البديل المرشح لوراثة الاستبداد!
جورج كتن
إلى أين توجهت دول المنطقة الناطقة بالعربية بعد استقلالها؟ المنطق ومصلحة شعوبها كان التوجه نحو بناء مجتمعاتها المتخلفة وجسر الهوة مع الدول المتقدمة باستيراد الحداثة وملائمتها لتحسين ظروف حياة مواطنيها اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً.
هذه الحقيقة رغم تردادها لم تحظ بالأولوية، فالقوى المتنفذة فضلت طريقاً يكرر ما كان سائداً أثناء مرحلة التحرر من عداء للأجنبي وتأجيج للوطنية أو توجيه الإمكانيات لتحرير أحد أطرافها، والسعي لوحدات مستحيلة، أو تطبيق “تأميم” يحول وسائل إنتاج لملكية الدولة التي تهيمن عليها هذه القوى، وطرق أخرى لإبقاءها في مراكز القرار والثروة التي تحتكرها.
بعد ما يزيد عن نصف قرن من السير في الاتجاه المعاكس للتطور ما هي الاحتمالات الممكنة أمام المنطقة؟ هل تجد طريقها للتقدم والتنمية البشرية والمادية، أم تستمر في المزيد من التخلف والتهميش؟ هل تختار استمرار الأوضاع السائدة أم القبول بما تعرضه قوى صاعدة ترشح نفسها كبديل؟
حرب غزة وحرب تموز وفوز حماس في انتخابات تشريعية، وتصاعد نفوذ إيران الإسلامية وحصد إخوان مصر لعدد من مقاعد مجلسها وهيمنة الأحزاب الإسلامية على العراق وصعود المحاكم الأسلامية الصومالية والجماعة الإسلامية الجزائرية.. وغيرها أوحت بترشيح الإسلام السياسي كبديل لأنظمة الاستبداد الراهنة.
لكن استعراض مفاهيمه ومواقفه لا يعطي الانطباع بأنه سيكون بديلاً ينتشل المنطقة من أوضاعها المتدهورة، فالتقدم والحداثة مرفوضة من قبله على أنها تتعارض مع النصوص الدينية التي يعتبرها صالحة لكل زمان ومكان، ووقائع العصر خروج عن الحياة الموصوفة فيها منذ قرون.
رغم التنوع أحياناً فيما يطرحه الإسلام السياسي بأطرافه المتعددة فهو يتفق على رفض الديمقراطية بمعناها الشامل كحقوق وحريات واسعة للإنسان في شتى مجالات الحياة، إذ أن فهم وتطبيق الجناح المعتدل منه لها لا تتعدى قبول الاسلوب الانتخابي كوسيلة لمرة واحدة. كما يقبل بتداول وحيد للسلطة، الانتقال من حكم البشر لأنفسهم إلى حكم الله لهم – عن طريق وكيله الإسلام السياسي-، مما يشابه فكرة أن دين واحد صحيح تم الانتقال إليه فمن ارتد عنه يجوز قتله ومن لم يعتنقه عليه اعتناقه قبل أن تتحد الأمة التي يسعى الإسلام السياسي لجمعها لفرضه على العالم.
تطبيق الشريعة أي أسلمة المجتمع وتكفير الآخر جناحي مشروع الإسلام السياسي الرئيسيين، وهما لا يشكلان بديلاً لسياسات الانظمة الراهنة بل شبه امتداد لها باستبداد شرقي محمي بالمقدس ومكرس لأوضاع التخلف والخراب، وربما يضيف مزيد من القيود. وفيما الحضارة الانسانية متجهة نحو المزيد من الحريات والحقوق الإنسانية، فمع “الإسلام السياسي هو الحل” ستتجه الأوضاع لاستعباد الإنسان باسم الدين، رغم أن الأيديولوجيا الدينية في خدمة الإنسان وليس للتضييق عليه.
رفض “الإسلام السياسي” العديد من حقوق الإنسان الحديثة ومنها على سبيل المثال حرية الزواج بين أفراد من أديان مختلفة، وحرية الإنسان في تغيير دينه أو عدم الاعتقاد بأي دين.. وخاصة رفضه لحقوق المرأة ومساواتها بالرجل. فرغم قبول أطراف معتدلة منه بعمل المرأة فقد اشترطت التزامها بعملها في بيتها، أي منعها من الاستعانة بمشاركة زوجها لها في أعمال البيت. كما لم يجرؤ أي إسلام سياسي على نقض أن المرأة “ناقصة عقل ودين” أو أن “الرجال قوامون على النساء” أو أنها غيرمساوية للرجل في الميراث والشهادة، أو أن ليس من حقها أن ترتدي ما تشاء وتحدد علاقتها بالرجل كما تراها مناسبة لها..
أما الدولة التي سيقيمها الإسلام السياسي فهي الدولة الدينية وليس الدولة الحديثة الرافعة الأساسية للتقدم في الدول الديمقراطية. لا تشريع في دولة الإسلام السياسي فالشريعة جاهزة ليَحكم بإسمها، ودور “المشرعين” تفسيرها للعامة، والاجتهاد إذا سمح به لا يتخطى دلالة النص. والقضاء تابع لرجال دين ويطبق عقوبات غير إنسانية من جلد ورجم وقطع أجزاء من الجسم، فالحرية لا تعني الشيء الكثير للإسلام السياسي ليقبل بحجزها كعقوبة.
دولة الإسلام السياسي لم تعد مشروعاً نظرياً فقد طبقت، ومن نماذجها الطالباني والإيراني والسوداني الترابي وإمارة غزة ووادي سوات الباكستاني..، وأقدمها النموذج السعودي للدولة الدينية التي من أهم إبداعاتها منظمة المطوعين لإجبار الناس على الصلاة بالعصا، والتأكد من عزل المرأة في سجنها، بيتها وثيابها، ومنعها من الاختلاط وقيادة السيارة، حيث المرأة آلة إنجاب لخدمة الرجل وإمتاعه، ممنوعة من السفر أو رفع الدعاوي إلا بموافقة أولياء أمرها الرجال.. والمجتمع بأكمله ممنوع من استيراد الكتب فيما عدا الدينية ومدارسه وفضائياته تروج لمفاهيم متعارضة مع الوقائع العلمية الحديثة، مع حصر الدين في مذهب واحد والتضييق على المذاهب الأخرى، الشيعية والمالكية والحنفية والإسماعيلية.. ومنع المسيحيين من بناء كنائسهم..
الناس في ظل أنظمة الاستبداد الراهنة، حتى مع حريتهم السياسية المفقودة، قد يتغاضون عنها كأهون الشرين لما توفره من بعض الحريات الاجتماعية، فالبديل الذي يهيأ نفسه لوراثتها يعد بإلغاء الموسيقى والرقص والغناء والرسم والشعر والصور وحفلات ملكات الجمال والأعراس المختلطة والبرامج والأفلام التي تظهر فيها المرأة سافرة ومواد التجميل وحلاقة الذقون وإطالة الشارب وارتداء البدلة وربطة العنق وشرب الخمور، والتصافح بين المرأة والرجل..، وسيوجه رعاياه للاهتمام بالجنة الموعودة والتقشف والزهد في الحياة “الفانية” وللتضحية بالحياة بالانتحار، فالموت “أسمى أماني” منتسبيه، يرغبون في تعميمه على كافة أفراد الرعية.. وسيقيد العقل بالنص وينمي الحقائق المطلقة كبديل عن الحقائق النسبية ويحجر الفكر النقدي..
من أهم إبداعات الإسلام السياسي العداء للآخر المختلف في الدين أو في المواقف السياسية والثقافية والاجتماعية، كإختلاف لا حل له إلا بالتكفير فالقتل، والآخر هنا ليس غير المسلم فقط بل السني والشيعي والدرزي والحنفي.. وكل أشكال التعددية البشرية..
الإسلام السياسي ضد العولمة المؤدية مسيرتها لمزيد من ترابط الأمم من أجل مصالحها المتبادلة، وحل للخلافات بالحوار والمفاوضات، وانقسام بين عالم حداثي وديمقراطي وآخر متخلف واستبدادي. فالإسلام السياسي المبشر بالعنف والحروب كما في جنوب لبنان وغزة والصومال وأفغانستان وغيرها، يفضل انقساماً للعالم بين معسكر الإيمان ومعسكر الكفر كما روجت القاعدة، وأجلت أطراف أخرى التصريح بذلك إلى أن تصبح الظروف مناسبة، لتكتفي الآن بالتلويح بأن الغرب يشن “حرباً دينية على الإسلام” مع تمنيها أن تصبح هذه حقيقة وليست تهويلاً.
لا يستطيع الإسلام السياسي شن حربه ضد العالم لعدم تناسب القوى، لكنه أطلق طلائعه الأصولية للمناوشة بالقتل العشوائي في بقاع الأرض كافة إلى حين توفر الفرص لتحرير العالم من “كفره” المزعوم. ولا يهم إن كانت المنظمات الإرهابية مرتبطة أم لا بأطراف الإسلام السياسي، إذ أنها لا تخرج عن برنامجه للحد الأقصى وتخوض حربه حالياً في أضيق الحدود.
ويمكن للإسلام السياسي استغلال قضايا وطنية لتحشيد الناس في معاركه، وعلى رأسها “القضية المركزية” التي أصبحت معه قضية “الوقف الإسلامي” الذي لا يفرط بأي شبر منه. ويتعامل الإسلام السياسي مع القوميات في إطار الإسلام، بصهرها كحل وحيد لمطالبتها بحقوقها القومية، فقد حاول تطبيق الأسلمة والتعريب القسريين للقوميات المختلفة جنوب السودان وغربه في عهد إخوان “الترابي”، وصهر وقمع القوميات العربية والكردية والأذرية والتركمانية وغيرها في إيران تحت عباءة الإسلام ظاهرياً ولصالح القومية الفارسية المتنفذة عملياً.. فضلاً عن معاملة غير المسلمين كمواطنين من الدرجة الثانية محرومين من حقوق متساوية، لا يصلوا إلى المراتب العليا، لا يخدمون الجندية، لا مكان لهم في الجهاز القضائي، لا يحق لهم بناء معابد جديدة..، هذا إذا لم يدفعوا بحد السيف لتغيير دينهم كما باشر تطبيقه الإسلام السياسي المسلح في العراق.
ويستفيد الإسلام السياسي من عدم تمييز قطاعات من المجتمع بين الإسلام كدين متسامح تعتنقه الملايين، وبين الإسلام السياسي الساعي للسلطة باستخدام الدين، فوجوده ظاهرة طبيعية، إذ أن قطاعات واسعة في مجتمع متخلف تعادي الحداثة لأنها تتعارض مع الحياة التقليدية التي اعتادتها، وأفضل من يمثلها “الإسلام السياسي” الذي يوافقها على مفاهيمها المتخلفة ولا يسعى لتغييرها. التخلف والفقر والجهل والتطرف الديني والاستبداد.. عوامل متداخلة توفر المناخ الملائم لانتشاره وذراعه المسلحة. كما أن ثقافة الموت والانتحار التي يروجها، المخرج المقترح لحالة اليأس لمجتمعات تفتقد شروط الحياة الإنسانية المتحضرة.
قد يرى البعض أننا بالغنا في رصد مواقف ومفاهيم الإسلام السياسي، إلا أننا حاولنا النفاذ لحقيقته العارية بدون “الرتوش” الموضوع مؤقتاً في مرحلة الإعداد لتحقيق برنامجه الأقصى، إذ أنه يغلف مفاهيمه بتسميات لتبدو “الشورى” على أنها الديمقراطية، أو لاعتبار نظام المرشد العام المحتكر للسلطة الإيرانية “ديمقراطية إسلامية”، وقد يقبل بالدستور الوضعي كبديل ل”القرآن دستورنا” شرط تمكينه من منع أي قانون يتعارض مع الشريعة حسب تفسيره لها.. وغير ذلك من أساليب يتقنها الدعاة.. واعتدال الإسلام السياسي نتيجة لفشل العنف في إيصاله للسلطة فيختار طريقاً أقل كلفة، ثم في السلطة تَتم عملية “أسلمة المجتمعات” تدريجياً للوصول إلى الحكومة الدينية وهو ما يشبه ضرورة أن تسبق الشيوعية “مرحلة اشتراكية” تمهد لها.
نرى أنه لا استثناء في فشل تجارب الإسلام السياسي في المنطقة، فحزب العدالة والتنمية التركي الموصوف بأنه صالح بين الديمقراطية والإسلام، برأينا ليس استثناءاً بل خروجاً عن مفاهيم الإسلام السياسي، لتبنيه الديمقراطية العلمانية وحقوق الإنسان العالمية وتطبيقها بقناعة وجدية، فمنتسبوه يؤدون فرائضهم الدينية لكنهم لا يخلطون الدين بالسياسة، لذلك يمكن اعتبارهم منشقين عن الإسلام السياسي التقليدي وهم أشبه بالأحزاب الديمقراطية المسيحية الغربية التي لا تتبنى جعل الدين أساس الحكم.
عندما ستكتشف غالبية الناس أوجه استغلال الدين للوصول إلى السلطة، ستتهيأ الأوضاع لخيار ثالث ديمقراطي علماني إنساني حداثي يعيد المنطقة إلى مواكبة المسيرة الإنسانية، يرفض خيار أنظمة الإستبداد التي تعيش آخر أعوامها، ويقطع الطريق على بديلها المرشح لخلافتها، الذي حتى لو نجح مؤقتاً فمصيره الفشل لمعاكسته الوقائع المعاصرة، ولأن العالم لم يعد يسمح باستمراره.
*كاتب من سوريا
خاص – صفحات سورية –