الدولة هي الغائب الأعظم!
ماجد الشيخ
في ظلّ العولمة الرّاهنة، لم يعد النّظام السّياسي في الفضاء العربي، يقيم الوزن المفترض للمجتمع؛ كأقنوم من أقانيم تشكّلاته الدّولتيّة، أو كحاجة ضرورية من ضرورات التّكوّن الملازم لتشكيل قاعدة الإسناد الضّروريّة التي يستمدّ منها شرعيّته ومشروعيّته المفترضة. صار المجتمع مرذولا ومنبوذا من قبل السّلطة، وصارت السّلطة عنوانا لمظالم لا حصر لها. صارت العلاقة للأسف – سوقيّة – نسبة إلى السّوق الذي تحوّل إلى حاكم بأمره في فرض نمط أو أنماط من علاقات شائهة، هي غير التي كانت تحايث وتلازم علاقة الأنظمة بمجتمعاتها، أو علاقة المجتمعات بأنظمتها على إختلافها. العلاقة السّائدة اليوم أنّما هي علاقة سببيّة؛ وإن تكن غير مباشرة. من نتائجها هذا الإستهلاك النّمطي القيمي؛ لكلّ ما يكتنفها من حيثيّات ومعطيات التّعالق المصلحي بين لامتكافئات متنافسة بالأساس، لا مستقرّ لروابطها، وإنّما هي خاضعة لمستوى من مسلكيّات ليست تنسجم، لا لأنّها محكومة للتّعارض أو التّناقض على الدّوام، ولكن لأنّها تصدر عن مصالح متعارضة، بل ومتناقضة بشكل دائم، حتّى لو إدّعى هذا النظام أو ذاك أو هذا المجتمع أو ذاك؛ أنّهما على توافق وإنسجام دائمين.
لقد سبق لإبن خلدون أن رأى قديما أنّ “الدّولة هي السّوق الأعظم” بمعنى أنّ التّراكم الّذي كوّنته الدّولة مباشرة، أو عبر من يمكن تسميتهم بـ “رجال الدّولة” في ذلك الزّمان، كان تراكما ترفيّا وخاصا – فردانيّا – وهذا ينسحب على “رجال الدّولة” المعاصرة في الفضاء العربي راهنا، حيث التّراكم ترفيّا وريعيّا لا علاقة له بأي إمكانيّة أو توجّهات إنتاجيّة أو حتّى التشجيع على تنمية قيم إنتاجيّة. هذا علاوة على أنّ “السّوق الأعظم” هي تلك التي تنشئها علاقات الهيمنة والتّبعيّة. أمّا الدّولة فهي الغائب الأعظم عن مجالات تفترض حضورها وتواجدها، وإلاّ فقدت أو أفقدت ماهيّتها كدولة، لتصبح السّلطة أو النّظام هي الشّكل الأرقى للتّعبير عن علاقات السّوق، ليس الإقتصاديّة فحسب، بل ومجمل العلاقة أو العلاقات التي يفترضها منطق التّبادل العولمي؛ بين المراكز العولميّة وتلك المحيطيّة، غير الفاعلة إلاّ في ترحيل التّدفّقات الماليّة الناتجة من قيم الإستهلاك الرّيعي، ونمط الإقتصاد الزّبائني إلى المراكز الفاعلة هيمنيّا.
وكما أنّه ليس هناك إنفصال بين السّياسة والإقتصاد، كذلك لا يمكن أن ينشأ الإنفصال بين الدّولة والمجتمع؛ إلاّ في حال لم تكن الدّولة كذلك، وإنّما هي لا تتعدّى طور السّلطة أو النّظام الخاضع بدوره لمستويات معيّنة من المصالح والنّفوذ تجعله يبتعد عن المجتمع، جاعلا منه المنافس النقيض، ما يحتّم والحالة هذه نشوء حالة عداء مستحكم بينهما؛ ينسحب النّظام من مسؤوليّته المباشرة وغير المباشرة عن مجتمعه، في ذات الوقت الّذي ينسحب المجتمع إحباطا أو جرّاء المغالبة والهيمنة السّلطويّة؛ هجرة داخليّة أو إلى الخارج، في محاولة لتفادي الدّخول في جولات من الحروب الأهليّة التي لم يستطع نظام بمواصفات النّظام اللبناني على سبيل المثال، إيجاد حلول لمشكلاته البنيويّة التّاريخيّة التي باتت تستفحل؛ كلّما جرّى التّوصّل إلى توافقات أو تسويات مؤقّتة.
في نظام النّخب السّياسيّة المعولمة مصالحها، والممتدّة من داخل الوطن إلى خارجه، لا يكون الولاء للمجتمع، بل يراد للمجتمع أن يكون تابعا من توابع منطق السّوق ومنطق التّساوق مع نظام النّخب، تلك التي حوّلت وتحوّل أوطانها إلى مجرّد سوق للخارج على حساب الدّاخل، كما سبق لها وحوّلت مجتمعها قسرا وبالإكراه إلى المستهلك الأوّل لإحتكارها السّلع والأفكار، والقيم، والتّحكّم بحركة السّوق والتّدفّقات الماليّة الدّاخليّة، كما وحركة الأفكار وهي تتحوّل إلى أيديولوجيا رثّة.
هذا وضع لا تختلف فيه النّخب السّياسيّة عن تلك الماليّة عن تلك الدّينيّة، أو هي نخب متداخلة أشدّ التّداخل، وتستمدّ سلطاتها الواحدة من الأخرى، وأحيانا كثيرة هي نخبة واحدة، محكومة لتقسيم عمل راق؛ يدلّل على وجود ترابط عملي وتداخل مباشر؛ بين أكثر من سلطة، هي في الحقيقة سلطة واحدة؛ السّلطة التي تمتدّ من المال إلى السّياسة إلى الدّين، وهي ذاتها السّلطة التي تستمدّ من المال سلطانها، ومن السّياسة سطوتها، ومن الدّين تأويلاته الذّرائعيّة وإستثمار مقدّسه، وهي القوّة المكوّنة للنظام السّياسي المعولم؛ لجهة بحثه الدّائب عن موقعه المهيمن في فضاء المجتمع، كما في فضاء الإقتصاد، وأخيرا في فضاء السّلطة السّياسيّة؛ الموظّفة طاقات التّديّن عموما والتّديّن الشّعبوي خصوصا، لمصالحها الأشدّ خصوصيّة ودنيويّة.
أمّا في حالات الصّراع على السّلطة، حتّى غير المكتملة، على ما هو حال السّلطة في فلسطين، فإنّ من أولويّات مثل هذا الصّراع إبتعاده عن مصالح النّاس؛ حتّى ولو إدّعى وزعم عكس ذلك. أولويّات الصّراع تحتّم التّمحور حول نخبة أو نخب صغيرة متنفّذة؛ من أرباب السّلطة السّاعية إلى الإقرار بهيمنتها، والإعتراف بها سلطة للنّظام القائم غير المتنازع عليها. الأولويّة هنا لضجيج وفحيح الشّعارات اللّفظيّة، حيث النّخب السّياسيّة ليست تهتم إلاّ بما يسيّدها عنصر السّلطة الأوّل، بغضّ النّظر عن الأهداف العليا التي تدّعي أو تزعم أنّها تمثّلها.
من المؤسف أن يستمر المؤقّت، ويتحوّل إلى ثابت من ثوابت يجري الدّفاع عنها كمقدّس، الّسّلطة المؤقّتة تحوّلت إلى ثابت على حساب الدّولة، والتّوافقات الفوقيّة تحوّلت إلى ثوابت على حساب المبادئ الدّولتيّة، فيما النّخب الماليّة أو السّياسيّة المهيمنة تحوّلت، أو هي تتحوّل اليوم؛ إلى الحاكم المطلق بإسم الطّائفة أو المذهب، الحاكم الّذي تخضع له ولسلطانه المالي هامات كثيرة، سبق وأن إدّعت، أو هي تدّعي اليوم أنّها ممثلة لأمّة أو للأمّة؛ وليست ممثّلة لطائفة، أو لمذهب؛ حوّل منتسبيه إلى متمذهبين، يتشكّلون أو يشكّلون الإحتياط الأوضح لفصاحة الدّفاع عن مصالح “المتنفّذين الجدد”، أو المقاولين الجدد للتّمذهب السّياسوي الجديد الّذي أدخل الطّائفة؛ أو هو يستوظفها ويستثمرها لخدمة مصالحه النّرجسيّة الخّاصّة؛ المصالح الدّنيويّة الماليّة والإقتصاديّة والإجتماعيّة خدمة لمواقعه السّلطويّة، وما تقتضيه من إستثمار ناجح؛ حتّى في الدّين والتّديّن الشّعبوي الأكثر تطرّفا وإنقلابا وإنقلابيّة. وهنا مكمن المراجل التي تغلي بالحروب الأهليّة وركوب أمواجها. أمّا الدّولة فهي الغائب الأعظم، بل هي الضّحيّة الأولى لكل هذا الإسترثاث، والإسترقاق للمجتمع الوطني، و”حفلات” تقاسمه وتقسيمه، واستتباعه وتتبيعه لقوى هيمنيّة متنفّذة؛ تريد لكل شئ أن يصبّ في جيوبها.. حتّى “الدّولة”، وما أدراك ما “الدّولة”؟!.