صفحات مختارة

أزمة الثقافة العربية في عبء التراث وتيه الحاضر: ملامح المشروع الفكري لبرهان غليـون

زهيـر توفيـق
يعتقد د. برهان غليون ان فشـل النهضـة العربيـة والصراع بين الحداثـة والتقليد لا يفهمان الا في دراسة النسـق الثقافي العـام؛ اي دراسة الثقافة العربية بمنهج تـاريخي، ورفض المنـاهج السجـاليـة والايديولوجيـة الأخرى التي لم تفسر الأزمة والفشل تفسيرا علميّـا، بعكس المنهج التـاريخي الذي يعود الى جذور الأزمـة الثقافية، وهي الصدام بين المدنيـة الغربيـة والمدنيـة العربيـة، او التناقض بين الذاتيـة (الأصالـة) وبين المعاصرة (الحضـارة الغربيـة).
ويعتقد غليون ان أزمة الثقافـة والنهضـة لم تكن مجرد أزمـة في التفكير وأنمـاط العقل؛ بل هي انعكاس لأزمة الفعل العربي والنظـام السياسي الذي يعـاني أزمـة مفتوحـة على جميع الاحتمـالات السلبيـة، وخاصـة التفكـك، وتحول السيـاسـة الى ثقافـة، والثقافـة الى سيـاسـة، وأمـا مصير النهضـة اليوم فهو معلق بالاحتفـاظ الحي بين عمليـة احيـاء التراث (الهويـة الذاتيـة) وبين استيعـاب الحضـارة، ولا يوجد تنـاقض بينهمـا.
يرفض غليون المواقـف الحديـة من السلفيـة او التغريب، التي تستهدف كـل منها الغـاء الطرف الآخـر؛ بل يدعو للحفـاظ على هذا التوتر والصراع الحي بين الطرفين، لأنه مصدر تحول الحضـارة الى مدنيـة في الثقافـة العربيـة، وتحول التراث الى هويـة ديناميكيـة ينحـاز الى التقدم والحريـة، والتغير المنشـود هو تحرير العقل اولا بتحرير الثقافـة من القيود السياسيـة والايديولوجيـة التراثيـة التقليديـة والحداثـة المشوهـة.
الدولة القطرية: فشل مشروع التحديث
ويرجع د.غليون جذور الأزمـات الحضارية العربية الى الأزمـة التاريخيـة التي تعود جذورهـا الى العهد العثمـاني عندما تطـلع العرب للتحديث، وتدخل الغرب وأجهض محـاولات محمد علي بـاشـا وغيره، وأسقط مشـروع التقدم، وقـامت على أنقاضـه الدولـة العربيـة القطريـة الناشئـة بعد الاسـتقلال، التي نجحت في فرض إرادتها على المجتمع بتطوير وسائل تحكمهـا به، وأسقطت نفسهـا في فخ المماثلة والتقليد للنموذج الغربي، فعملت على نقل مفهوم التقدم كما هو بغض النظر عن سياقه التاريخي الخاص في الغرب، فانفصلت النخبـة الحاكمـة بقيمها الغربيـة عن المجتمع التقليدي، ففشلت في تحديث مجتمعها.
ولم يتوقف الانفصام بين سلطة النخبة والمجتمع؛ بل امتد الى قطيعة أخرى بين الدولة والأمة، وبدا المجتمع الراهن مهزوما فاقدا لتوازنه او لأهدافـه التي تبرر وجوده ومشروعيتـه. ولا يستبعد غليون الحروب الأهلية والتمزق الاجتماعي بسبب انهيار التوازنات الاجتماعيـة، وتواصل الاستبداد والقمع الذي جرد السلطة والدولة العربية الحديثتة من شرعيتها، وبدت عارية من كل شيء الا من القوة والقمع ضد مواطنيهـا.
ويعتبر د.غليون ان الحريـة والديمقراطية والتصنيـع هي مفـاتيح التقدم واستعـادة الوعي الحضـاري والنهضـة.
اغتيال العقل: الحضارة مجرد تقنية!
أبرز كتب غليون “اغتيـال العقـل” (الصادر عن دار التنوير سنة 1985)، ويقصد بالعبارة اغتيال العقل؛ مجموع المحـاولات التي تسعى الى استبعـاد عنـاصر الخبرة الروحيـة والعقليـة المعـاصرة عن النظريـة والممارسـة، مما خفض مستوى العقل وجعله مجرد ايديولوجيـا والوعي الى حس أعمى، والحضارة الى مجرد تقنية؛ اي تجيير الثقافة التي هي مجال الوعي والحريـة الأول للسيـاسـة اليوميـة، وجعلهـا أداة لاحراز مواقع اجتماعيـة والغاء استقلالهـا النسبي، ومن ثم الغـاء شروط التفكير الحر والوعي الايجابي، وقطع الطريق على كل تغيير وعلى كل نهضـة.
يحاول د.غليون الخروج من الأزمة الفكرية التي تلف الثقافة العربية منذ عصر النهضة؛ اي منذ الاصطدام مع الغرب حينما واجهت الذات العربية التغيرات التي فرضت عليها، وقسمتهـا الى تيارات فكرية متباينة: التيار السلفي الذي وحد الأصالة بالدين، والتيار الحداثوي الذي وحد المعاصرة بالعلم، والحضارة بالتقنية، والتيار التوفيقي الساذج. وبعد تشخيص أزمة الثقافة والعقل من خلال عقم التيارات في مقاربة الواقع وتجاوز الأزمة، يطرح د.غليون تصوره خارج هذه الثلاثية من خلال الانخراط في نهضة عربية تكون بمثابة مشروع لتحقيق الذات العربيـة وهويتهـا الحضارية بمعنى الابداع، ويشير الى ضرورة السـير بخطين متوازيين بين التمسك بالهـوية، والبحث عن الحداثة والمعاصرة.
ويشير د. غليون الى ان طرح المشكلة الثقافية ترافق مع بروز أزمـة الهويـة التي اكتسبت ابعادا أخرى بالصراع القائم بين الحداثـة والتقليد، وتستهدف محاولـة د.غليون اختراق ما هو ظاهر من الصراع الدائر بين التيـارات الفكريـة والمسـاجلات والايديولوجيـا الى تفعيل العقل التحليلي في قراءة للواقع وأزمتـه الثقافيـة.
رداً على أركون والجابري
يمكن وصف مشروع د.غليون بأنه محاولة للرد على المشاريع النقديـة للعقل العربي الاسلامي، التي راجت منذ فترة لنقد آليـات العقل العربي الاسـلامي كمـا هو عند الجـابري او اركـون، وإعـادة قراءة الأزمـة الحضاريـة الشاملـة في الوطن العربي، مركزا على المسألة الثقافيـة، وهي الحصن الأخير للذات العربيـة لكشف البنيـة التناقضيـة العميقـة للوعي العربي الحديث ممثلا بنفي الذات والتمـاهي والامتثـال للآخر او تحقير ونفي الآخر، والانغلاق على الأصـول والشعور بالكفايـة الذاتيـة.
ومـا الأزمـة التي تعيشهـا تلك التيارات الفكرية العاملة في الساحة الثقافيـة العربيـة الا جزء من الأزمـة الحضاريـة العامــة، التي تتمثل في عجزنـا عن الحفـاظ بذاتنا الحضاريـة والاندمـاج في النظام الحديث من موقع المشاركة الايجابيـة، وفي ظهور التوفيقيـة التي تسعى لدمج قيم الحضـارة الحديثـة بقيم التراث من دون جدوى، والصراع الى حدود النفي المتبادل بين تيـارات السلفيـة وتيـارات الحداثـة الذي يعكس أزمـة المجتمع وانغـلاق آفـاق التطور.
ومجمل الفكر العربي مؤسـس على هذا التنـاقض، اما الحضـارة الغربية فقد همشت الحضارات الأخرى، ومنها الحضارة العربيـة الاسلاميـة، مما أدى الى افقارها وتفجير تناقضاتها وتوازنـاتها العميقة، وعليه فالثقافـة العربيـة ليست مصدر الأزمـة الحضاريـة بل هي تعاني ما يعانيه المجتمع، وليس الحل التخلي عن القديم او محاربـة الجديـد؛ بل يكمن الحل في اخراج المجتمع العربي عمومـا من أزمتـه الحضارية، وهذه المسألة تتجاوز الثقافـة، وتتعلق باستراتيجيـات سياسيـة واقتصاديـة وثقافيـة كبرى.
أما النهضـة الثقافيـة فلا تتم بإلغاء الصراع بين الأصالة والمعاصرة، بل بالمحـافظة على توتره الخلاق المحفز على التقدم، فهو في النهايـة لا مع الحداثـة، ولا مع التقليد، بل مع هذا التوتر المبدع والجدل التـاريخي مع نقده العميق الذي لا يهـادن لواقع التحديث المدمّر والتقليد المفقر.
ويعتقد د.غليون ان الجديد بالوعي الذاتي العربي في عصر النهضـة هو شعور العرب بضرورة إقـامـة كيان سيـاسي يغطي المنطقـة العربيـة، وخاصة وان الدولة العثمانية كانت عـاجزة في ذلك الوقت عن صد التهديد الاوروبي، وامـا التفسيرات المطروحـة منذ ذلك الوقت عن أسبـاب الإخفـاق وعوامل التقدم فـأكثرها تفسيرات جزئية قـاصرة عن مقاربة الواقـع كمـا هـو، مثل الحديث عن مسـؤولية الأتـراك عن تـأخر البـلاد العربيـة، وهو موقف مؤسـس على الكراهيـة العربيـة لتركيـا الحديثـة، التي اختـارت طريق العلمانيـة والحداثـة والروح القوميـة، وفرضت على العرب ان يكونوا مستعمريـن لا شركـاء.
الديمقراطية ضرورة سياسية ويومية
ويربط د.غليون بين أزمة الديمقراطية والوعي السياسي للتيارات الفاعلة في الساحة العربية، فالحركة القومية تصورت المجتمع العربي موحدا سلفـا، وأشـاحت بوجهها عن التعدد والاختلاف وتضارب المصالح، واعتبرت الديمقراطية أداة لتقسيم الشعب الواحد، وبالتالي فلا مانع من إلغـاء او تجميد الديمقراطية لتحقيق الوحدة، ولم تفعل التيـارات السلفيـة الاسلاميـة او الماركسيـة مـا هو أقل من ذلك ضد الديمقراطية، ويحمل د.غليون الغرب الرأسمالي والاستعمار استمرار الاستبداد، وغياب الديمقراطية، لأنه لم يترك للشعوب العربيـة فرصـة التعبير عن ذاتهـا، أو تنمية هياكـلهـا السياسيـة والاجتماعيـة، وتحقيق الحد الأدنى من التوازن بين هياكلهـا ومتناقضاتهـا.
ويشـير د.غليون الى ضرورة تحويـل الديمقراطيـة الى منطق للتعـامل مع الشـعب، وفيما بين الأحزاب والفئـات الاجتماعيـة؛ اي تحويلهـا لطريقة حيـاة تشمل جميع النواحي السياسيـة والاجتمـاعيـة، ولا يمكن بناء ديمقراطيـة تعيش ويكون لها مستقبل ان لم تحقق الحد الأدنى من العدالـة الاجتماعيـة، ومن العدالـة بين الطبقـات والجهـات والطوائـف في الدولـة.
كما يشير د.غليون الى ان تراكم التقنيّات والمصنوعات في الحيـاة العربيـة لم يخلق في مجموعه مجتمعـا صنـاعيـا؛ أي منظومة متكـاملـة ثقافيا وسياسيا واقتصاديا، يستطيع المجتمع العربي من خلالها إعادة هيكلة نفسه على أسس جديدة، وبقيت التقنيـة والتنميـة الصناعيـة لا تتعدى عملية نقل التكنولوجيـا، وغابت عن الأذهـان مسـألـة تطوير العلاقات الاجتمـاعيـة المطابقـة للتقدم العلمي، وإفسـاح المجـال للبحث العلمي المنظم، وترسيخ مؤسسـاته النظريـة والتطبيقيـة، مما أدى الى ظهور عقليـة استهلاكيـة ميكانيكية لفهم التطور والتقدم، ولم تساعد تلك العقلية الا في نشوء نظم استبداديـة على أسـس جديـدة، أكثر صلابـة ومتـانـة، قـادرة على السيطرة المطلقة على المجتمع، وإخضـاعه لمصالحهـا الفئويـة، أمـا على صعيد المجتمع فلم تخلق التقنيـة المسـتوردة مجتمعـا صنـاعيـا؛ بل تحول المجتمع العربي، كمـا يقول د.هشام شـرابي، الى مجتمع بطريركي حديث؛ اي مجتمع يعـاني من عجز وتشوهـات تجعله غير قـادر على الحياة والنمو المتوازن.
ومن أبرز مظـاهر العجز والكسـاح كما يتصور د. غليون الخروج من الحقبـة الاستعماريـة، وبقاء أكبر جيب استعماري واستيطاني ما يزال موجـودا في الوطن العربي، ويقصد اسـرائيل، ولا يوجد برأيه أي أفق لاستيعاب هذا الاحتـلال او الرد الفعّـال عليه.
وعن التهميـش التاريخي للعـالم العربي، يقول د.غليون: ان استجابة النخب العربيـة السائـدة لتحديـات ومهام الثورة التقنية الحديثة اتسمت بالسطحيـة والعشوائيـة، واتباع الوسـائل التقليديـة الموروثـة من الثورة الصناعيـة، وخضعت لخطط ومخططات الدوائر الاقتصادية والسياسية الغربية، وبالتالي فلم يحصل أي توطين لأي عنصر من عناصر الثورة التقنية الحديثة في عصر العولمة.
* كاتب وباحث أردني
الغد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى