صفحات سورية

من حكايات الاستعمار والوطنية

null

موفق نيربية

هل نعلم؟ أم لا نعلم ما السبب الذي يدفعنا إلى استعادة أيام الاستعمار، والتركيز عليها حتى في الأعمال الدرامية وتخريجاتها؟ هل يقتصر الأمر فعلاً على دروس الوطنية الحقّة التي لا نجد بسهولة ما يضاهيها في الأيام الأخرى؟ أم أن تلك الأيام خلاقة أيضاً، فنقرؤها ونعيد، ربّما لاسترداد الخصوبة ومسار التاريخ بعد تسرّبنا منه؟

في حكاياته التي طالما أَحبّ حكايتها عن نفسه، كان والدي يتذكّر تكراراً، كيف كان ورفاقه يقومون برحلة خاصة وهم فتيان، من حماة إلى دمشق -210 كم- لحضور مرافعات فايز الخوري دفاعاً عن الوطنيين في النصف الأول من الثلاثينيات، وكيف كان يبهرهم في أجواء المحكمة السحرية تلك.

كان يحكي أيضاً أشياء مبهمة عن محاكمة لم يحضرها لأنه كان طفلاً، ولكنه سمع بها، حول محاكمة الزعيم المناضل إبراهيم هنانو أمام محكمة عسكرية فرنسية في حلب، بتهمة قتل العديد من ضباط وجنود جيش الاحتلال، وكيف دافع عنه المحامي فتح الله الصقال، معتمداً في مرافعته على أن عمله سياسي ومشروع في مقاومة من يحتل بلده. وكيف خرج من المحكمة بالبراءة، وتوجه نحو بيته في تظاهرة شعبية.

بعد إعدام جمال باشا مجموعة كبيرة بالنوع قبل العدد، من نخبة السوريين وقادته في مثل هذا اليوم منذ 98 عاماً، ثم إعلان «المملكة السورية» لأشهر وبدستور وممارسة ديموقراطية في مقاييس تلك الأيام «الدولية»، وخروج يوسف العظمة إلى الموت بإرادته كي لا يقول التاريخ إن سورية قد احتُلّت من دون مقاومة، حتى قيام «الثورة السورية الكبرى» بين عامي 1925 و1927 ثم فشلها وتشريد قادتها. والدخول في فترة الخمود والركود المقصودة في هذا المقام أو المقال.

ولم تكن هذه عديمة الجدوى منذ بدايتها، من الناحية التاريخية على الأقل، حيث حدثت انتخابات في عام 1928، شهدت تدخّلاً وتزويراً، ولكنّها معركة انتخابية على أي حال لم تترك الإدارة الفرنسية مستحكمة بالوضع والقرار. أهم ما نتج من تلك الانتخابات صياغة دستور حديث للبلاد، قام المفوض السامي بدراسته وطلب تعديل خمس مواد، وإضافة مادة واحدة، شهيرة برقمها (المادة 116) كما أصبحت شهيرة في العصر الأحدث مادة أخرى في سورية، اسمها (المادة الثامنة).

جاء في تلك المادة المضافة: «إن أحكام هذا الدستور هي غير مخالفة، ولا يجوز أن تخالف الواجبات التي اتخذتها فرنسا على نفسها فيما يختص بسورية خاصة نحو جمعية الأمم. وهذه التحفظات تنطبق خاصة على المواد التي تمس الدفاع عن البلاد ومواد العلاقات الخارجية». أي أنها تبطل الدستور وتعطي حق الاستغناء عن باقي مواده حين يرى المفوض السامي وحكومته ذلك.

تلك الفترة المعروفة بأن المسيو بونسو كان مفوض فرنسا السامي في معظمها، شهدت الركود المذكور، وكاد الناس يستسلمون، حتى أن الفرنسيين استطاعوا استغلال حالة التحول نحو التدين، وانتشار العمائم البيضاء بغزارة حتى لدى الأطفال «كما يذكر أكرم الحوراني في مذكراته، وهو قائد سياسي تاريخي ووالد الدكتورة فداء الحوراني رئيسة المجلس الوطني لإعلان دمشق، المعتقلة منذ 16/ 12 الماضي»، وتوسّع الفرق الصوفية الطبيعي في حالات الإحباط والتراجع. تجسّد ذلك الاستغلال برعاية تحرّك شيخ صوفي كبير وزياراته الصاخبة للمدن السورية بصحبة ابنه الذي دفع به الفرنسيون ليكون رئيساً بعد ذلك.

تلك الفترة الراكدة المحبطة، شهدت في أواخرها شرارة بسيطة وعجيبة في الشهرين الأوّلين من عام 1936، فيما عُرف في تاريخ سورية باسم «الإضراب الستيني الكبير» لأنه استمرّ قرابة الشهرين، ولم يكن إضراباً فحسب، بل انتفاضة سلمية توقفت بها الحياة الإنتاجية والتعليمية والإدارية كلياً، مع مناوشات يومية بين الشباب والطلبة ورجال الأمن والجنود الفرنسيين.

انطلقت تلك الشرارة من قيام شركة الكهرباء برفع تعرفة ركوب «الترامواي» بمقدار نصف قرش من عملة تلك الأيام، فوق ما كانت عليه من قرش للدرجة الثانية، وقرشين للأولى. نصف القرش ذاك كان ثمن رغيف من الخبز.

ابتدأت الحركة بحملة احتجاجات قادها فخري البارودي، وهو شخصية دمشقية وطنية، جمع بنجاح بين الثقافة والسياسة من جهة، والوجاهة والشعبية الفاعلة على الأرض من جهة أخرى. واتّسعت بمبادرة من الشباب والطلاب الذين أجبروا القادة الوطنيين على المشاركة أحياناً، وهم الأكثر اعتياداً على القعود، بل تحوّلت بسهولة إلى المطلب الوطني الأكبر، المتعلّق بالحرية والاستقلال، وعمّت البلاد كلّها.

استنتجت السلطات السائدة آنذاك، والقيادات السياسية المحترفة بكل أنواعها وأطيافها، أن حالة السكون والاستكانة لا يمكن الركون إليها، وأن الأيام حبلى بمفاجآت للجميع… من أولي الألباب بالطبع!

* كاتب سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى