النسوية المتطرفة كفيلة باشعال صراع عار من كل المقاييس، بالرغم من السقف المرجعي الديني، وأحيانا بسببه. او بالتلاعب البهلواني بهذا السقف؛ بالكرة التقليدية-الدينية حينا، او الكرة النسوية الضمنية غير المعترف بها احيانا.
وهذا نمط من الصراع يقلب مواقع سلطوية. ولكنه لا يقيم عدالة، ولو نسبية. والعدالة بين الجنسين من اسس النظريات النسوية كلها. فمثل النضال من اجل التحرر الوطني، اذ تُخاض باثمان باهظة، تبقى أثمان اخرى، يدفعها من يليه. كذلك العدالة بين الجنسين… أثمان لا يدفعها المشعلون لمعاركها فحسب… بل أيضا ورَثتهم، وأحفادهم.
[ ورقة قدمت الى المؤتمر الاقليمي الثاني لشبكة “سلمى” النسائية بالتعاون مع مؤسسة هنريك بول الالمانية. وعنوان المؤتمر “مقاربات نسوية: العنف ضد النساء”. عمان 20-21 شباط 2009
المستقبل