صفحات ثقافية

وهل يعود المهاجر كما ذهب؟

null

ايمان غور

ظلت تجربة الهجرة عبر العصور تجربة مميزة علي المستوي الفردي أو الجماعي وكما جمعت بين الجرأة والمغامرة والتحدي والمعاناة حملت في طياتها حكايات التيه واللاعودة.

أذكر أنني سمعت أحد الأساتذة المحاضرين يتمم تحليله بالتساؤل: و هل يعود المهاجر كما ذهب؟ .

نسيت السياق ونسيت اسم الأستاذ ومحور الندوة ولم يبق في ذاكرتي بعد كل هذه السنين (الندوة كانت عام 1994) إلا ذلك السؤال الذي يظل يزورني كل مرة كطيف أو كشيخ مخلص لموسم أو زاوية لا يثنيه عنها إلا الموت أو العجز القاهر.

كلما نزلت في ميناء أو مطار ببلدي وأخذني الوطن بين أحضانه إلا وتراودني تلك الجملة التي تتلوها علامة الإستفهام.

وكلما جلست بين زملائي وهم يحكون عن أحداث ميزت طفولتهم ومرت بها هولندا إلا وأحسست بتلك القطع المفقودة عندي لأنني أحمل معي قصصا أخري وأحداث مختلفة . في ذاكرتي مثلا: راية حمراء تتوسطها نجمة خماسية خضراء ترفرف فوق بيتنا في الأعياد الوطنية في تشرين الثاني (نوفمبر) وآذار (مارس)..

نصوص قرأناها عن زلزال أغادير؛ حكايات الجدة عن مجاعة ضربت المغرب وجعلت الناس يأكلون العشب .

وفي ذاكرة زملائي نكبات مشابهة لكن عوض الجفاف هناك فيضانات أغرقت قري هولندية وموت أتي به هتلر وأسماء أبطال سباقات التزحلق علي الجليد.

لا يمكننا أن نكون في مكانين مختلفين في آن واحد ولايمكننا أن نوقف الزمن والأحداث في أحدهما أو كما يقول أدورونو في المينيما موراليا: لقد بطلت كما نعلم حياة المهاجرين السابقة.

في السابق كان ما أعلن أنه غير قابل للتحويل وغير قابل للتطبيع هو مذكرة الإعتقال، واليوم هو التجربة الفكرية. كل ما هو غير متشيئ، ولا يمكن عده وقياسه، يكف عن الوجود.

غير أن التشيؤ إذ لا يكتفي بهذا، ينتشر باتجاه نقيضه، الحياة التي لايمكن أن تكون متحققة مباشرة؛ فكل ما يواصل العيش إنما يواصله كفكر وتأمل وليس غير. ولقد ابتدع من أجل هذا اسم خاص فهو يدعي الخلفية ويظهر علي الإستمارة كملحق، بعد الجنس والعمر والمهنة. ولكي يكمل إنتهاكه ، فإن الحياة تجرجرها سيارة الإحصائيين المتحدين الظافرة، وحتي الماضي لا يعود في مأمن من الحاضر الذي لا يلبث تذكره أن يسلمه إلي النسيان مرة أخري .

الذكريات السابقة الكثيرة للمهاجر تبطل في المجتمع الجديد الذي ينضم إليه، إنها تصير عديمة المعني والسياق وحديثه عنها قد يكون مسليا لبعض الوقت لكن غير مرغوب فيه وشاذاإن تكرر وطال لأنه يحتاج لشرح وتخيل أبعاد قد تستعصي علي مخيلة المستمع.

الخلفية تظل موجودة في فكر وفي تأملات وفي مشاعرالمهاجر لكنها لا تحيا ولا تتفاعل في ممارسته اليومية إن كان عنصرا فعالا في مجتمعه الجديد لأنه يجب أن ينسجم مع نظم وأعراف وثقافة من حوله.عليه أن يتحدث لغتهم ويواكب دواليب التواصل معهم .

في واحد من أجمل الكتب المتحدثة عن تجربة المهاجر والعودة يقول ميلان كوندرا: لنتخيل مثلا عواطف شخصين لم يلتقيا منذ زمن طويل؛ كانا في السابق أو لنقل في زمن مضي يلتقيان بكثافة ولهذا هما يعتقدان أن نفس الذكريات تجمعهما. وهنا يبدأ الخطأ: لأن الذكريات ليست نفسها عند كليهما فكل فرد يخزن ذكرياته بطريقته حتي الكمية التي تم حفظها ستختلف بينهما. أحدهما سيذكر الآخر أفضل والعكس صحيح.

عندما يسكن شخصان نفس المنزل ،يتقابلان كل يوم، يتقاسمان هموم ومسؤوليات ومشاغل اليوم فإن محاوراتهما اليومية ومايتشاركان فيه يخلق ذكرياتهما المشتركة ويجعلهما يتحادثان عن نفس التفاصيل الأمر الذي يكون تأكيدا علي أنهما يعيشان سوية. (من كتاب الجهل لميلان كوندرا). نفس المثل يمكن توسيع رقعته وجعل المهاجر ثابتا بعيدا ومجموعة أبناء بلده الأصلي ذلك الآخر الذي خزنت عنه ومعه ذكريات لكن التشارك غير المتجدد جعل الهوة تكبر والسلاسة في التعامل تصير أكثر تعقيدا.

المسافة التي تحاول وسائل الإعلام والقنوات الفضائية تقليصها بين البلدان وساكنيها قد تقصر نوعا ما مسهلة التواصل الفكري والمعرفي والثقافي لكنها أبدا لن تمزج ألوان الأوطان وثقافات البلدان خاصة دول الغرب والشرق.

لذا قد نجد خاصة عند المثقفين والفنانين الذين غادروا أوطانهم بعد مرحلة الشباب محاولة الإستيطان في كتابتهم وإبداعاتهم التي قد تفشل حين يتسلقون سلم النجاح العالمي أو لأقل تلك الحالة الكونرادية نسبة إلي جوزيف كونراد الكاتب الإنكليزي البولندي الأصل حين يقول: يقيم الكاتب بيتا… من لم يعد له وطن تغدو الكتابة بالنسبة إليه مكانا للعيش.. غير أن الحاجة لأن يتقسي المرء علي ذاته تنطوي علي الضرورة التقنية المتمثلة بمواجهة أي تراخ في التوتر الفكري بأقصي اليقظة، وإزالة كل ما يبدأ بتشكيل قشرة فوق العمل أو يسوقه إلي الكسل والتواني، مما كان في مرحلة سابقة قد أفاد، كما القيل والقال، في خلق الجو الدافئ المساعد علي النمو، لكنه تراجع الآن إلي الخلف.

في النهاية ليس يسمح للكاتب أن يعيش حتي في كتاباته .

وهل يعود المهاجر كما ذهب؟ حتما لا.. حتي وإن سكنه الوطن..

ايمان غور

ظلت تجربة الهجرة عبر العصور تجربة مميزة علي المستوي الفردي أو الجماعي وكما جمعت بين الجرأة والمغامرة والتحدي والمعاناة حملت في طياتها حكايات التيه واللاعودة.

أذكر أنني سمعت أحد الأساتذة المحاضرين يتمم تحليله بالتساؤل: و هل يعود المهاجر كما ذهب؟ .

نسيت السياق ونسيت اسم الأستاذ ومحور الندوة ولم يبق في ذاكرتي بعد كل هذه السنين (الندوة كانت عام 1994) إلا ذلك السؤال الذي يظل يزورني كل مرة كطيف أو كشيخ مخلص لموسم أو زاوية لا يثنيه عنها إلا الموت أو العجز القاهر.

كلما نزلت في ميناء أو مطار ببلدي وأخذني الوطن بين أحضانه إلا وتراودني تلك الجملة التي تتلوها علامة الإستفهام.

وكلما جلست بين زملائي وهم يحكون عن أحداث ميزت طفولتهم ومرت بها هولندا إلا وأحسست بتلك القطع المفقودة عندي لأنني أحمل معي قصصا أخري وأحداث مختلفة . في ذاكرتي مثلا: راية حمراء تتوسطها نجمة خماسية خضراء ترفرف فوق بيتنا في الأعياد الوطنية في تشرين الثاني (نوفمبر) وآذار (مارس)..

نصوص قرأناها عن زلزال أغادير؛ حكايات الجدة عن مجاعة ضربت المغرب وجعلت الناس يأكلون العشب .

وفي ذاكرة زملائي نكبات مشابهة لكن عوض الجفاف هناك فيضانات أغرقت قري هولندية وموت أتي به هتلر وأسماء أبطال سباقات التزحلق علي الجليد.

لا يمكننا أن نكون في مكانين مختلفين في آن واحد ولايمكننا أن نوقف الزمن والأحداث في أحدهما أو كما يقول أدورونو في المينيما موراليا: لقد بطلت كما نعلم حياة المهاجرين السابقة.

في السابق كان ما أعلن أنه غير قابل للتحويل وغير قابل للتطبيع هو مذكرة الإعتقال، واليوم هو التجربة الفكرية. كل ما هو غير متشيئ، ولا يمكن عده وقياسه، يكف عن الوجود.

غير أن التشيؤ إذ لا يكتفي بهذا، ينتشر باتجاه نقيضه، الحياة التي لايمكن أن تكون متحققة مباشرة؛ فكل ما يواصل العيش إنما يواصله كفكر وتأمل وليس غير. ولقد ابتدع من أجل هذا اسم خاص فهو يدعي الخلفية ويظهر علي الإستمارة كملحق، بعد الجنس والعمر والمهنة. ولكي يكمل إنتهاكه ، فإن الحياة تجرجرها سيارة الإحصائيين المتحدين الظافرة، وحتي الماضي لا يعود في مأمن من الحاضر الذي لا يلبث تذكره أن يسلمه إلي النسيان مرة أخري .

الذكريات السابقة الكثيرة للمهاجر تبطل في المجتمع الجديد الذي ينضم إليه، إنها تصير عديمة المعني والسياق وحديثه عنها قد يكون مسليا لبعض الوقت لكن غير مرغوب فيه وشاذاإن تكرر وطال لأنه يحتاج لشرح وتخيل أبعاد قد تستعصي علي مخيلة المستمع.

الخلفية تظل موجودة في فكر وفي تأملات وفي مشاعرالمهاجر لكنها لا تحيا ولا تتفاعل في ممارسته اليومية إن كان عنصرا فعالا في مجتمعه الجديد لأنه يجب أن ينسجم مع نظم وأعراف وثقافة من حوله.عليه أن يتحدث لغتهم ويواكب دواليب التواصل معهم .

في واحد من أجمل الكتب المتحدثة عن تجربة المهاجر والعودة يقول ميلان كوندرا: لنتخيل مثلا عواطف شخصين لم يلتقيا منذ زمن طويل؛ كانا في السابق أو لنقل في زمن مضي يلتقيان بكثافة ولهذا هما يعتقدان أن نفس الذكريات تجمعهما. وهنا يبدأ الخطأ: لأن الذكريات ليست نفسها عند كليهما فكل فرد يخزن ذكرياته بطريقته حتي الكمية التي تم حفظها ستختلف بينهما. أحدهما سيذكر الآخر أفضل والعكس صحيح.

عندما يسكن شخصان نفس المنزل ،يتقابلان كل يوم، يتقاسمان هموم ومسؤوليات ومشاغل اليوم فإن محاوراتهما اليومية ومايتشاركان فيه يخلق ذكرياتهما المشتركة ويجعلهما يتحادثان عن نفس التفاصيل الأمر الذي يكون تأكيدا علي أنهما يعيشان سوية. (من كتاب الجهل لميلان كوندرا). نفس المثل يمكن توسيع رقعته وجعل المهاجر ثابتا بعيدا ومجموعة أبناء بلده الأصلي ذلك الآخر الذي خزنت عنه ومعه ذكريات لكن التشارك غير المتجدد جعل الهوة تكبر والسلاسة في التعامل تصير أكثر تعقيدا.

المسافة التي تحاول وسائل الإعلام والقنوات الفضائية تقليصها بين البلدان وساكنيها قد تقصر نوعا ما مسهلة التواصل الفكري والمعرفي والثقافي لكنها أبدا لن تمزج ألوان الأوطان وثقافات البلدان خاصة دول الغرب والشرق.

لذا قد نجد خاصة عند المثقفين والفنانين الذين غادروا أوطانهم بعد مرحلة الشباب محاولة الإستيطان في كتابتهم وإبداعاتهم التي قد تفشل حين يتسلقون سلم النجاح العالمي أو لأقل تلك الحالة الكونرادية نسبة إلي جوزيف كونراد الكاتب الإنكليزي البولندي الأصل حين يقول: يقيم الكاتب بيتا… من لم يعد له وطن تغدو الكتابة بالنسبة إليه مكانا للعيش.. غير أن الحاجة لأن يتقسي المرء علي ذاته تنطوي علي الضرورة التقنية المتمثلة بمواجهة أي تراخ في التوتر الفكري بأقصي اليقظة، وإزالة كل ما يبدأ بتشكيل قشرة فوق العمل أو يسوقه إلي الكسل والتواني، مما كان في مرحلة سابقة قد أفاد، كما القيل والقال، في خلق الجو الدافئ المساعد علي النمو، لكنه تراجع الآن إلي الخلف.

في النهاية ليس يسمح للكاتب أن يعيش حتي في كتاباته .

وهل يعود المهاجر كما ذهب؟ حتما لا.. حتي وإن سكنه الوطن..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى