صفحات سورية

لا شرعية عندنا إلا تلك الصادرة من سديم الفوضى

null

صالح بشير

ليس للشرعية في بلداننا من مناط قائم معلوم مُجمع عليه. وذلك لعمري (إن التمسنا لقولنا «شرعية» في عتيق المفردات) من البدائه المبتذلة. فالشرعية، في منطقتنا، لا تجسدها ولا تنهض بها مراتب أو مؤسسات، من دولة أو سواها، بل هي سائبة، يستحوذ عليها كل من ادعى «مقاومة» أو انتدب نفسه لـ»تحرير»، حسبه أن يبادر، محرِّرا أو مقاوِما، حتى يعلق كل قانون مستتب، حتى يتجاوز كل سلطة قائمة، حتى يبطل كل نظم مرعية، طوعا أو إكراها، وحتى يرسي حالة استثناء، تكون له فيها الكلمة الفصل، وهو المتسامي الصادر عن مبدأ أعلى، خارق للعاديّ وللمطّرد، جابّ لكل ما عداه.

«حزب الله» اللبناني مثال كلاسيكي على ذلك، و«تنظيم القاعدة» أيضا. فالأول يبادر بالحرب أو بما يستدرج الحرب، شأن ما فعله في صائفة 2006، دون أن يرى في ذلك لزوما لاستشارة الدولة اللبنانية (ناهيك عمن يمثلون طوائفها وفئاتها)، سالبا تلك الدولة ما يُفترض أنه، وفق القوانين والأعراف الدولية، إحدى صلاحياتها الأولى والتكوينية، مستندا إلىص تلك «الشرعية» التي يراها مطلقة، تؤسس الإجماع بمجرد التعبير عنها ومزاولتها فعلا، ولا تتطلبه شرطا مسبقا. ثم إنه أعاد الكرة في الفترة الأخيرة، اجتياحا لبيروت كاد يفضي إلى الحرب الأهلية، استنادا إلى نفس تلك «الشرعية المطلقة»، وهذه، تخوله، في نظره، مماثلة خصوم الداخل بأعداء الخارج، فتجوّز بذلك «مقاومتهم».

أما الثاني، أي «تنظيم القاعدة»، فقد تحول من تيار كان من فولكور الحياة السياسية في المنطقة، هامشيا قصيا بدائي الخطاب، حتى قياسا ببقية حركات الإسلام السياسي، إلى تنظيم يحتل موقع الصدارة، حظي وربما لا يزال يحظى، بتعاطف شعبي حقيقي وواسع، وأضحى قوة ماثلة الوجود تفرض على سائر التيارات الأخرى أن تتحدد قياسا إليها، اعتراضا أو تزكية، ناجزتين أو بهذا القدر أو ذاك، وامتد تأثيره واستفحل، بل استحوذ على تمثيل الإسلام السياسي وربما الأمة الإسلامية في اعتقاد العالم، الذي ما عاد ينظر إلى تلك الأمة إلا من زاوية «تنظيم القاعدة». كل ذلك لأن هذا الأخير، ارتكب فعلة 11 أيلول (سبتمبر)، وهي في نظره فعل «جهاد» و»مقاومة»، تصدُر بدورها، وبصفتها تلك، عن «شرعية مطلقة»، مكتفية بذاتها ليس لها أن تأخذ أي ظرف أو واقعة، بعين الاعتبار، تستمد من سطوتها تلك ما يخولها إرساء حالة استثناء على صعيد الأمة والكون.

هما مثالان أقصيان عن ظاهرة هي من السمات الملازمة والتكوينية، الضرورية (بمعنى غير العرضية) لاجتماعنا، ما انفكت تتبدى، بأشكال متفاوتة ومتباينة، من الحرب الأهلية الجزائرية طوال العقد الأخير من القرن الماضي، إلى عراق أيامنا هذه، إلى حالات أخرى كثيرة، متفاوتة الفداحة، علما بأن التفاوت ذاك يتعلق بـ»الكمّ» أكثر مما يعني النوع.

يعود بنا ذلك إلى طرح موضوع طالما تناولته الأقلام والألسن، هو الذي دأب على تشخيص ما يعتبره الكثيرون «أزمة فقدان للشرعية» تعاني منها كيانات العرب (قياسا إلى وحدةٍ مفترضة) وأنظمتهم، وسائر مؤسساتهم مهما كانت. والحال أن التعليل هذا يلوح، لدى التمعن فيه، سهلا ينزع إلى التبسيط، يحيل واقعا بالغ التعقيد إلى سبب أوحد، يُتوخّى مبدأً. إذ ليس صحيحا أن كل الكيانات وكل الأنظمة وكل المؤسسات عديمة مقومات الشرعية، إن اعتمدنا تلك المعتادة منها، بحيث ربما كان السؤال الأسلم والأجدى والأكثر نفاذا، هو: لماذا تخفق مقوّمات الشرعية تلك، متى ما توافرت، في إضفاء الشرعية، التي تبقى من نصيب قوى الانشقاق (وهذه ليست رديف «المعارضة» ضرورة)، تستحوذ عليها وتستنهضها أنى شاءت؟

ذلك أنه ليس صحيحا أن الكيانات القائمة في المنطقة ناجمة عن مبضع أعمله كل من سايكس وبيكو في أعقاب الحرب الكونية الكبرى، حسب «سرديّة» أضحت البارديغم المفسر «للتجزئة» العربية، يتبناها حتى من لم يكن معنيا بها واقعا وتاريخا. وذلك أمر لافت بليغ الدلالة يفيد بتحول تلك الواقعة العينية، المحددة زمانا (انهيار الإمبراطورية العثمانية) ومكانا (بلاد الشام) إلى مقولة إيديولوجية تدّعي الشمول. بين بلاد العرب كيانات تاريخية، لم تقطع مع أمة الإسلام ثقافة وعقيدة، ولكنها استوت منذ أمد طويل حيزا «وطنيا» (مع ما في اعتماد هذه العبارة من مخاطر إسقاط مفهوم راهن حديث على واقع سابق ما قبل حداثي)، يصح ذلك، مثلاً، على مصر، كما على المغرب وتونس. فهذه الأخيرة مثلا، عندما سنت في 1846، أي قبل حلول الاستعمار بنحو أربعة عقود، قانونا يحظر الرقّ، أفردت بندا يقضي باعتبار كل عبدٍ يفد إلى البلاد من خارجها، حراً، ما لا يعني فحسب إرهاصا بفكرة الحرية بمعناها الحديث، بل كذلك إرهاصا بفكرة الوطن، لا تقتصر على اعتباره مجرد حيز ترابي أو مجال غلبة.

أما الأنظمة، فليست من ناحيتها، عديمة مقوّمات الشرعية كلها، إذ لم تتمكن كلها اغتصاباً وسلطاتِ أمر واقع. بعضها يكتسب شرعية تاريخية لا جدال فيها، استمدها من استمرارية طال أمدها فاستتبت ما لم يأت ما ينقضها، أو لأنه نتاج حركة وطنية، قارعت الاستعمار وظفرت بالاستقلال وبدولته تاليا، وبعضها يكتسب شرعية دينية، بل منها من تتضافر لديه مقومات الشرعيتين أو مصادرهما، شأن العرش المغربي، الذي قاد حركة التحرر من فرنسا ويحوز في الآن نفسه على «إمارة المؤمنين»، فهو «قائد» و«إمام». وربما ذهبنا أبعد وسحبنا الأمر على مؤسسات ليست سلطوية بالمعنى المباشر، إذ هل من شك، مثلا، في أن مؤسسة كـ«الأزهر الشريف»، حائزة على كل مقومات الشرعية، التاريخية والدينية، ولكنها تظل عرضة للتجاوز من قبل كل من قد يتولى الإفتاء، تنطعا وتطاولا، مستمدا من صفة «جهادية» أو «مقاوِمة» يدعيها شرعية يراها هو، ويراها أتباعه المفترضون، ناجزة في ذاتها ولذاتها وبمجرد النطق بها؟

ما يمكن استخلاصه من كل ذلك، أن المشكلة ليست في انعدام الشرعية، على ما درجنا على القول، بل في أن مقومات الشرعية، حتى متى ما وجدت وتوفرت، لا تفي في إضفاء الشرعية. وذلك أدهى وأنكى من مجرد انعدام الشرعية (فالانعدام ذاك قد يكون قابلا للتلافي والاستدراك)، لأنه يفيد بلاشرعية فكرة «المؤسسة» في ذاتها، ومهما كانت، كيانا أو دولة أو سواهما، ويحيل إلى الفوضى وقواها التهديمية. لعل ذلك ما يفسر أن خطاب التحرر الوطني، كما صيغ أثناء الحقبة الاستعمارية، يبقى ساريا طاغيا إلى اليوم، لم تهتد «نخبنا» إلى اجتراح سواه، ولم تفعل مختلف التيارات السياسية، من يسارية وقومية وإسلامية، غير استعادة مقولاته الأساسية وإن اختلفت الصيغ وتنوعت. ذلك أن الخطاب ذاك، لا يزال قابلا للتوظيف، ناجعا، في نسف الأنصبة القائمة، تُرفض، كيانات وأنظمة وهيئات، بواسطة مماهاتها بالعدو الخارجي، فإذا هي صنيعة له أو عميلة أو سائرة في ركابه.

وهكذا، ووفق المنطق هذا، لا يمكن لشرعية أن تتطابق مع مؤسسة، قائمة أو ستقوم، ولا يمكن للمعارضة إلا أن تكون فعل نقض وانشقاق، عنيف مبرم، وهو ما لا يتورع عنه حتى الساعون إلى الديموقراطية يطلبون المشاركة من ناحية ويتفوهون بخطاب القطيعة والتخوين من ناحية أخرى. وهو أيضا ما تغذيه بطبيعة الحال أنظمة، هي من حيث «الثقافة السياسية» من نفس الطينة.

… «ثقافة سياسية»؟ قد لا يصح القول هذا على شأننا العام، إذ هو دون السياسة، بمعناها الحديث، بل قد لا يعدو أن يكون استعادة رثة لما كان قد شخصه ابن خلدون، عصبية حاكمة تتربص بها أخرى طامحة في الحكم، حيث لا «شرعية» إلا لمن اكتسب أدوات العنف، تسلطا أو انقلابا، أي لا شرعية إلا تلك الصادرة من سديم الفوضى، وحيث يتعذر اجتراح شرعية «مدنية»، إن جازت العبارة، مجمع عليها.

الحياة – 18/05/08

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى