ضد الأيديولوجيا
د. رشيد الحاج صالح
تعرض مفهوم الأيديولوجيا خلال العقدين المنصرمين لمراجعة نقدية واسعة على يد أقطاب الفكر العالمي أمثال ( بول ريكور، هابرماس، كارل بوبر، كليفورد، غيرتز ).. وقد نتج عن هذه المراجعة ظهور تيارين أساسيين:
التيار الأول نقدي يقول «بنهاية الأيديولوجيا» أو «موتها»، على اعتبار أنها فكر يناقض العلم ولا يتناسب مع الحرية المعاصرة، وأنه فكر «لا واقعي»، يزيف الحياة السياسية والدينية والثقافية عبر «تحجير العقائد» و«تضخيم الذات» و«خلق انتماءات وهمية» و«رسم صور عاطفية» و«توهم أساطير سياسية» و«تشويه الآخر»..الخ.
ويذهب التيار الثاني إلى أن الأيديولوجيا ظاهرة مرتبطة بـ «الوجود الاجتماعي»، وأن الإنسان لا يستطيع أن يؤسس لمعرفة لا أيديولوجية، طالما أنه غارق في شروط وجوده الثقافية. ويضيف هذا التيار أن الإنسان لا يستطيع أن يفكر بمعزل عن أوضاعه الاجتماعية والسياسية، التي تلعب بدورها دورا أساسيا في انتماءاته والعقائد التي يركن إليها عقله. ويذهب أنصار هذا التيار إلى أنه حتى الدعوة حول نهاية الأيديولوجية تخفي وراءها عناصر أيديولوجية ومصالح اجتماعية واضحة.
ويعود المغزى العام لهذا الجدال النظري إلى أن الفريق الأول يؤكد أن«منطق الأحداث» أقوى من الإنسان، وأن للواقع أولوية على العقل، وبالتالي فإن النظريات الاجتماعية والتاريخية والفلسفية التي ترسم العالم وكأنه «مخططات عقلية» هي نظريات خدعت البشرية لقرون طويلة وأدخلتها في متاهات وقناعات مزيفة. فالفكر في النهاية تابع للحياة وليس سيدا عليها، وقد آن الأوان لكي نتحرر من هذه النظريات المثالية التي أوهمت البشر بأنهم قادرون على صناعة قدرهم وتقرير مصيرهم.
ولذلك ينصحنا بول ريكور بأن نعترف بمحدودية قدرات الإنسان. ويطلب كارل بوبر بأن نكون واقعيين، وأن نكف عن الانجذاب العاطفي وراء « التاريخانية»، أو الإيمان بقدرة الإنسان على التنبؤ بالمستقبل والتحكم بالتغيير الاجتماعي. فالوصول إلى عالم ثابت سعيد تسوده العدالة والحرية والسلام -كما حلمت البشرية من أيام أفلاطون إلى أيام ماركس- أمر خارج طاقة البشر وخارج قدرة العلوم. وعلى الإنسان أن يتعلم كيف يعيش بواقعية، وأن يتخلى قدر الإمكان عن «الأحلام الكبرى».
يضاف إلى ذلك أن الأيديولوجيا كثيراً ما تسُخر لأهداف سياسية وسلطوية ضيقة، بل أحياناً تتحول إلى أداة للقمع وإضفاء الشرعية على من لاشرعية لهم. وهذا يعني التنبه للأخطار السياسية للأيديولوجية. فكم من فئة أو جماعة معينة اعتنقت توجها أيديولوجيا محددا لكي تصل إلى السلطة وتقصي المعارضين. وكم من صراعات تأججت لأسباب أيديولوجية مزيفة، فقط لأن الصراع فيه مصلحة للفئة الحاكمة. ألم يؤكد كليفورد غيرتز أن الأيديولوجية مجرد وسيلة «خبيثة» تخفي مصالح الفئات الحاكمة وتحولها إلى أفكار يدافع عنها الجميع؟.
ولا تتوقف مشكلة الأيديولوجية في أنها أداة للسيطرة، بل يضاف إلى ذلك، أنها تساعد على الانغلاق والتقوقع فهي تدفعنا إلى التفكير انطلاقاً منها، ولا توجهنا إلى التفكير فيها، كما يقول ريكور. ففي الأيديولوجيا يتحول كل شيء إلى «مسبق الصنع» لا مجال فيه لأي تغيير أو مستجدات.
نسوق هذا النقد للأيديولوجيا، ليس لأننا ممن يقولون بنهاية الأيديولوجية أو موتها، فالإنسان لا يستطيع أن يعيش من دونها، ولكننا نقول هذا الكلام لأن العالم العربي دفع ثمناً باهظاً للمنازعات الأيديولوجية التي تضرب المنطقة منذ أكثر من نصف قرن وحتى هذه الأيام. هذه المنطقة المرشحة -أكثر من أي وقت مضى- إلى مزيد من التدهور الأيديولوجي الذي كثيراً ما يؤدي إلى منازعات واصطفافات نحن في غنى عنها.
فمتى نفكر في أفكارنا بدل أن ننطلق منها وكأنها مسلمات مطلقة؟.
كاتب من سورية