بول شاوول في حوار شامل: معظم الشعراء العرب كتابهم الاول أهم من كتبهم الأخيرة!
ناظم السيد
بيروت ـ ‘القدس العربي’ ليس بول شاوول أو بولس كما نناديه تحبباً اسماً عابراً في الشعر اللبناني الحديث. الشاعر الذي حُسب على جيل السبعينات، بدأ النشر سنة 1974، من خلال مجموعته الأولى ‘أيها الطاعن في الموت’. ومنذ البداية وجد شاوول صوته الخاص، من خلال قصيدة البياض التي عُرف بها لبنانياً وعُرفت من خلاله عربياً. لكن شاوول لم يستقرّ على هذا الشكل الشعري، إذ سرعان ما خرج من البياض إلى السيولة، ومن الإيجاز اللفظي إلى النص الطويل المفتوح، مكرّساً نفسه شاعراً تجريبياً. استفاد في شعره من فنون عدة كالمسرح والرسم والنحت وغيرها، مؤلفاً نصاً شعرياً مونودرامياً وبوليفونياً، ذا نفس ملحمي حيناً ومتقشفاً حتى الصمت حيناً آخر. وسواء صمت بول أم تكلم فإنه كان يُظهر ذلك البنّاء في داخله، البنّاء الذي ينحت مرة الحجر ومرة ينحت الهواء.
الشاعر الذي ترأس الأقسام الثقافية في ‘النهار’، ‘السفير’، و’المستقبل’ كتب الموت بكثرة. كان الموت المادة الأصلية التي صنع منها شعره. الموت ومرادفاته من غياب وهجران وخلو وشغور ووحشة ووحدة وعزلة وفناء. شغف بالموت أو خوف منه تصدّرا عناوين عدة للشاعر: ‘بوصلة الدم’، ‘الهواء الشاغر’، ‘موت نرسيس’، ‘أوراق الغائب’، و’نفاد الأحوال’. عناوين سبقتها أو لحقت بها عناوين أخرى اختفى الموت داخلها: ‘وجه يسقط ولا يصل’، ‘كشهر طويل من العشق’، ‘عندما كانت الأرض صلبة’، و’منديل عطيل’. هذا بالإضافة إلى المسرحيات ‘المتمردة’، ‘فنّاص يا قنّاص’، ‘الساعة خمسة’ و’ميتة تذكارية’. كما ترجم مختارات من الشعر الفرنسي صدرت في أكثر من أنطولوجيا.
أخيراً أصدر بول شاوول كتابين شعريين ‘بلا أثر يُذكر’ و’دفتر سيجارة’، إضافة إلى قصيدة أهداها إلى أطفال غزة بعنوان ‘الذين يموتون خلف أعمارهم’. هنا حوار أجري على مرحلتين قبل صدور هذه الكتب وبعدها، مع الشاعر الذي ناضل في السياسة بقدر ما ابتذلها.
في مواجهة الجنرال
دعني أبدأ قبل الحديث عن الشعر بالسؤال عن الدعوى القضائية التي رفعها ضدك الجنرال ميشال عون، رئيس كتلة التغيير والإصلاح في البرلمان اللبناني، وذلك بسبب مقالك الشهير ‘جنرال يتبخر’…
لا، كانت الدعوى بسبب مقالي ‘8 آذار يعلنون لبنان بلداً معادياً’. لم يكن المقال عن ميشال عون حصراً. ذكرته في المقال لكن لم يكن عنه حصراً.
حين كتبت مقالك ‘جنرال يتبخر’ قامت عليك حملة من قبل مناصري التيار الوطني الحر، كما قام العديد من المثقفين في لبنان والعالم العربي بتوقيع بيانات تدافع عنك، وذلك إثر مقال ‘جنرال يتبخر’. لهذا اعتقدت أن الدعوى بسببه. على كل حال، ماذا حصل لهذه الدعوى؟
لا تزال جارية. هناك جلسات مستمرة. أقيمت ثلاث جلسات حتى الآن.
بعيداً عن مجريات الدعوى، البعض أخذ على لغة مقالك ‘جنرال يتبخر’ تلك الحدة في الكلام، لا أتحدث هنا عن الكلام السياسي والموقف السياسي، بل عن الألفاظ التي قد تُصنّف على أنها تشهير؟
هذا موجود في الأدب. الشعر من أبي النواس إلى المتنبي يتضمن هذه اللغة. ‘لا يمسك الموت نفساً من نفوسهم/ إلا وفي يده من نتنها عودُ’. هل نقول للمتنبي إنك قليل التهذيب؟ وماذا عن بذاءة السورياليين؟ وماذا عن لغة الدادائيين؟ وماذا عن هارولد بنتر الذي كتب قصيدة يشبّه فيها بوش بالحمار؟ منذ فترة أيضاً شبه فيلسوف فرنسي ساركوزي بالفأر. وهناك أيضاً قصائد ‘جيل البيت’ في أمريكا. فكرة التحريم هذه هي فكرة بيوريتانية. كما يقول الأصولي لحلمي سالم: أنت تعرضت للذات الإلهية، يقول الجنرال لي: أنت تشتمني. في كل حال، أنا أكتب مقالاً سياسياً إعلامياً وليس مقالاً ثقافياً فقط. لا أستطيع تكسير الأصنام في هذا البلد إلا بهذه اللغة. يعني كما فعل نيرودا حين شتم بينوشه، وكما فعل الكتّاب الذين شتموا ستالين وهتلر، وذلك عبر قصائد ونصوص ومسرحيات.
إلى أي حد جائز تشبيه عون بستالين وهتلر، رغم أن عون اليوم في صف المعارضة أي خارج الحكم؟ (جرى هذا الحوار قبل تأليف حكومة الوحدة الوطنية التي تضم الموالاة والمعارضة).
عون ليس في المعارضة. هو أولاً كان في ‘القوات اللبنانية’، وكان اسمه الحركي أبو صخر..
تقصد في مطلع الثمانينات حين كان قائداً للواء الثامن في الجيش اللبناني؟
ومن قبل كان مع بشير الجميل في ‘الكتائب اللبنانية’. هذا الرجل أشعل حربين من أجل أن يصبح رئيساً للجمهورية: ‘حرب التحرير’ المزعومة ضد السوريين، لأن حافظ الأسد رفض أن يقبل به رئيساً للجمهورية، ثم ‘حرب الإلغاء’ ليصادر القرار المسيحي (عام 1989 ضد ‘القوات اللبنانية’ حين كان عون قائداً للجيش، ورئيس حكومة بحكم موقعه الدستوري بعد انتهاء مدة أمين الجميل كرئيس للجمهورية). في الحرب الأولى قتل أناسٌ في المنطقة الغربية. وفي الحرب الثانية قتل مسيحيون في المنطقة الشرقية. بيتي نفسه أصيب بقذيفة في ‘حرب التحرير’ وأنت تعرف بيتي. صاروخان عشوائيان أصابا بيتي وأحرقا مئات الكتب. وفي الليلة نفسها أصيب ملجأ قتل فيه 30 شخصاً، وكذلك مجزرة الأونيسكو.
لكنه دعا لتحقيق في هذه المجزرة؟
هو المسؤول لأنه أشعل ‘حرب التحرير’ غير المحسوبة.
بما أننا نتحدث في السياسة، يجب ألا ننسى أن الإطاحة بميشال عون كانت بسبب تفويض أميركي للسوريين إثر قرار سورية المشاركة في حرب الخليج الأولى لتحرير الكويت.
التفويض الأميركي حصل منذ عام 1976، منذ حصار تل الزعتر. كان تفويضاً أميركياً لسورية التي دعمت الأحزاب اليمينية اللبنانية ضد المقاومة الفلسطينية وحلفائها اللبنانيين. لقد استخدمت سورية الشيعة (يقصد ‘حركة أمل’ في حرب المخيمات) والفلسطينيين لضرب المقاومة الفلسطينية (يقصد الجبهة الشعبية ـ القيادة العامة في معارك طرابلس). لهذا أستغرب اليوم الكلام عن معسكر الممانعة السوري. هناك عتب سوري على أمريكا وليس عداء.
مثقفون طهرانيون
طيب، دعنا نعود إلى موضوعنا الأساسي. البعض يقول إنه يجب التمييز بين بول شاوول الشاعر وبول شاوول الكاتب الصحافي في صحيفة ‘المستقبل’ المحسوبة على ‘تيار المستقبل’ بزعامة النائب سعد الحريري، وبالتالي أنت تعبر عن وجهة نظر سياسية بالانتصار لفريق على آخر؟
’14 آذار’ هم الذين جاؤوا إلى صفي. هم جاؤوا إلي ولم أذهب إليهم. منذ 30 سنة أكتب ضد المخابرات والأمن العام وعسكرة المجتمع والكانتونات واستخدام الأراضي اللبنانية لمآرب شخصية. كتبت ضد ياسر عرفات و’الكتائب اللبنانية’ و’القوات اللبنانية’ والحركة الوطنية. دائماً كنت أكتب رأيي. حين كنت في ‘السفير’ كتبت رأيي، وحين كنت في ‘النهار’ كتبت رأيي، واليوم أكتب رأيي في ‘المستقبل’. الآن يتقاطع هذا الرأي مع ’14 آذار’ لكنه قد لا يتقاطع في الغد. وعندها سأرتد عليهم. كتبت مقالاً ضد مدير عام الأمن العام حين كان في منصبه. كان عنوان المقال ‘جميل السيد ومونودراما النهايات’ (تم سجن اللواء جميل السيد مع ثلاثة من قادة الأجهزة الأمنية من دون محاكمة حتى الآن على خلفية اغتيال الرئيس رفيق الحريري). وحين استضاف جميل السيد أنسي الحاج على فنجان قهوة كتبت مقالاً في ‘النهار’ هاجمت فيه الجيش والعسكر (كان وقتها أنسي الحاج لا يزال رئيس تحرير في صحيفة ‘النهار’). وحين تم الاعتداء بالضرب والسجن على أنصار ‘التيار الوطني الحر’ في أحداث ما سُمّي لاحقاً ‘أحداث 6 آب’ كتبت دفاعاً عن هؤلاء الشبان والشابات الذين تظاهروا أمام المجلس العدلي، معتبراً أن الجيش يتم استخدامه لضرب التظاهرات الشعبية. وحين سُجن أدونيس عكرة (أستاذ جامعي وناشط في ‘التيار الوطني الحر’ الذي يرأسه ميشال عون) كتبت مقالاً دفاعاً عنه. والآن إذا تعرض أي فرد من ‘التيار’ لقمع أقف إلى جانبه.
القضية ليست قضية قمع وإنما قضية موقف سياسي. ميشال عون اليوم ليس في السلطة وهو لا يعبّر عن السلطة من موقعه. وعليه فإن مقالك يعبر عن وجهة نظر سياسية وليست ثقافية؟
صحيح، لكن ما فجعني في المثقفين هو العقلية البيوريتانية. يعني عقلية ميتافيزيقية تصنّف الكلام ما بين مقبول أو بذيء. ثم إنهم أخرجوا الكلمات من سياق النص ثم أخرجوا النص من سياق الاجتماع الذي نعيشه. هناك حيثيات سياسية كالاغتيال، وهناك حيثيات اجتماعية. يعني أنا أعيش منذ 30 سنة في بلد تتآكله الحروب، كل يوم مهددون بالقتل والتهجير، كل هذا القتل والحرق والتدمير يتم تجاهله للتفرغ لمحاكمة بول شاوول على بضعة كلمات غاضبة. أنا إنسان أملك مشاعر. أنا شاعر ولست باحثاً أو كاتباً سياسياً بالمعنى الفعلي للكلمة. أنا شاعر غضبَ وشتمَ ولن أندم على كل كلمة كتبتها. بعد المقالين السابقين عدت وكتبت مقالاً عن ميشال عون بعنوان ‘جنرال المقابر المنبوشة’ (أثناء الحديث عن وجود مقابر جماعية في عنجر في منطقة البقاع). أوزبرن غضب، نيرودا غضب، لوركا غضب، ألبرتي، ناظم حكمت، ماياكوفسكي، جميعهم غضبوا. هل علينا أن نحاكم هؤلاء الغاضبين بالعقلية الفاشية الدينية والعسكرية المتزمتة؟ ميشال عون نفسه شبّه الناس بالغنم ووصفهم بأنهم كذابون وواية (بنات آوى) وكلاب.
قلت لي إنك عاتب على المثقفين، رغم أنه تم التضامن معك لبنانياً وعربياً؟
وأنا أحيي هؤلاء. حتى الناس الذين هاجموني لم يتجاهلوني..
من هاجمك، لا أعرف أن أحداً من المثقفين هاجمك. ربما هناك مثقفون بارزون لم يوقعوا بياناً تضامنياً معك لكنهم كتبوا مقالات في هذا الشأن، أنسي الحاج على سبيل المثال؟
لم أقرأ أنسي الحاج. قرأت عباس بيضون ودلال البزري وسمير عطا الله في ‘النهار’. سمير عطا الله لا أعتبره مثقفاً. يريد سمير أن يصالح عون فمدحه في مقال يُفترض به الدفاع عني وهاجم بطانة عون. بالنسبة إلى عباس بيضون فإنني أعترض على موقفه من البذاءة كما كتب. شعر عباس كما هو معروف ضد الذوق السائد، وأنا لست ضد هذا الشعر، لكن من كان شعره هكذا لا يحق له الاعتراض على بضعة كلمات ضد الذوق العام. أنا ضد الطهرانية في السياسة والشعر. مع ذلك، أشكر عباس بيضون لأنه وقع البيان التضامني وأشكر أدونيس الذي وقع رغم العداوة التي بيننا في حين أن هناك أشخاصاً أمضيت حياتي معهم أكثر من ثلاثين سنة ولم يوقعوا أو يكتبوا في هذا الموضوع.
هناك من يقول إنك لو كنت تُحاكم على قصيدة مثلاً لاختلف الأمر، لكنك تُحاكم على مقال سياسي. ثم إن المثقفين أنفسهم في لبنان منقسمون ما بين فريقي التخاصم السياسي ’14 آذار’ و’8 آذار’.
هؤلاء المثقفون لم يعترضوا على موقفي من ميشال عون بل على اللغة. عباس بيضون كتب ضد عون قبلي. قال عنه إنه أبله. هؤلاء اعترضوا على اللغة التي كتبت بها مقالي. مثلاً، بيار أبي صعب اعترض على هذه اللغة، كذلك دلال البزري التي اعترضت على بعض العبارات. ثم إن الذين وقعوا البيان نصفهم ضد ’14 آذار’. إذاً، هؤلاء لم يتخذوا موقفاً سياسياً بل موقفاً ثقافياً. مع ذلك، أقول إن المثقفين في العالم العربي هزموا ميشال عون وليس بول شاوول من هزمه.
حداثويون يشتمون حداثتي
دعنا ندخل إلى مسيرتك الشعرية وهذه مناسبة الحوار. بدأت النشر عام 1974 من خلال مجموعة ‘أيها الطاعن في الموت في الموت’. هناك من يعتبر أنك أول شاعر بدأ الحداثة الثانية إذا صحَّ هذا التعبير بعد جيل الروّاد، وكنت عُرفت من خلال قصيدة البياض التي كتبتها في مجموعة ‘وجه يسقط ولا يصل’. هل كانت هذه القصيدة انعكاساً لقصيدة النثر الفرنسية، أم كانت انعكاساً لشروط قصيدة النثر كما رآها أنسي الحاج في مقدمة ‘لن’ في حديثه عن الإيجاز؟
أنسي الحاج لم يقدّم قصيدة إيجاز ولا شوقي أبي شقرا ولا أدونيس.
أنسي الحاج كتب نصاً طويلاً سنة 1970، أي في كتابه الخامس ‘الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع’.
ومن قبل أيضاً. عموماً، لا يملك شعراء قصيدة النثر أمثال أنسي الحاج وأدونيس نظرية حول هذه القصيدة. كان ذلك كلام سوزان برنار الذي نقلوه إلى العربية.
هذا أنسي الحاج. وأدونيس؟
أدونيس أيضاً. المشكلة ليست هنا. سوزان برنار استخلصت نظرية لقصيدة النثر الفرنسية من خلال نصوص فرنسية. بعد مئة سنة من قصيدة النثر الفرنسية، كتبت برنار نظرية لهذه القصيدة. أي تماماً كما فعل الفراهيدي من خلال أوزانه الشعرية. ما فعله أنسي الحاج وأدونيس وغيرهما أنهم وضعوا قواعد مسبّقة لقصيدة لم تكتب بعد. يعني وضعوا شكلاً جاهزاً بلا تراث. أنا كتبت دراسة عن سوزان برنار ونظريتها التي تجاوزها الشعر في فرنسا والعالم كله. سان جون بيرس ما علاقته بنظرية برنار؟ بول كلوديل ما علاقته بنظريتها؟ وأيضاً لوتريامون؟ نعم، قدّمت برنار جهداً عظيماً لكنني شخصياً لم أنطلق منها في كتابة نصي الشعري.
إذاً، ما هي مرجعية قصيدة البياض التي كتبتها مبكراً؟
جاءت مني أنا ومن قراءاتي المتعددة. هي أقرب إلى الشعر الياباني.
والفرنسي؟
والفرنسي يمكن. لكني لم آخذ نموذجاً وأبني عليه.
تقصد بالياباني قصيدة الهايكو؟
جزء منها. جبران أيضاً مقاطع صغيرة في ‘رمل وزبد’، وميخائيل نعيمة ورينيه شار أيضاً. القرآن أيضاً فيه هذا الإيجاز، وكذلك الإنجيل.
سيوران مثلاً؟
صحيح. على كل حال، الشعر العربي القديم قائم على نظام البيت الشعري.
وكان يقال قديماً إن أجمل المعاني ما اكتمل في شطر واحد.
صحيح. ما أريد قوله إن ثقافتي الشعرية عالمية وليست فرنسية فحسب. لا تنس المسرح أيضاً. لماذا لا يُقال إنني متأثر ببكيت أو جان أنوي؟ المهم أنني حين أصدرت هذا الكتاب شتمت من قبل شعراء الستينات. قالوا بول شاوول يكتب قصيدة من سطرين. هوجمت واتهمت بأنني أدمر اللغة العربية. هذا كلام عمره ثلاثون سنة. بعد ذلك راجت قصيدة السطرين والثلاثة والأربعة أسطر. أنا شاعر تجريبي. جرّبت قصيدة البياض وانتهت بالنسبة إلي.
هذا ما أريد السؤال عنه. عُرفت بقصيدة البياض كشاعر تجريبي وحداثي. لكنك لاحقاً عدت إلى النص الطويل المفتوح كما في كتابيك ‘كشهر طويل من العشق’ و’نفاد الأحوال’. هل كنت تنقض بتجربة النص الطويل تجربتك في قصيدة البياض؟
‘موت نرسيس’ و’ميتة تذكارية’ ولاحقاً ‘أوراق الغائب’ عبارة عن نصوص طويلة. في المناسبة أعتبر ‘أوراق الغائب’ حصيلة تجاربي الشعرية. بقيت أعمل عليه ست سنوات من عام 1986 إلى عام 1992. كان هذا الكتاب ستمئة صفحة فأصبح ستين صفحة. أسهل شيء على الشاعر أن يكون ببغاء ذاته. الصعوبة هي أن تنفي نفسك باستمرار، أن تلغي نفسك وتدمرها. والأصعب أنك حين تنتقل من تجريبية إلى تجريبية تحتاج إلى مخزون ثقافي ولغوي وإنساني حتى تستطيع أن تنوّع في الأساليب.
ألا تخشى أن تقع في الشكلانية وأنت تنتقل من تجربة إلى أخرى؟ ألا تخشى أن يصبح التجريب هو الهاجس الأول قبل الشعر؟
أنا أريد أن أسألك: ‘نفاد الأحوال’ أليس مكتوباً بنفس واحد؟ هل ‘أوراق الغائب’ كتاب شكلاني؟ وهل الشكلانية تنطبق على ‘كشهر طويل من العشق’؟ الشاعر عندما يقلد نفسه يقع في شكلانية نفسه. وعندما يدّعي شاعر ما أنه يكتب ضد البلاغة فإنه يؤسس لبلاغة من نوع آخر. عندما يصبح شاعر ما نمطاً جاهزاً يغدو أبلغ من البلغاء. لا يعود عندها الشعر يمر عبر حواسه ولا عقله. الأوتوماتيكية هي البلاغة. هذا ما أهرب منه دائماً.
هناك نوعان من الشعراء في العالم، شعراء يكتبون طوال حياتهم قصيدة واحدة مع تنويعات على هذه القصيدة كما هي حال نزار قباني مثلاً، وشعراء ينوّعون في أساليبهم كما هي حال ريتسوس مثلاً. أنت تنتمي إلى القسم الأخير.
خذ مثلاً دالي وخذ بيكاسو. دالي رسم لوحة واحدة، بينما بيكاسو مفجّر مراحل. هنا يجب أن نفرّق بين شاعر يعمّق تجربته وبين شاعر يكرر تجربته. بودلير كتب قصيدة واحدة. فرلين أيضاً. رامبو كانت لديه تنويعات. رينيه شار كتب تقريباً قصيدة واحدة بعدما رمى السورياليين وراءه، بينما هنري ميشو يشبه الخلد تحت الأرض. هارولد بنتر في المسرح أيضاً لديه تنويعات. المهم ألا يستسهل الشخص من خلال البناء على تجربة واحدة بشكل أوتوماتيكي كأنه يعلن موت الشاعر داخله. مثلاً، محمود درويش من الشعراء العرب القلائل الذين يُعدُّ نتاجهم اللاحق أهم من نتاجهم السابق. مشكلتنا، نحن العرب، أن كتابنا الأول أهم كتاب في تجاربنا. خذ أهم الشعراء لدينا، أول كتاب لديهم أهم كتاب في نتاجهم كله. لا أريد أن أذكر أسماء. أذكرهم أنت.
عبد الوهاب البياتي مثلاً…
ومحمد الماغوط، وأحمد عبد المعطي حجازي وآخرون كثيرون. ثمة شعراء ليس لديهم هذا القلق تجاه أنفسهم. المسألة تتعلق بالإبداع. ليس الموضوع قصيدة بياض أو نصاً طويلاً. من المسائل التي أخطأت بها سوزان برنار مسألة التوهج. التوهج لا يعني الإيجاز أو التطويل. إنه مسألة نسبية.
منتحلو أدوار الريادة
هناك من يرى أنك انتقلت من قصيدة لبنانية قائمة على صفاء اللغة وعلى الشعر بوصفه جوهراً إلى قصيدة أكثر مدنية، قصيدة التفاصيل كما يسمّيها البعض، والتي كان جيل الثمانينات وبعض مجايليك قد بدأوا كتابتها. بكلام آخر، أنت لحقت بجيل الثمانينات.
مثل من؟
هناك شعراء كثيرون أمثال شارل شهوان ويحيى جابر وبسام حجار، ومن مجايليك وديع سعادة وعباس بيضون وحمزة عبود.
هذه القصيدة كتبتها منذ مطلع الثمانينات. ‘ميتة تذكارية’ نشر في كتاب سنة 1985، بعدما كان نشر في ‘النهار’ سنة 1983. ‘عندما كانت الأرض صلبة’ نشر في ‘النهار’ سنة 1984. لم يكن أحد وقتها نشر قصيدة يومية أو قصيدة تفاصيل.
عباس بيضون يعتبر نفسه مؤسساً في هذه القصيدة.
متى نشر عباس بيضون؟
نشر ‘الوقت بجرعات كبيرة’ سنة 1984، لكن كان كتب قبله كتاب ‘صور’ سنة 1974 ونشره متأخراً. عباس بيضون يكتب منذ بداية السبعينات بحسب ما يقول.
‘الوقت بجرعات كبيرة’ كتاب يقع تحت تأثير ريتسوس ونيرودا. في كل حال، التفاصيل موجودة في الشعر العربي كله. هذا تخلف. سرقة أدوار. وادعاء ريادة وهمية. أنا لم أقرأ ريتسوس وأقلده. شعري طالع من بيتي والمقهى الذي أجلس فيه والرصيف الذي أسير عليه. قصيدة التفاصيل عندي انعكاس لحياتي. تفاصيلي ليست ثقافية بل حياتية. لا أقول إن شعرهم ليس جيداً بل إن شعرهم جميل، لكن لا يجوز سرقة أدوار الآخرين. ثم يا أخي اعتبر أنني تأثرت بهم، فأين المشكلة؟ لماذا لا يقولون إنهم تأثروا بآخرين؟
هم يردون مصادرهم الشعرية إلى الشعر الغربي. يعني عباس بيضون لا ينفي تأثره بريتسوس أو نيرودا أو حتى بسان جون بيرس ولا سيما في كتابه ‘صور’.
ولماذا يأخذون عليَّ تأثري بالشعر الفرنسي؟ مع أنهم لا يعرفون شيئاً عن الشعر الفرنسي. يعرفون ما ترجمته أنا من الشعر الفرنسي وما ترجمه آخرون طبعاً. أول أنطولوجيا فرنسية نشرتها سنة 1980. الآن فاقوا على رينيه شار وغيره ممن ترجمته من ثلاثين سنة.
أيضاً شعراء مجلة ‘شعر’ ترجموا عن الفرنسية. مثلاً ‘منارات’ سان جون بيرس بترجمة أدونيس، وهي ترجمة ذات حساسية شعرية عالية، وكذلك شوقي أبي شقرا وأنسي الحاج اللذان ترجما آرتو. وهناك ترجمات فؤاد رفقة عن الألمانية وترجمات توفيق صايغ وجبرا إبراهيم جبرا للأدب الأميركي. يعني الأسماء كثيرة ولا تقتصر على لبنان بل تتعداه إلى دول عربية أخرى، ولا سيما مصر، لها ريادة في ترجمة الآداب الأجنبية.
كتير منيح.
لست ابن سعيد عقل
لم يُكتب كثيراً عن أثر المسرح في شعرك. أين يبدو هذا الأثر، هل في الحوارات كما في كتاب ‘منديل عطيل’ أم في البياض الذي هو شكل من أشكال الصمت أو الإيقاع المكثف؟
أكثر كتاب لدي يظهر فيه أثر المسرح هو كتاب ‘نفاد الأحوال’.
هذا كتاب عبارة عن مونودراما إذا صحَّ التعبير.
طبعاً. في هذا الكتاب مونودراما، وكذلك أصوات متعددة. أنا أردد لك ما يقوله سواي عن شعري. في كل حال، لم أتقصد أن أدخل المسرح إلى نصي الشعري، وإنما ثقافتي المسرحية، البصرية والنصية، تسرّبت بتلقائية إلى قصيدتي. الآخرون قد يفيدون أكثر مني في الحديث عن شعري. لكن من المؤكد أن المسرح خدم قصيدتي، مثلما خدم شعري بدوره كتاباتي المسرحية. في النهاية لا يمكن أن نجزّئ النص إلى مسرح وحياة وشعر وفكر ولغة. النص كائن واحد لا يمكن تجزئته.
هناك تأثيرات لدى كل جيل شعري أو لدى كل شاعر بعينه. مثلاً، سعيد عقل تأثر بالنحت والرسم. شعراء الثمانينات في معظمهم تأثروا بالسينما، بينما يبدو أثر المسرح واضحاً في شعرك. ثمة صوت بالمعنى الحرفي للكلمة في شعرك، أظنه طالعاً من المسرح.
في شعري يوجد أثر كبير للمسرح ولفنون أخرى أيضاً. الآن أقوم بتجربة جديدة، وهي كتابة خمسة كتب معاً. في النهار نفسه أعمل على أكثر من كتاب. ربما أفشل في كتاب أو اثنين أو الخمسة وربما أنجح فيها جميعاً. هل هذه الطريقة في الكتابة ستؤدي إلى تنوّع ما أم إلى تشتت؟ لا أعرف. القصيدة أحياناً تصل وأحياناً لا. والأحسن ألا تصل. التوغل أجمل من النجاح. يحدث أن تتوغل في قصيدة لتكتشف بعد سنتين أنه كان توغلاً خاطئاً. دخلت في مناطق فارغة. ما يعنيني ليس نتيجة عملي وإنما الكتابة نفسها. عموماً أنا ضد النشر. عندما نشرت عام 2001 ‘كشهر طويل من العشق’ و’نفاد الأحوال’ فعلت ذلك بتشجيع من أصدقاء كان بينهم عباس بيضون. وقتها كان صديقي. النشر مقبرة القصيدة.
رغم قصيدتك الحديثة، كونك رائداً أول في جيلك ورائداً ثانياً في قصيدة النثر بعد جيل الستينات، فإن ثمة أثراً تراثياً في شعرك. هذا الأثر يبدو شديد الوضوح في لغتك الشعرية. بمعنى أكثر مباشرة: لديك نص ذو شكل حديث لكن بلغة تراثية ومعجمية في بعض الأحيان.
أين؟
في ‘نفاد الأحوال’.
إختر واحداً غيره لأن ‘نفاد الأحوال’ كتاب شفوي.
ربما الموضوع، لكن اللغة ليست شفهية.
أنا أرى أنه نص واحد ذو لغة متدفقة. قد يصح هذا الوصف على كتاب ‘كشهر طويل من العشق’. لكن لغتي في كتبي الأخرى ليست تراثية. أين اللغة التراثية في ‘كوجه يسقط ولا يصل’.
صياغاتك نفسها تبدو قياسية أحياناً. يعني حين تستخدم أوزان الكثرة مثل مفاعيل ومفاعيل، أو حين تستعمل مفردات معجمية مثل حنانيك. هذه المتانة اللغوية يردها البعض إلى أثر سعيد عقل في شعرك.
سعيد عقل كتب ‘نفاد الأحوال’ أو ‘كشهر طويل من العشق’ أو ‘أيها الطاعن في الموت’…؟ ثقافة سعيد عقل الشعرية توقفت عند القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، بينما ثقافتي الشعرية ممتدة إلى الآن رغم أن سعيد عقل شاعر كبير. أكبر شاعر لبناني هو سعيد عقل، وإن وقع في تقليد نفسه وانتهى منذ خمسين سنة. أدونيس تأثر بسعيد عقل. يوسف الخال أيضاً. بالنسبة إلي يجب على الشاعر أن يكون لديه همُّ اللغة سواء ألغى هذه اللغة أم نحتها. هل أصبح عيباً أن ينحت الشاعر قصيدته؟ لماذا تصر على أنني متأثر بسعيد عقل وليس بأبي تمام مثلاً أو الشعراء الصوفيين أو لبيد؟ أنا قارئ جيد للتراث وأخذت من كل هؤلاء. أنا لست من دعاة نظرية قتل الأب. هذه نظرية باتت مضحكة. السورياليون حاولوا قتل الأب فماتوا هم. وكذلك الدادائيون. ما أود قوله إنني إذا كنت متأثراً بسعيد عقل فهذا فخر لي. وإذا كنت متأثراً بريتسوس فلي الفخر أيضاً وكذلك برينيه شار. هناك العشرات يشاركون في كتابة القصيدة معنا.
وأنت القائل كلما كثر آبائي كثرت ولاداتي.
صحيح. أضف إلى ذلك أن شخصاً مثلي لديه تجارب مختلفة ما بين كتاب وآخر، فلا بدَّ من أن يتقاطع مع آخرين. نعم، أنا أتقاطع مع السورياليين في مناطق عدة من نصي الشعري، وكذلك مع الرمزيين.
ولا علاقة لرمزية سعيد عقل بهذا التقاطع بوصفه أول من نقل الرمزية الفرنسية إلى الشعر العربي في العصر الحديث؟
حتى قبل سعيد عقل. أنا قرأت بودلير ومالارمه ورامبو. وهم أساتذة للرمزية قبل سعيد عقل. في كل حال، المهم أن يكون هناك نقد جدي وليس نقداً قائماً على الكيدية. بول كلوديل كان يفتخر بأنه تأثر برامبو، وفاليري كان يعتبر مالارمه أستاذه، ومالارمه كان يعتبر بودلير أستاذه. هكذا يتكلم الناس في البلاد التي فيها نقد. هنا عندنا نميمة، مثل كلام الضيعة. الريادة كلام قرى. هؤلاء نزلوا من القرى وما زالوا قرويين. تفاصيل؟ ما هي التفاصيل؟ الشعر الجاهلي كله تفاصيل قبل أخينا ريتسوس وقبل بريفير وقبل نزار قباني. شعر أبي نواس أليس شعر تفاصيل؟ شعر بشار بن برد أليس شعر تفاصيل؟ عيب. عيب. هذا كلام نميمة قروية.
هذا يستدعي كلاماً حول الحداثة كأيديولوجيا. أي تصوّر البعض للحداثة على أنها قطع مع كل ما سبق. هل يمكن الحديث عن حداثة تستلهم التراث؟
إذا أردت رأيي، يجب أن ننتهي من هذه الثنائية. يجب أن نتخلص من مفردتي الحداثة والتراث. هذه فكرة دينية. منذ أبي نواس كانت هذه الإشكالية مطروحة كإيديولوجيا. حين قال أبو نواس ‘قل لمن يبكي على رسم درسْ/ واقفاً، ما ضرَّ لو كان جلسْ’ كان يزعم أن العرب متخلفون بسبب وقوفهم على الأطلال على خلفية أصوله الفارسية. الحداثة كما طُرحت عندنا حداثة أصولية لا تختلف عن أي أصولية أيديولوجية أو دينية. بالعكس، الأصولية الدينية تنهل من الحداثة السياسية والفكرية والثقافية. الأصوليات الدينية والإثنية والعشائرية طلعت من الحداثة. والفاشية طلعت من الديمقراطية. إذاً، الحداثة عندنا أصولية. أدونيس وأنسي الحاج تأثرا بالسورياليين ولم يأتيا بجديد من عندهما.
لكن أدونيس حاول تأصيل مشروعه الحديث عبر ردّه إلى التراث منذ ‘الثابت والمتحول’ إلى ‘الصوفية والسوريالية’؟
لا أتكلم عن أدونيس بشكل خاص. ما أريد قوله إننا جميعاً وقعنا في هذه الأصولية. أنا شخصياً وقعت في هذه الأصولية حين كنت أقول إن شعر الوزن انتهى وكذلك شعر التفعيلة. هذا شبيه بقول الأصولي الديني للحداثي: أنت مجرم لأنك حداثي. لاحقاً اكتشفت أنني ألغي تجربة غير جاهزة بأفكار جاهزة تدّعي أنها ضد الجاهز. عندما أقول إن قصيدة النثر ترفض الشكل الجاهز، أكون أتجاهل أنه ربما يأتي وقت يكتب فيه شاعر ما ملحمة شعرية خليلية تفجر اللغة. وربما في شعر التفعيلة. لهذا أعتقد أن الأصوليات اليهودية والمسيحية والإسلامية خرجت من الحداثة. هتلر مثلاً طلع من الحداثة. ستالين أيضاً خرج من ثورة تزعم التحديث. موسوليني كذلك خرج من الحداثة الأوروبية. وعليه، أعتبر أن كل ما يكتبه الآخرون محق. هذا ما توصلت إليه الآن بعدما كنت مررت في مرحلة راديكالية. لهذا أرفض أن أكون مكرّساً. التكريس من الكرسي. وأنا أرفض أن أكون رهينة كرسي. أرفض أن أكون رائداً. الرياديون عندنا انتهوا وأصبحوا عقبة أمام الشعر. أريد أن أظلَّ مشاكساً. وحين أموت يكون موتي القصيدة الواحدة الأخيرة في حياتي.
من ضد إلى ضد
من هذه الجملة، أريد أن أدخل إلى الهجاس بالموت في شعرك، منذ كتابك الأول ‘أيها الطاعن في الموت في الموت’ إلى ‘ميتة تذكارية’ إلى ‘موت نرسيس’ إلى ‘أوراق الغائب’ إلى ‘نفاد الأحوال’. حتى حياتك اليومية على تماس مع هذا الموت: لم تتزوج، تعيش عزلة حميمة رغم جلوسك اليومي في المقهى، تركت عائلتك في بيروت الشرقية (التسمية التي كانت شائعة أيام الحرب الأهلية حيث كانت غالبية المسيحيين، في حين كانت غالبية المسلمين في بيروت الغربية) وجئت إلى بيروت الغربية. من أين جاءك كل هذا الموت؟
أختتم كتابي الأول ‘أيها الطاعن في الموت في الموت’ بهذه الجملة: ‘سأكون ضيف الموت المقبل’. وقتها فكرت في عنونة هذا الكتاب بعبارة ‘ضيف الموت المقبل’. أخطأت لأنني لم أختر هذا العنوان. البعض اعتبر أن هذا الكتاب كان تنبؤاً بالحرب (نشر الكتاب سنة 1974، أي قبل اندلاع الحرب الأهلية بسنة واحدة). طبعاً، شخصياً لا أوافق على مثل هذه التنبؤات. أنا شاعر صعلوك، عشت الفقر في المدينة. الشعراء الأنبياء يضحكونني. سخف، كلام هزلي، ذو أصول دينية. منذ عام 1969 ونحن نعيش في الموت. بالنسبة إلي بدأت الحرب الأهلية في لبنان في هذه السنة. كان الموت قريباً مني في كل لحظة. إذا كنتَ تسير وحدك كان الموت ثانيك. وإذا كنت تسير مع حبيبتك كان الموت ثالثكما. وإذا كنت جالساً إلى طاولة تشرب القهوة مع شخصين كان الموت هو الرابع. منذ أربعين سنة وأنا أسير مع الموت. كل يوم كنت أترك فيه بيتي أودّعه لأنني لم أكن أضمن عودتي إليه. نجوت من القصف مرات عديدة كآلاف اللبنانيين. ذات مرة كنت أسير في شارع الحمرا فسقطت وحدة ورائي (التعبير اللبناني عن سقوط قذيفة)، هربت فسقطت وحدة أخرى أمامي. نجوت بالصدفة. كل يوم كنا نصادف الموت والدمار. كان الموت في العيون وفي الشارع وفي اليقظة وفي المنام. أصبح الموت جزءاً من تفكيرنا وإحساسنا وحياتنا. مع ذلك أميّز ما بين قصيدتي اليائسة وما بين مقالي السياسي الصلب. الآن أنا أناضل من أجل الديمقراطية مثلما وقفت سابقاً ضد الميليشيات المسيحية وقت كانت تقيم هذه الميليشيات كانتوناً أو وقت ذهب بعض رموزها إلى إسرائيل أو حين وقفت ضد العرب. عائلتي تنكرت لي. طائفتي تنكرت لي. بعد ذلك خطفت. ثم هربت إلى هنا (ما كان يُعرف سابقاً ببيروت الغربية) عام 1978. لم أترك عائلتي قصداً. لا أحد يترك بيته وليس معه إلا خمسون ليرة في جيبه. هربت من منطقة المنصورية إلى هنا واستأجرت شقة بخمسة وسبعين ليرة في الشهر. لم يكن لدي شراشف فكنت أنام على الجرائد. وحين أتيت إلى هنا لم أنخرط مع أي ميليشيا، مع أنني كنت مسؤولاً طلابياً بارزاً في الجامعة اللبنانية منذ عام 1968.
كنت تُحمل على الأكتاف. وذات مرة أصبت برأسك.
أصبت مرات عدة. هنا (يشير إلى رأسه) يوجد تسع قطبات. وهنا ست قطبات. وهنا إصابة في قدمي. كنت في ‘حركة الوعي’ (حركة لبنانية كانت على يسار اليمين اللبناني) وعندما اندلعت الحرب أنهينا هذه الحركة. كنت وما زلت ضد السلاح. لم نذهب إلى السفارات لجلب السلاح وقتل اللبنانيين. كثيرون غيرنا فعلوا ذلك. حركة المقاومة الوطنية واليسار اللبناني ‘ركبوا’ على الفلسطينيين لتغيير النظام. هناك شعراء حملوا سلاحاً لتغيير النظام بالقوة. ‘الكتائب اللبنانية’ أيضاً ‘ركبوا’ على السوريين بداية ثم على الإسرائيليين للحفاظ على النظام. أنا وقفت في وجه الطرفين. كتبت مقالاً ضدهما في ذلك الوقت. ثم جاءت مسرحيتي ‘فنّاص يا قنّاص’ كنقد للحرب. اعتبرت في المسرحية أن القناصين من كلا الطرفين كانوا يلتقون مع بعضهم البعض وكانوا يهرّبون الحشيش والكوكاكيين والسيارات المسروقة. وقتها كان كلاماً كهذا قد يتسبب في قتلي. وكان القتل في تلك الفترة مجانياً.
على ذكر تلك المرحلة، كيف عشت وقتها كمسيحي في المنطقة الغربية؟
أنا لم أعش هنا كمسيحي. لا تنسَ أنني كنت قائداً طلابياً. هذا الأمر جعلني متقدماً في نظر الأحزاب اليسارية والقومية. المهم أنني وقتها وقفت ضد الكانتون. لقد عشت سنتين في الكانتون المسيحي المليشياوي. الكانتون هو انتحار الطائفة. بدأت نهاية الحكم المسيحي في لبنان عندما صنعوا كانتوناً. لهذا السبب حين أتكلم اليوم عن ‘حزب الله’ فإنني أتكلم لصالحه. لقد كتبت كثيراً عن ‘حزب الله’ عندما كان مقاومة. كتبت عشرات المقالات وقتها حين كان آخرون مع إسرائيل، لدرجة أن هناك كتّاباً غضبوا مني لأنني كتبت ضد إسرائيل. قلت في حوار تلفزيوني: أنا عضو غير منتسب في المقاومة الإسلامية. وأنا مع أي مقاومة في العالم ضد الظلم والاحتلال. وهذا موقف شعري بالنسبة إلي. لكن عندما ترك ‘حزب الله’ المقاومة وأصبح مشروعاً سياسياً بات من حقي انتقاده. لقد أدخل الحزب الطائفة الشيعية في كانتون، هذه الطائفة التي خرّجت منذ الستينات في لبنان أهم الكتّاب والشعراء والمفكرين، تماماً كالطائفة المارونية في الأربعينات. أتكلم هذا الكلام من وجعي، من داخل ‘حزب الله’. ليس لديَّ عداء ضد الحزب. ولهذا أقول له: حذار، إنك ذاهب إلى الانتحار، تماماً كما كاد وليد جنبلاط أن ينتحر أيام الإدارة المدنية (إدارة تربط ما بين مناطق في الجبل والجيش الإسرائيلي أيام الاحتلال). وقتها كنت مع وحدة لبنان وما زلت لأنني في المقام الأول لبناني، لبناني، لبناني، ثم تأتي الصفات الأخرى.
إرهابيو منع التدخين
لفتني في الحوار تلك العلاقة الحميمة ببيتك، هنا في شارع الحمرا. وخارج الحوار أنا أعرف هذه العلاقة التي تربطك بهذا البيت، لدرجة أنني كتبت ذات مرة مقالاً صغيراً عن علاقتك بهذا المكان الذي لا يتجاوز الستين متراً، والمكدّس بالكتب. ماذا تخبر عن هذه العلاقة؟
عندما يصبح الخارج مخيفاً، والشارع مخيفاً، ومعادياً، ومفخخاً، ويعاديك، ولا يشبهك، بل يشبه الذين سيّدوه عليك، أي الميليشيات والاحتلال، يغدو بيتك هو الشارع والسماء والفضاء والملجأ الذي يحميك من أن تصبح كالآخرين. العزلة المأهولة. هذه هي عزلتي. عزلتي ليست هجراناً لما يجري حولي. بل إنني في قلب الحدث. مقالاتي السياسية تضعني في الخطر. وهذا الخطر يستفزني. كتبت في الخطر أيام كنت في الكانتون المسيحي، وكتبت في المنطقة الغربية في ظل الحرب، وأكتب الآن في هذا الخطر المحيط. هناك شعراء قبل السبعينات كتبوا عن الحرية والجنس. كان المجتمع المتقدم يحمي هؤلاء الشعراء. كان المجتمع وقتها متقدماً على هؤلاء الشعراء. لم يكن القتل يجري بناء على الكلمة. الآن الحقل المجتمعي ضدك والحقل السياسي ضدك. تسألني عن الموت؟ أنا أزدهر في الموت. لا أعرف الكتابة في زمن السلم.
أصدرت ثلاثة كتب دفعة واحدة. ما مبرر النشر بهذه الطريقة؟ هل هو نوع من الإبهار؟ ثم ألا تخشى أن يغبن كتاب منهما الكتابين الآخرين؟
بلى، كان هذا خطأ. للتوضيح أصدرت كتابين هما ‘دفتر سيجارة’ و’بلا أثر يُذكر’. الكتاب الثالث هو كرّاس صغير بعنوان ‘الذين يموتون خلف أعمارهم’ عن أطفال غزة. وقد طلب مني أصدقاء أن أنشر هذه القصيدة منفردة. خطئي كان في نشر الكتابين الآخرين معاً. وهذا ما حصل لي عام 2003 حين نشرت خمسة كتب تقريباً في فترة متقاربة. وقتها ‘أكل’ كتاب ‘كشهر طويل من العشق’ كتاب ‘منديل عطيل’ وكتاب ‘عندما كانت الأرض صلبة’. لم ينافس ‘كشهر طويل من العشق’ في ذلك الوقت إلا كتابي الآخر ‘نفاد الأحوال’. وهنا أريد أن أكشف سراً: كتبت ‘دفتر سيجارة’ و’بلا أثر يذكر’ و’حجرة مليئة بالصمت’ و’حديقة المنفى العالي’ اللذين سيصدران قريباً معاً. كنت أعمل في اليوم نفسه على الكتب الأربعة معاً. هذه تجربة جديدة بالنسبة إلي بعكس ‘أوراق الغائب’ الذي عملت عليه طوال ست سنوات متواصلة. قلت سأخوض هذه المغامرة فإما أسقط مع هذه الكتب وإما أصعد معها. لكني اكتشفت أنني لا أكرر نفسي حتى وأنا أعمل على أربعة كتب معاً. لم أفعل ما فعله سعيد عقل الذي ظلَّ يكرر نفسه طوال ثلاثين سنة. التجريب هو الحرية المطلقة. لكني سأصدر الكتب الموجودة الآن في المطبعة كلاً على حدة.
إلى أي حد تجعلك كتابة أربعة أو خمسة كتب معاً حرفياً وبنّاء كما يرى البعض، أكثر منك شاعراً متوهجاً؟
‘دفتر سيجارة’ كتاب حرفي؟ إنه كتاب شفوي. الحرفية تعني لدى هؤلاء البعض عدم وجودة مضمون. تعني أن الشاعر ‘كندرجي’ (إسكافي باللهجة اللبنانية). بالعكس، تجريبيتي تنطلق من مادة حياتية نفسية واجتماعية. أنا لا أقوم ببهلوانيات لغوية قائمة على فراغ. الشفوية في ‘دفتر سيجارة’ تنفي الحرفية. الشفوية هنا شبيهة بدخان السيجارة. مع ذلك أقول كل شاعر ليس لديه حرفة لا يجيد الكتابة. شعراء مثل فاليري أو مالارمه أو المتنبي أو أبي تمام شعراء حرفة. الحرفة هي المعرفة والخبرة والتراكم أيضاً. أرفض مثل هذا الكلام الإطلاقي عني. أحياناً وصل النقد إلى أن يكون نميمة ضدي. أنا لست شاعراً شكلانياً كسعيد عقل الذي إذا ترجمته لا يبقى منه شيء. شعري كله قائم على الموت. يعني طالع من الحياة. شعري ليس طالعاً من الكتب أو النظرية كما لدى آخرين. التجريبية عندي حلت محل النظرية. لقد تم تصنيفي في السبعينات على أنني شاعر قصيدة البياض. لو أنني بقيت عند هذه القصيدة لمت، لانتهيت. أنا أريد أن أسألك: هل كتب مثل بعضها البعض’
أعتقد لأ.
عظيم. إذاً، أنت ترفض أن تقع في التصنيف. لهذا أطلب قراءة كتبي بطريقة نزيهة. وهنا أريد أن أصرّح بمسألة حسّاسة: كتبي الأخيرة فيها تدفق أكثر مما فيها شغل حرفي. وهذا ما يخيفني. على هذا الأساس لا يمكن أن تضع بول شاوول في قفص وتقول هذا شاعر شكلاني. عيب. مش هيك بيتعامل الشاعر. في بلد آخر لا يتم التعامل مع الشاعر بهذه الطريقة.
إذا أردنا الحديث عن ‘دفتر سيجارة’، ماذا تخبر عن هذا الكتاب؟ كيف أتتك فكرة أن تكتب كتاباً كاملاً عن السيجارة؟
هذه السيجارة رافقتني منذ كان عمري أربع عشرة سنة. شاب شعري ولم تشب. هذه السيجارة هي سيرة حياتي. كائن رافقني خمساً وأربعين سنة. شهدت معي حروباً وموتاً وأمكنة ومقاهي وأصدقاء ونساء وخوفاً وعزلة. لم أكتب عن السيجارة لأحمّلها كل هذه الحالات والمعاني. السيجارة نفسها تحمل هذه الأشياء. وفاء لهذه السيجارة كتبت كتاباً عنها. مات أهلي وأصدقاء، تركت بيتي، غادرتني نساء، مدينة بكاملها تغيرت، إلا السيجارة ظلت معي كل ذلك الوقت… كنت أدخن قبل النوم وأنا على السرير. وذات مرة غفوت والسيجارة بيدي فاحترق البيت. عندها أقلعت عن عادة التدخين وأنا في السرير. لكني أدخن وأنا أحلق ذقني. أحلق جهة اليمين فأضعها إلى الشمال، وأحلق جهة الشمال فأنقلها إلى اليمين. غالبية قمصاني وكنزاتي مثقوبة بسبب التدخين. نساء كثيرون أحببتهن وأحببنني ثم غادرن، أصدقاء كثيرون ماتوا، أمكنة تركتني، أفكار الله يرحمها، سنوات كلها راحت، وحدها السيجارة ظلت رفيقتي. وفاء لها أدخن هذا السيجار، لكن صباحاً الساعة السادسة والنصف، عند أول مجة قهوة أدخن سيجارة واحدة من نوع ‘غلواز’… أضف إلى ذلك، أن خراب العالم كله من ثقب طبقة الأوزون وانقراض كائنات من الأرض وتلوث البيئة والأطعمة وحرق أو قطع غابات وحروب وقتل، كل هذا يتم تجاهله في حين تدان السيجارة بوصفها سبباً لمأساة الإنسان في العصر الحديث. منع السيجارة في الأماكن العامة إرهاب. أصبح المدخنون كالمصابين بالأوبئة مثل الطاعون أو باتوا كالمشردين في الشوارع. تصور أنهم لا يمنعون القنابل العنقودية والجرثومية والنووية ليتفرغوا لمنع السيجارة المسكينة. وعليه فإن حضارة كاملة تزول مع ظاهرة منع التدخين. كانت السيجارة دليلاً على الثورة والحب، من مارلون براندو وجيمس دين إلى كمال الشناوي. هناك كليشيه في الأفلام وهو أن يدخن الممثل سيجارة بعد الجنس. مثلاً، أيام الجامعة كان أبناء اليسار يشربون الغلواز. أبي وأمي كانا يدخنان كروز تطلي يومياً. أمي تدخن تطلي رفيع وأبي كان يدخن تطلي عريض.
ثمة سيرة شخصية وعائلية وسيرة أمكنة وأصدقاء ومدينة وسيرة زمن من خلال السيجارة. هل هذا الكتاب هو رثاء لمرحلة تولت؟
طبعاً. ثمة عمق رثائي غير بارز في هذا الكتاب. حين أقول إنني وفيٌّ للسيجارة لأنني أكون وفياً لشيء فقدته. في ظل العولمة تبدو السيجارة تعبيراً عن الفردية. خذ مثلاً العامل. حرية العامل الوحيدة هي أن يدخن. السجين أيضاً يعبّر عن حريته من خلال أن يُسمح له بالتدخين. بدأ العدوان على السيجارة مع العولمة. كان هذا عدواناً أيضاً على الحرية الشخصية. على حرية الاختيار.
تحيل السيجارة على معنى الرماد والاحتراق والتلاشي والدخان، أي على الأثر، على الموت. إلى أي حد يتشابه ‘دفتر سيجارة’ مع ‘بلا أثر يُذكر’ من ناحية العدمية هذه؟ وإلى أي حد يشكل هذان الكتابان حلقة في سلسلة الموت التي كتبتها طوال حياتك الشعرية من ‘أيها الطاعن في الموت’ إلى ‘نفاد الأحوال’؟
حين تدخن سيجارة تدخن العدم. في السيجارة تجتمع أشياء كثيرة متناقضة: الحياة، المتعة، الموت، اللذة، العدم، الخوف، الحرية، المرض والانتحار. حين تدخن ـ إذاً ـ تدخن الزوال. السيجارة تنتهي بسرعة. أنت تشعلها بسرعة وتحرقها بسرعة. كأنك خائف من الزوال. إنك تدخن موتك ومرضك وانتحارك وجنونك. لكن هذه الحالات هي خيار شخصي في النهاية. السيجارة كالشعر عدم خلاب، أو خطأ جميل.
القدس العربي