كانت بيروت
الياس خوري
لا ادري ما علاقة الفعل الماضي الناقص بالمدينة، لكنني لم اجد خبرا لاسم كان، كي تصير بيروت جملة كاملة، وكي لا نبقي في مبتدأ ناقص لا يجد اكتماله. فأي خبر لن يلائم الاسم، وسيبقي مجرد علامة استفهام، وسيترك المدينة ناقصة، مثلما كانت دائما.
فلنترك بيروت معلقة هكذا علي احتمالات لن تأتي، ولنتعلم في علاقتنا بالمدينة ان نكون في الالتباس، فلا شيء يلائم بيروت مثل التباسها في جملة ناقصة لن تكتمل، او نحن عاجزون عن اكمالها.
نستطيع ان نعود الي تاريخ المدينة القديمة، حيث التمع الاسم في الزمن الروماني القديم، لكن العودة الي ذلك الماضي السحيق لن تفيدنا. فبيروت الرومانية غرقت في البحر، ودمرتها الزلازل، ولم يبق منها سوي حجارة تنطق بحكايات الماضي الغامضة.
يومها ماتت بيروت، ولم تعد الي الحياة الا في العصر الحديث، عندما حولت الحملة المصرية في القرن التاسع القرية الساحلية الخاملة الي مدينة. اي ان بيروت بقيت في هجعة الموت حوالي الفي سنة، وخمل ذكرها، الي درجة ان اسم المدينة لا يرد في كتب مؤرخي الغزوات الافرنجية التي عرفت باسم الحروب الصليبية، الا في شكل عرضي.
لم تعد بيروت الي الحياة الا مع الحرب الأهلية اللبنانية الأولي، 1840ـ 1860، التي اجتاحت جبل لبنان، وامتدت الي دمشق الشام. في ذلك الزمن صارت الأسكلة الساحلية ملجأ للبنانيين الهاربين من جحيم الحرب. اي ان المدينة بدأت رحلتها الفعلية الي التشكل في الحرب الأهلية، وكمدينة اتسعت باللاجئين، وانتقلت لتصير عاصمة لوحدتين سياسيتين: المتصرقية، التي كانت بيروت عاصمتها الاقتصادية والثقافية رغم انها لم تكن جزءا منها، وولاية بيروت العثمانية. ولم تصر بيروت المدينة الكبري لأنها اعتمدت عاصمة لدولة لبنان الكبير الا لأنها صارت مرفأ المشرق العربي بأسره بعد النكية الفلسطينية.
مدينة نشأت علي تخوم الكوارث التي احاطت بها، لتصير مرآة المشرق العربي. هكذا صارت المدينة اللبنانية مركز الحداثة الادبية العربية، والعاصمة المصرفية للمنطقة، مع رجل مقدسي يدعي يوسف بيدس صنع معجزة بنك انترا وصار الضحية الأولي لمعجزته الناقصة.
انها مدينة ناقصة لا تكتمل بذاتها، لأنها مرآة.
انفجرت بيروت في مرحلتين:
انفجارها الأول عام 1958 كان خافتا، لكنه كان يشبه زلازل الأعماق.
جاء الخفوت بسبب عقلانية الحركة القومية التي كان يقودها رجل تاريخي اسمه جمال عبدالناصر. الناصرية، رغم كل النقد الذي يمكن ان يوجه لها، كانت حركة بناء، نأت بنفسها عن التفتت. شاهدنا علامات رفض التفتت في مواقع، في لبنان 58، حيث سارعت الي التسوية كي لا ينتشر الحريق الطائفي في المنطقة، وبعد انفصال سورية عن دولة الوحدة، حين رفض ناصر استخدام القوة المسلحة علي الرغم من قدرته علي ذلك، وحين نشر قواته علي الحدود الكويتية العراقية كي يمنع نزق ديكتاتور العراق عبدالكريم قاسم من التحول الي كارثة، سوف تحصل بعد زمن طويل مع الغزو العراقي للكويت. ولم يخطئ ناصر في هذا السياق الا في اليمن حين شارك جيشه في الحرب الاهلية التي اعقبت الانقلاب الجمهوري، وكانت هزيمة حزيران احد اثمان ذلك الخطأ.
لكن زلزال الأعماق الذي صنعته حرب 1958 الأهلية بقي نائما كمؤشر لاحتمالات النهاية التي بدأت ترتسم في الأفق. فحين تصير مدينة اللاجئين من الحرب الأهلية الأولي ساحة للحرب، فهذا يعني ان المعادلة بدأت تنكسر.
وانكسرت المعادلة عام 1975، عندما لم تجد المقاومة الفلسطينية الا ملجأ واحدا هو بيروت. عمان خرجت من الدائرة، ودمشق ليست ممكنة بسبب غياب الديموقراطية فيها. فبعد ايلول الأسود، صارت بيروت عاصمة لمكانين يعيشان في المؤقت الناقص: فلسطين ولبنان. وتعمقت ازمة المدينة، وانقسمت علي طول الخط الأخضر الذي فصل بين بيروت الغربية وبيروت الشرقية.
وبقي الانقسام. وتغيرت خطوطه، في زمن السلم السوري الثقيل الوطأة، واتخذ الانقسام شكلا جديدا بعد خروج الجيش السوري من المدينة، كي يصل اليوم الي شكل هلامي من الخطوط المتعرجة، والمتداخلة، جاعلا من الصدامات الدموية التي حصلت في الاسبوع الماضي نموذجا لعدم قدرة اي طرف علي الهيمنة علي المدينة.
في الصدامات الأخيرة التي اتخذت شكل حرب مذهبية سنية شيعية، يجب ان نتوقف عند ظاهرتين:
الأولي، هي العودة الخفية للخط الأخضر، حيث بقيت بيروت الشرقية بمنأي عن الصدامات، وصارت ملجأ للهاربين من بيروت الغربية.
الثانية، هي ان اجتياح مقاتلي حزب الله لبيروت الغربية، لا يستطيع ان يترجم نفسه في السياسة، لأن البني الطائفية محكومة بحدودها التي لا تسمح لطائفة بابتلاع طائفة اخري.
هكذا عاد الانقسام ليتخذ شكلا جديدا، معلنا استحالة الهيمنة علي المدينة التي ستبقي مرآة للمنطقة وتناقضاتها، لأن لبنان الذي ارتضت بيروت علي ان تكون عاصمته لا يستطيع ان يكون وطنا طالما بقيت طوائفه هي القوي السياسية المهيمنة عليه.
لكن بيروت تصغر اليوم.
هكذا بدت لي المدينة وهي تجرجر احزانها وموتها، بيروت تصغر لأن المنطقة العربية صغرت. فحين يغيب العرب عن قضاياهم، ويتخلون عن فلسطين من اجل رتق ثقوب انظمتهم الديكتاتورية، تصير بيروت ملعبا لموتهم وموتها.
هكذا بدت المدينة المتشحة بالخراب والموت، وهي تلعب لعبتها الدموية مع الطوائف اللبنانية التي تثابر علي خوض معاركها متسلحة بالخارج.
هنا تموت القضايا التي ولدت في هذا المكان.
المرآة تتكــــسر، ونحن في المرآة، وعذاب المرآة لا حدود له سوي الألم.
القدس العربي
20/05/2008