صفحات العالم

فرنسا العائدة ..إلى أميركا

سمير كرم
أخيراً مات الجنرال ديغول.
كيف والجنرال مات منذ ما يقرب من اربعين عاماً … بالتحديد في 9 تشرين الثاني/نوفمبر 1970؟
نعم. انما هذا هو حساب اليمين الأميركي للسياسة الفرنسية.. وإن كان لم يقل إن الديغولية ماتت أخيراً. في رأيهم أن الجنرال ديغول مات عندما قرر الرئيس الفرنسي الحالي نيكولا ساركوزي، في آذار/مارس الماضي ان يدفن قرار الجنرال بسحب فرنسا من القيادة الموحدة لحلف شمال الأطلسي.
وساركوزي بهذا القرار ـ حسب قول معلق اميركي ـ «بدأ يدفن روح ديغول وتراث الاستثنائية الفرنسية». وتشاء الصدف أن يأتي قرار ساركوزي في ذكرى مرور 43 عاماً على قرار ديغول الذي ـ حسب المعلق الأميركي ـ «ضرب بالشللوت» القوات الاميركية التي كانت قد حررت فرنسا من الاحتلال النازي في نهاية الحرب العالمية الثانية.
هذا القرار الديغولي الذي هز أركان المعمورة عندما اصدره رئيس الجمهورية الفرنسية الخامسة في 7 آذار / مارس 1966 ألغي بقرار لم يكد يسمع به احد خارج فرنسا، مع انه يعيد الضباط الفرنسيين الى مقر قيادة الناتو … بعد سنوات من مشاركة فرنسية فعلية في حرب الحلف في البلقان في اواخر التسعينيات من القرن الماضي وفي حرب الحلف الأخرى ـ بقيادة أميركا أيضاً ـ في أفغانستان …وهذه مستمرة منذ عام 2001 . ليس في ابتهاج اليمين الاميركي بعودة فرنسا الى قيادة الاطلسي الموحدة شيء يثير الدهشة او يبعث على المفاجأة, إنما الامر المفاجئ فعلاً ان قرار عودة فرنسا الى القيادة الموحدة لم يثر ضجة كتلك التي أثارها قرار ديغول في حينه.
لا نستطيع ان نستوعب هذا التناقض في رد الفعل إزاء الحدث ونقيضه الا اذا عرفنا الواقع والأسباب التي ادت الى صدور القرار الديغولي الذي سحب فرنسا من القيادة الموحدة لحلف الناتو ولكنه أبقى على عضوية فرنسا في الحلف.
لقد اتخذ هذا القرار في حينه ضمن استراتيجية ديغول العسكرية والسياسية التي تلخصها كلمة الاستقلالية. كان ديغول حريصاً كل الحرص على استقلالية القرار الفرنسي خاصة عن الولايات المتحدة التي استخدمت في رأيه كل ما لديها من اساليب الحرب الباردة لإخضاع اوروبا لخططها وقراراتها الاستراتيجية والسياسية. وهذا امر يعرفه من عاصر ذلك الزمن او قرأ عنه فيما بعد. لكن ديغول اتخذ القرار لا ليدافع عن مبدأ استقلالية القرار الفرنسي فحسب ـ على الرغم من اهمية ذلك ـ بل اتخذه لأنه كان قد توصل الى استنتاج قاطع بالنسبة له بأن الولايات المتحدة إنما تريد ان تضع فرنسا وباقي دول اوروبا الغربية «في وجه المدفع»… والمدفع هنا هو القوة النووية السوفياتية.
كان رأي ديغول، الذي بنى عليه قراره ان اميركا مستعدة للتضحية بفرنسا وغيرها من دول اوروبا الغربية أمام هجوم نووي كانت مقتنعة بأنه ممكن من جانب الاتحاد السوفياتي. وكان رأي ديغول انه لا يمكن الثقة حقاً بأن الولايات المتحدة يمكن أن تحمي اوروبا الغربية بما لديها في الترسانة النووية الأميركية. فإذا ما هاجم الاتحاد السوفياتي اوروبا بقوة كاسحة، واذا ما ردت الولايات المتحدة بمهاجمة المدن السوفياتية بأسلحة نووية، فإن السوفيات سيردون بهجوم مضاد على المدن الأميركية. وكان ديغول لا يصدق ان الرئيس الاميركي ( اي رئيس اميركي ) سيكون مستعدا حقاً للتضحية بمدينة شيكاغو ـ مثلاً ـ من اجل بون او التضحية بنيويورك من اجل باريس.
لهذا قرر ديغول ان يسعى لبناء قوة اوروبية موحدة مستقلة عن الولايات المتحدة وعن الناتو.
بل إن رأي ديغول في هذا الشأن لم يكن يقتصر على الاستراتيجية النووية وعدم الثقة بأميركا في حالة وقوع هجوم نووي سوفياتي على اوروبا. ذلك ان الاستراتيجيين الفرنسيين الديغوليين ـ امثال ريمون ارون وبيير غالوا واندريه بوفر ـ كانوا مقتنعين بأن القوات التقليدية (غير النووية ) الاميركية في اوروبا مبعثرة في القارة بحيث لا يمكنها الصمود بوجه هجوم تقليدي سوفياتي. بل كانوا مقتنعين بأن القوات الاميركية لا تبدي حساسية كافية تجاه مصالح فرنسا الامنية. ولهذا اتفق هؤلاء مع ديغول على ان منع الحرب او ردعها هدف ينبغي ان تكون له الاولوية من الناحية الاستراتيجية. ولردع السوفيات ينبغي إقناعهم بأن اوروبا ـ فرنسا بالدرجة الاولى ـ ستستخدم اسلحتها النووية لصد اي هجوم عليها حتى لو كان تقليدياً … اي غير نووي.
كانت هذه العقيدة بمثابة رد مباشر على ما اعلنه وزير الدفاع الاميركي آنذاك روبرت ماكنامارا من ان الولايات المتحدة ستبذل اقصى جهدها لتجنب استخدام الاسلحة النووية.
اوفدت الولايات المتحدة الى اوروبا آنذاك مستشاراً استراتيجياً بارزاً معروفاً بخبرته بالسياسات والاستراتيجيات الفرنسية ـ هو برنارد برودي ـ ولكنه عاد الى واشنطن مقتنعاً بوجهة النظر الفرنسية (…) وأدى هذا الى تكوين حالة عداء بينه وبين ادارة الرئيس ليندون جونسون في ذلك الوقت .. وزاد اقتناع واشنطن الرسمية بأن فرنسا الديغولية تكن عداءً اكيداً للولايات المتحدة. فلم يكن الخلاف حول الاستراتيجية النووية هو كل ما هنالك. انما كانت فرنسا من اشد المناهضين للحرب الاميركية في فيتنام. وتلك كانت قضية اميركا رقم واحد.
غني عن القول ان قرار ساركوزي بإعادة فرنسا الى قيادة الناتو الموحدة قوبل بمعارضة قوية من الديغوليين الفرنسيين، وكان ابرزهم الرئيس السابق جاك شيراك، احد اشد المعارضين لحرب اميركا في العراق من البداية. وقوبل قرار ساركوزي ايضا بمعارضة قوية من اليسار الفرنسي الاشتراكي والشيوعي على السواء.
اعلن ديغول في اعقاب تنفيذ قراره انه يستطيع الآن ان يرى «السيادة الفرنسية قد استعيدت كاملة».. لكن الساركوزيين يعتقدون ان ذلك القرار لم يكن منطقياً لأن ديغول حرص على ان تبقى فرنسا في عضوية حلف الناتو، بل حرص في مناسبات مختلفة على ان يظهر ان فرنسا تقف مع الولايات المتحدة وليس ضدها في الازمات. وهو ما حدث ازاء ازمة برلين عام 1961 وفي ازمة الصواريخ السوفياتية في كوبا عام 1962. وكان للديغوليين واليسار الفرنسي فيما بعد رأي آخر وهو ان من واجب فرنسا ان تنسحب كلية من عضوية الحلف. وهو رأي اعلنه بعض مرشحي الرئاسة الفرنسية الاخيرة التي فاز فيها ساركوزي.
كان كل ما برر به ساركوزي قراره بالعودة الى القيادة الموحدة لحلف الاطلسي ان الولايات المتحدة التي قاومت بكل ما لديها من قوة مشروع تكوين قوة اوروبية موحدة ومستقلة عن القيادة الاميركية اصبحت تؤيد هذه القوة، وقد استند في ذلك الى خطاب للرئيس الاميركي آنذاك جورج و. بوش في العام الماضي …حتى ان صحيفة «لوموند» الفرنسية حذرت في افتتاحية لها من ان «خطاب بوش هذا ليس اكثر من خطاب … ويتعين على السيد ساركوزي ان يطلب ضمانات اميركية وليس مجرد خطاب».
مع ذلك يبدو ان مبررات ساركوزي ليست كلها معلنة … او بالأحرى ليست كلها من النوع الذي يمكن اعلانه.
وهذا الذي لا يمكن اعلانه من مبررات قرار ساركوزي، له علاقة بالشرق الاوسط اكثر مما له علاقة بأوروبا واستراتيجية الدفاع عنها.
ان قرار ساركوزي يتعلق بالخطط الاميركية ـ والاطلسية ـ لتوسيع مسرح عمليات حلف الناتو، ليس فقط في اوروبا باتجاه الشرق اي اقتراباً من روسيا، انما ايضاً للتوسع بالحلف ومسؤولياته في منطقة الشرق الاوسط والخليج … حيث المصالح الاستراتيجية المشتركة للأوروبيين (الفرنسيين خاصة ) والاميركيين. ولا يريد ساركوزي ان تفقد فرنسا فرصة الدخول مع اميركا والاطلسي في مناطق جديدة لها اهميتها الاستراتيجية لها ..ربما اكثر مما للولايات المتحدة. فإن المصالح النفطية تشكل الدافع الرئيسي وراء التوجهات الجيوبوليتيكية لحلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة. وليس بعيدا عن هذه الغايات الاتحاد من اجل البحر المتوسط الذي انشئ بمبادرة من ساركوزي ولا يزال الصمت يحيط به.
واذا كانت فرنسا ـ على الرغم من قناعات جماهيرها العلنية بعكس ذلك ـ قد واصلت تطبيق الاستراتيجية الاميركية في افغانستان، فإن لذلك دوافعه التي تتعلق بأهداف اوسع من افغانستان و«الحرب على الارهاب». ان فرنسا ساركوزي تضع نصب عينيها مشاركة الولايات المتحدة في غنائم هذه الحرب ابعد من ذلك في منطقة الخليج والشرق الاوسط والشمال الأفريقي.
إن الجذور التاريخية للسياسة الفرنسية تجاه الشرق الاوسط، التي ارسى اسسها الجنرال ديغول، قد قامت على معارضة التأييد الاميركي المطلق لإسرائيل ضد المصالح الغربية لدى العرب، تتعرض الآن لتراجعات اساسية باتجاه التضامن مع السياسة الاميركية لاحتضان اسرائيل في كل الظروف والاحوال. وينبغي التنبه الى الدور الذي لعبته فرنسا ـ في حد ذاتها وفي اطار الاتحاد الاوروبي ـ إبان حرب اسرائيل على غزة.
وتبدي فرنسا ساركوزي حرصاً قوياً على ان يكون لها دور في اقناع الدول العربية «المعتدلة» بأهمية دور الناتو في المنطقة، وهو ما يتضح في علاقة ساركوزي القوية مع الرئيس المصري حسني مبارك والعاهل السعودي الملك عبد الله وعاهل الأردن بالمثل. ولعل نقطة الارتكاز التي عنيت فرنسا بشكل خاص بأن لا تغيب عنها تتمثل في المذكرة/الاتفاقية التي وقعت في الساعات الاخيرة من عهد ادارة بوش الاميركية بين كوندليسا رايس وزيرة الخارجية الاميركية وتسيبي ليفني وزيرة الخارجية الاسرائيلية، والمتعلقة بمراقبة ومنع تهريب الاسلحة الى غزة. وقد نص فيها على دور لحلف الاطلسي. وليس من المتصور ان يكون قد نص على هذا الدور دون معرفة وموافقة من جانب فرنسا. بل يكاد يكون من المؤكد ان فرنسا شاركت في إقناع القاهرة بعدم معارضة هذه الاتفاقية. لهذا اكتفت وقتها بالقول إنها غير ملزمة لمصر. وهو موقف اقرب الى التهرب من المسؤولية، مع ان الاتفاق يتعلق بمناطق حدودية مصرية وبمياه إقليمية مصرية.
[[[
ربما لا يوجد في العالم بلدان يفصل بينهما محيط بأكمله ويرتبطان برباط قوي كالذي يربط بين اميركا وفرنسا …لكنه رباط مزدوج قام دائماً على تناقض الحب والكراهية بينهما. قليلون من الأميركيين يعرفون ان تمثال الحرية الذي يقف في مدخل نيويورك ويرمز الى اميركا اكثر من أي رمز آخر هو هدية فرنسية الى اميركا الثورة، وأن فرنسا ساعدت اميركا كما لم تساعدها دولة اخرى في نيل استقلالها. وقليلون في اميركا يعرفون ان ثمة شعوراً فرنسياً بالازدراء تجاه اميركا المادية المحبة للحرب والمتعجرفة …التي لم تتعرف بما يكفي على الحضارة في طريقها الى التقدم الصناعي والتكنولوجي. وأميركا تعتقد انها حررت فرنسا وكل اوروبا من النازي … ولكن احداً لا يعترف بالجميل.
الاحداث تدفع بالبلدين نحو مزيد من الحب ومزيد من الكراهية. وقد لعب الجنرال ديغول اكبر الأدوار في فرنسا الحديثة في تكوين هذا الشكل المزدوج من العلاقة. ويخطئ الاميركيون اذا ظنوا ـ مع من ظن ـ ان الجنرال ديغول مات لمجرد ان رئيساً فرنسياً تراجع عن قرار سحب فرنسا من تحت القيادة الاميركية … فليست هذه نهاية المطاف في تلك العلاقة المعقدة.
([) كاتب سياسي عربي من مصر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى