صفحات ثقافية

طقوس الرقابة… وتحوّلات الرقيب

null
أنور بدر
مع أننا من حيث المبدأ ضد وجود الرقابة كسلطة منع وحجب في حقل الثقافة والإعلام، إلا أننا مضطرون إلى دعم هذه السلطة في ظل الانفلاش الرقابي الذي تشهده سورية، حيث باتت غواية لأي مدعٍ يريد أن يثبت وجوده في الاعتراض على الآخرين.
وسلطة الرقابة قد تكون وظيفية في حقل موضوعها، كأنّ يتولى اتحاد الكتاب العرب إجازة أو منع طباعة الكتب، وأن تجيز أو تمنع وزارة الثقافة عرضاً مسرحياً أو فيلماً سينمائياً… وفي هذا المستوى الوظيفي نقول أنّ الكثير من المجتمعات المتحضرة قد ألغت وظيفة الرقيب، أو هي همشت مجالات عمله، حتى في دولة ذات بنيان ثيوقراطي كالسعودية سمحت في معرض الكتاب بإدخال جميع الكتب في مرحلة ما، بالمقابل نجد أنّ دولة يقودها حزب علماني كسورية باتت تشكل طقوس الرقابة فيها غواية ليس في حقل السياسة فقط، إنما تعدّته إلى حقول الثقافة والإبداع الفني والأدبي، فتحوّل الرقيب في إطار هذه الغواية، وخرج من بوتقة الوظيفة إلى فضاءات الأيديولوجيا الدينية والعصبيات الجهوية أو المناطقية، وكلها لا تخدم هدف الوحدة الوطنية ولا تخدم التوجهات العلمانية للحزب والدولة.
وما حدث مؤخراً في مدينة حلب يُشكل مؤشراً خطيراً لتنامي الاتجاهات الرقابية في حقل الثقافة، ولا يمكن اعتبار منع مسرحية ‘طقوس الإشارات والتحوّلات’ للراحل الكبير ‘سعد الله ونّوس’ مُجرّد إجراء حدث وانتهى، الغريب حقاً أنّ ردات الفعل الثقافية والمجتمعية والإدارية تكاد لا تذكر، فلم نسمع إلا ببضع مقالات صحافية أو خبر هنا وآخر هناك في بعض المواقع الإلكترونية.
رغم أن هذا العرض جاء ثمرة تعاون ما بين الاتحاد الأوروبي والمركز الثقافي الفرنسي في دمشق ووزارة الثقافة السورية عبر مديرية المسارح والموسيقى فيها، وبالتالي لا نستطيع أن نفهم وجود سلطة رقابية على وزارة الثقافة، وما هو أخطر من ذلك أن تشعر وزارة الثقافة بالعجز عن الرد أو اتخاذ أي إجراء حتى في حدود الدفاع عن وجهة نظرها في الأمر.
المسألة الثانية أنّ هذه المسرحية موجودة كنص في الأسواق السورية، وقد طبعت أكثر من طبعة، ومسموح تداولها، مع أنّ النص باعتقادي يمتلك قدرة على الوصول إلى القراء في سورية وخارجها أكثر بكثير من جمهور العرض المسرحي الذي أخرجه ‘وسام عربش’، فلماذا أجيز النص ومُنع العرض؟!!
المسألة الأكثر خطورة برأيي أنّ هذه المسرحية بدأت عروضها في مدينة حماة وسط سورية، ثم انتقلت في عرضين إلى دار الأوبرا في دمشق، وذهبت أخيراً في عرضين إلى حلب قدم واحد منهما وألغي آخر، فكيف يكون ما هو مقبولاً في محافظة سورية ممنوعاً في الأخرى؟!! ومن هي الجهة التي تستطيع أن تقرر هكذا إجراء؟
أخيراً أستطيع القول أنّ خطورة المسألة تتأتى في سياق بدأ يتعمم مؤخراً سواء في سحب بعض الكتب من معرض الكتاب الدولي في دمشق العام المنصرم، أو في إيقاف بعض المسلسلات قبل العرض أو أثناءه في الدورة الرمضانية السابقة، وكل هذه الإجراءات تتم وللأسف تحت يافطة دينية، وأحياناً تأخذ بعداً مناطقياً، لكنها في كل الأحوال تبقى في حقل يُهدد الوحدة الوطنية، وينتمي إلى بُنى ما قبل الدولة، بل هي تشكل إشارات تمس سيادة الدولة في المحصلة النهائية.
وبالعودة إلى نص سعد الله ونوس، نجده ينطلق من واقعة تاريخية أشار إليها الراحل ‘فخري البارودي’ في أحد مراجعه، وهي تتعلق بالخلاف بين مفتي الديار الشامية ونقيب الأشراف فيها، وهذا النص برأي النقاد لم يتعرض للأفكار الدينية بل اكتفى بنقد المؤسسات الدينية في مرحلة انحطاطها، حيث تغلب المصالح والانقسامات داخلها، فنحن عندما ننتقد سلطة محاكم التفتيش التي ظهرت في أوروبا لا نهدف إلى انتقاد دين بعينه، بل يتوجه الانتقاد إلى مؤسسة مارست كل ما هو بشع وإجرامي باسم السلطة الدينية.
وهذا يُفسر تحوّلات شخصيات سعد الله ونوس في هذا العرض والتي تسير مع مصالحها ورغباتها بتجاه تدمير ذاتها والآخرين أيضاً. فنقيب الأشراف رغم إخراجه من اللعبة إلا انه يفقد عقله، ويبدأ باستحضار طيف والده الذي يدفع به إلى إنكار الذات للحصول على الخلاص. بينما تسير زوجته مؤمنة في تحولاتها باتجاه الغانية ألماسة إلى حتفها، وحتى قائد الشرطة الذي اعتقل نقيب الأشراف يخسر حريته قابعاً في السجن دون أن يعي ما حدث له وللآخرين، ولم يكن مفتي الديار الشامية بأفضل حالاً من باقي الشخصيات، حين تأخذه غواية ألماسة ويعجز عن الوصول إليها. فهل تثير طقوس سعد الله ما نشهده من تحوّلات رقابية؟ وهل إشاراته التي انطلقت لنقد المؤسسات في مرحلة انحطاطها تشكل إشارات لانحطاط كامن في مؤسسات ما زالت تبحث عن شرعية وجودها، أو تسعى لفرصة خارج إطار الدولة والمجتمع ورغماً عنهما ؟!!
كاتب من سورية
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى