صفحات العالمما يحدث في لبنان

كلفة إنتاج النائب: من الزفت إلى النفط

فواز طرابلسي
الانتخابات على الأبواب.
الذين لم يلاحظوا بعد أن الموعد المصيري بات داهماً من لعلعة الرصاص خلال الاشتباكات في أحيائهم، تذكّرهم به زحمة السير الخانقة عند مداخل العاصمة والمدن الرئيسية. ورشات الحفر والردم والتوسيع ومدّ الأنابيب والتزفيت تجري على قدم وساق. تقول للمواطنين بأن الدولة هنا للاهتمام بهم. ومَن في الدولة معني بشؤون المواطنين أكثر من النواب، وأكثرهم مرشّح للدورة الجديدة؟
والمعلوم أن النائب يتقاضى أكثر من سبعة آلاف دولار شهرياً، معاشاً وتعويضات، للاهتمام بالمواطن. ولمن لا يعرف بعد، فمرتّب النائب اللبناني هو الأعلى بين مرتّبات النواب في العالم قياساً على الحد الأدنى للأجور. على أن هذا المبلغ هو أول كلفة يكلّفنا إياها الذي يفترض به تمثيلنا. وما دمنا في حديث الزفت، ثمة ميزانية أخرى للزفت مخصصة للنواب. يتقاضى النائب فوق معاشه الشهري والتعويضات مبلغ مئة ألف دولار أميركي خلال كل سنة من سنوات ولايته الأربع. هذا المبلغ مخصص لأعمال «التزفيت» الخاصة يتولاها النائب في دائرته. هكذا يدفع المواطن، من ضرائبه، لنواب كل مجلس نيابي ما يوازي عشرين مليون دولار أميركي لأغراض تزفيت… طرقات الوطن التي لا تزفّتها الدولة. إنها إكرامية خاصة من النائب إلى المواطن، من دون جميل الدولة.
فلعل أول واجبات الناخب أن يسأل نائبه كيف تصرّف بهذه المبالغ خلال الأعوام الأربعة الأخيرة من نيابته… عنه.
لكن المشكلة هنا أن على المواطن أن يعتاد على حقيقة أن المقتطع من ضرائبه يفي النزر اليسير من كلفة إنتاج النائب. هناك ما يسمّى «المال السياسي» وهو من شقين: داخلي وخارجي. أما الداخلي، فقد ارتفعت أكلافه على نحو شاهق في الانتخابات الماضية والحالية. ترسملت الحملات أكثر فأكثر. لست متأكداً من أن سعر الصوت، أو بدل سيارات نقل الناخبين، قد ارتفع بما يوازي ارتفاع كلفة المعيشة. لكن المؤكّد أن زمن الشبّان المتطوعين يلصقون صور المرشح بالأسود والأبيض على الجدران بواسطة النشاء أو الصمغ قد ولّى إلى غير رجعة. فحملات الدعاية الانتخابية قد انتقلت لأيدي شركات متخصصة في الإعلان والعلاقات العامة، تتقاضى عشرات الملايين لقاء أن تصوغ الشعارات السياسية، وتقرّر الألوان، وترسم «اللوغو»، وترفع اللافتات، وتطبع الصور الجبارة لا تتبارى في ما بينها بواسطة اللون والحجم وحسب بل تتبارى أيضاً مع أعلى البنايات التي تُرفع عليها.
على أن الإكثار من الحديث عن «المال السياسي» يجب أن لا يصرفنا عن «المال الاقتصادي». عنينا الأموال التي يدفعها رجال الأعمال ومؤسساتهم، والمصارف خصوصاً، على الانتخابات. وهذا موضوع نادراً ما يجري الحديث عنه. والأرقام التي تدفعها المصارف في تمويل الحملات الانتخابية ـ من بنك فرعون ـ شيحا زمن العهد الاستقلالي الأول، إلى بنك المتوسط حالياً ـ كأنها مشمولة بقانون «السرية المصرفية»! في هذا المضمار، لا بد من ملاحظة الزيادة النوعية في عدد رجال الأعمال في التمثيل النيابي، والحياة السياسية عموماً، أكانوا من أبناء العائلات التجارية ـ المالية المتحكّمة بالاقتصاد منذ أيام الاستقلال، أو من حديثي النعمة من أثرياء الاغتراب، أو زعماء الحرب (لا يستحقون لقب أمراء) وقد تحوّلوا إلى رجال أعمال. فمنذ نهاية الحرب، ثمة اندماج متزايد بين عالم الأعمال والعالم السياسي. من مرجعيون إلى طرابلس، مروراً بالنبطية، والجبل، وصيدا وبيروت، لا تكاد تخلو لائحة من رجل أعمال ثري، في مقدمهم «حيتان المال» من أصحاب الثروات المليارية. ولم يعد الأمر مقتصراً على رجال أعمال أفراد يستعان بهم لتمويل اللوائح. تكاثر رجال الأعمال الذين هم أنفسهم سياسيون بحيث باتوا أكثرية أعضاء المجلس النيابي. أي أن المصالح الاقتصادية باتت تمثل نفسها بنفسها مباشرة بديلاً من التقليد السابق الذي كان يقضي إيكال تمثيلها للمحامين أو الزعماء السياسيين.
أما تمثيل الفئات الأدنى مستوى اجتماعياً، فتتكفل به الأحزاب. فقد باتت أحزاب التيار الوطني الحر، والقوات اللبنانية وحزب الله وحركة أمل وحزب الكتائب تشكّل رافعات يرتقي بواسطتها أبناء فئات أكثر تواضعاً من حيث الموقع الاجتماعي والدخل إلى الموقع النيابي، خصوصاً في الأطراف.
وليس سراً أن المقعد النيابي يبدو في بلدنا أقرب إلى واسطة ارتقاء اجتماعي ووجاهة و«شرف» مما هو واسطة تمثيل للناخبين. من هنا إن تهنئة «البيك» عند فوزه بالمقعد النيابي عادة ما تترافق مع التمنيات له بعقبى الوزارة. وأما إذا كان المعني من أبناء طوائف المثالثة، فالعقبى تكون برئاسة المجلس النيابي أو رئاسة مجلس الوزراء ناهيك عن رئاسة الجمهورية.
بدأنا بالزفت في أكلاف إنتاج النائب ونختم بالنفط.
ليس صدفة أن يكون أكبر مموّل للانتخابات النيابية اللبنانية هما بلدان نفطيان. هكذا يُطبق اللون الأسود على ما نستطيع أن نتوقعه من نتائج.
لن نردّد الحكمة الشائعة: من اشتراك، باعك. فقد باتت ضعيفة الوقع في زمن العولمة وجبروت الأسواق. المشتري هو نفسه مُشترى. فمن أنت لتحاسب على العشرين مليونا من ميزانية الزفت المقتطعة من ضرائبك؟ هناك من وظّف في إنتاج نائبك مئات الملايين، حتى لا نقول بضعة مليارات، من دولارات النفط.
إذا احتسبنا كل هذه المبالغ وقسّمناها على الـ128، سوف نلقى أن النائب اللبناني مُكلِف.
هل يعني أنه ثمين؟
وبالمناسبة، كم ساعة يعمل النائب اللبناني في اليوم؟
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى