صفحات العالم

السـعوديـة إلــى أيــن؟

مضاوي الرشيد
الحلقة الأولى
واجهت الدولة السعودية، في فترة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر، ضغطاً متزايداً لجهة تعديل لهجة الإصلاح والقيام بسلسلة تدابير ووعود إصلاحية، رغم أن ليس من بينها ما فرض تحديّاً جديّاً على حكم آل سعود. وتشمل تلك التدابير: الإفساح في المجال أمام منظمات المجتمع المدني شبه المستقلة، وانتخابات بلدية محدودة، وحرية صحافة نسبية. وكان إصلاح العائلة المالكة لجهة التعامل مع الإشكالية المستقبلية المحتملة لتوارث العرش، جزءاً من التيار الإصلاحي العام. يتناول القسم الأول من هذا الفصل الإصلاحات المعتمدة من قبل الدولة، والهدف منها هو تحديث الحكم التسلطي دون المخاطرة بالتفريط بحصة كبيرة من السلطة لمصلحة الجمهور(1).
وبالقدر نفسه، أبدى المجتمع السعودي حراكاً وفعالية اجتماعية غير مسبوقة، محثوثاً بالعولمة المتزايدة، وانتشار خطاب الدمقرطة، وحقوق الإنسان والأقليات، والمطالبة بالمشاركة السياسية. وعلى المستوى المحلي، فإن صدمة العنف الإرهابي وضعت المثقفين السعوديين وجهاً لوجه مع رسوبات (عيوب) الأوضاع الدينية، والسياسية والاقتصادية، والتي هيأت أرضية خصبة للعنف الذي تفجّر في القرن الحادي والعشرين.
وقد طالب الأكاديميون، وعلماء الدين، والمحامون، والكتّاب، والصحافيون، والنساء، والأقليات جميعاً بإصلاحات جديدة في الحكم لجهة نبذ الممارسات التسلّطية التقليدية من القهر، والمراقبة، والإقصاء، والاستزلام. ويناقش القسم الآخر من هذا الفصل، الحراك الاجتماعي المنصبّ على الإصلاحات والتطلّعات الجديدة، المتباينة مع تلك التي نشأت في سياق الاحتجاجات الإسلاموية في التسعينيات من القرن الماضي.
أجندة الدولة في الإصلاح
توصّلت الحكومة، بعد مواجهة هجمات العنف الإرهابية، الى أن الأمن وأجهزة المباحث قادرة على التعامل مع بعض جوانب المشكلة فحسب، وتبقى في مسيس حاجة الى تجنيد/تطويع المجتمع نفسه لمكافحة التهديد والدفاع عن البلاد. وقد لجأت الحكومة الى العلماء وأساتذة الجامعات والكتّاب والصحافيين على أمل تطويعهم في المنبر المؤسس حديثاً، مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني. وفي أغسطس 2003، أعلنت الحكومة عن إعداد منصّة جديدة تحتشد عليها مجموعة مختارة بعناية من المثقفين وأساتذة جامعيين للانخراط في مناظرة مفتوحة حول الضغط الاجتماعي والقضايا الدينية والثقافية، وفق أجندة معدّة سلفاً. وأصدرت الحكومة بياناً حول اللقاء الأول، جذبت إليه نخبة البلاد. وبوحي من روح الأخوة الإسلامية، عقد هؤلاء نقاشات حول الشؤون الوطنية، وتوصّلوا إلى توصيات بنّاءة لتعزيز التمسّك بالعقيدة الإسلامية، وتأكيد الوحدة الوطنية.. وكان الهدف الرئيسي من ذلك هو مواجهة التطرّف وتهيئة مناخ مواتٍٍ يسهم في إبراز المواقف الحكيمة وإنارة الأفكار الرافضة للإرهاب والفكر الإرهابي.. فالحوار لن يقبل بتحويل الحرية إلى إساءة قبيحة، بمناداة الإسم أو مهاجمة العلماء الأخيار والوطنيين(2).
وحدّد البيان معايير لجلسات الحوار المستقبلية، فيما استبعد أي ذكر للإصلاحات السياسية، التي قد تشكّل تحدّياً لحكم آل سعود.
وأصبحت لقاءات الحوار الوطني حدثاً/مناسبة سنوية، تقام في مدن مختلفة. فقد جرت لقاءات في الرياض، والمدينة، ومكة، وجدة، وبريدة، والدمام. وفي كل عام، تعلن اللجنة المنظّمة المعيّنة من قبل الحكومة موضوعاً جديداً للمداولة وتدعو متحدّثين، لإعداد كلّمات ذات صلة بالموضوع المعيّن سلفاً. وشملت الموضوعات: الإرهاب والتطرف، والغلو الديني والاعتدال، والتسامح الديني والاختلاف، ومشاكل الشباب، والتعليم، والعمال، وحقوق المرأة. وبعد مناقشات تستغرق عدّة أيام، تنتهي اللقاءات بسلسلة من التوصيات، التي تبقى غير ملزمة ودونما هيئة تنفيذية للإشراف على وضعها في حيز التنفيذ. وتدرج التوصيات عادة في رسالة تقدّم إلى الملك. وبحسب السكرتير العام للحوار الوطني، فيصل بن معمر، فإن التوصيّات هي إرشادية وليست استشارية، ولكن (هناك أفكار مازالت قيد الدراسة حالياً لجهة أخذها بالاعتبار العملاني الجدّي، والكل يدعو إلى تنفيذ التوصيات وفق جدول زمني)(3).
وبات معلوماً أن التوصيات تلك ستقدّم إلى الأجهزة الحكومية ذات العلاقة وصنّاع السياسات.
وفي بداية انطلاقها، كانت لقاءات الحوار الوطني تجري بصورة مغلقة، ولكن بعد سنوات قليلة أصبحت تبثّ على التلفزيون. وأصبح اللقاء المعدّ بعناية مناسبة عامة تستقطب المعلّقين، والمناصرين، والنقّاد. ومع انتشار منتديات حوارية على شبكة الإنترنت، وكذلك وسائل جديدة في تقنية الاتصال، مثل رسائل الجوّال، واليوتيوب، بات ممكناً بالنسبة للسعوديين خارج اللقاءات السنوّية المناظرة ومناقشة مؤهّلات هذه المنابر المؤسسة حديثاً.
وقد عقدت أولى جلسات الحوار الوطني في الرياض في يونيو 2003، أي بعد شهر من أول انفجار إرهابي كبير ضرب العاصمة الرياض، وعقب ثلاثة شهور من احتلال العراق. وفرض هول الهجوم الإرهابي وظلال الاحتلال (الأميركي للعراق) شكلاً محدداً لموضوعات وأجندة اللقاء. وفيما لم يتم تقديم توصيات بصيغ محدّدة، فإن نداءات من أجل احترام القيادة والوحدة الوطنية صدرت من الجلسة التحضيرية الأولى التي نظّمتها لجنة الحوار الوطني.
وعقد لقاء الحوار الوطني الثاني في مكة في ديسمبر 2003. وكان موضوع النقاش يدور حول التطرف والاعتدال، ما يعكس أجندة الحكومة لمكافحة الإرهاب والخروج ببيان يدين العنف ويرفض خطابه الأيديولوجي. وشارك في اللقاء ستون أستاذاً جامعياً وخبيراً في مختلف الحقول، تشمل متخصّصين في الشريعة الإسلامية وعلماء اجتماع، وعلماء نفس، ومتخصّصين في الإعلام، وتربويّين. وقد كثّف علماء الدين المشاركون في اللقاء اهتمامهم على مقاربة (الوسطية) من منظور إسلامي، فيما قدّم علماء النفس تنظيرات حول اختلال شخصية العنصر الإرهابي، وسلّط علماء الاجتماع الضوء على العوامل البيئية والاجتماعية والتعليمية المساعدة، وشدّد علماء الاقتصاد على حميمية علاقة التهميش والحرمان الاقتصادي، وأضاء علماء السياسة على أهمية المشاركة وحقوق الإنسان، أما خبراء الإعلام فناقشوا دور الإعلام، وحرية التعبير، وتغطية الخطب الدينية. وبعد عدّة جلسات من المداولة، تم الإعلان عن ثماني عشرة توصية، شدّدت، بعيداً عما ذكر، على الحاجة للوحدة الوطنية والتسامح إزاء الاختلاف. ووجّهت بعض التوصيات الاهتمام نحو الحاجة للتوافق على تعريفات للمفاهيم الإسلامية التي ترسم حدوداً فاصلة بين المسلمين وغير المسلمين. وبحسب إحدى التوصيات، فإن انتشار الفتاوى غير المنضبطة والأحكام الدينية يلزم تقييده وإخضاعه للسيطرة والفحص. توصيات أخرى طالبت بتوسعة نطاق المشاركة السياسية عبر الانتخابات ومؤسسات المجتمع المدني. وفي موضوعة الإرهاب، حظيت بالتأييد الجماعي توصية بإعادة تأهيل وتدريب أولئك الذين ندموا على انخراطهم في العنف. وفي العموم، فإن اللقاء عضّد إجراءات الحكومة بتجنيد مؤسسات وأشخاص يساهمون في الشأن العام عبر الخطب، والمطبوعات، والمحاضرات، والتعاليم والعمل الاجتماعي لدعم الدولة في جهودها لوضع نهاية لموجة العنف التي تفجّرت في السعودية(4).
لقاءات الحوار الوطني المتعاقبة تعاملت مع قضايا المرأة، ودورها في المجتمع ومساهماتها فيه (يونيو 2004). وشاركت المرأة في اللقاء، وقدّمت وجهات نظرها في موضوعات ذات صلة بوضعهن الحالي وآفاق المستقبل الاقتصادي في البلاد، حيث تشكّل النساء غالبية متخرجي الجامعات، فيما تبقى مهمّشة في قوة العمل.
وقد اندلعت صدامات بين أولئك الذين يناصرون المزيد من الأدوار التقليدية للنساء وأولئك الذين يتطلّعون نحو مشاركة أكبر وظهور إعلامي، وقد واجه هؤلاء تهمة تعميم الأجندة الغربية، بغرض زعزعة استقرار المجتمع وتهديد النقاء والأصالة الإسلامية. وانتهت المناقشات دون النظر، بصورة جديّة، في التحدي الرئيسي باستيعاب العدد المتزايد من النساء المتعلّمات في الاقتصاد السعودي. واعتقدت بعض المشاركات بأن المحافظين والتقليديين اختطفوا اللقاء، الأمر الذي حثّهن على إرسال قائمة منفصلة من التوصيات إلى ولي العهد (آنذاك) عبد الله، الذي استقبل بصورة خاصة مجموعة صغيرة من المندوبات/الموفدات.
لقاءات الحوار حول الشباب، ونزوعهم الراديكالي، والبطالة الحالية، والتنمية المستقبلية كانت موضوعات ذات أهمية ضئيلة وفاترة. وقد طالب المشاركون بتقدير دور الشباب السعودي، الذين يشكّلون الأغلبية في البعد السكاني للبلاد، والذين يمكن أن يلعبوه في المستقبل، ويتطلب ذلك تشجيعاً ودعماً عبر برامج الشباب، والتدريب، والتوظيف. وتعتبر تلك الإجراءات إجراءات وقائية ضد اللامبالاة والضجر، وكلاهما قد يفضي إلى التطرف والسلوك التدميري المناوئ لكل ما هو اجتماعي.
وكان لدى الحكومة هدفان من مأسسة اللقاءات الحوارية، منها ثمانية لقاءات جرت في فترات سابقة. أولاً، جاءت المأسسة تلك كرد فعل على كثافة الاهتمام الإعلامي الدولي حول السعودية عقب حوادث الحادي عشر من سبتمبر. إن صورة السعودية بوصفها مجتمعاً مغلقاً وسريّاً، بقدر محدود من المناظرة المفتوحة، قد تطلب تصحيحاً بل وقلباً. وفيما سمحت الحكومة لوسائل الإعلام الدولية والعالمية للقيام، ولأول مرة، بتحقيقات صحافية على أراضيها، فإنها سعت إلى خلق أجواء انفتاح وشفافية عبر حوار منضبط واستطلاع رأي.
ثانياً، حرصت الحكومة على تجنيد المجتمع المدني لتحمّل مسؤولية تضييق الخناق على التطرف والعنف في السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين.
وكان الإرهاب أحد الموضوعات المتواترة في كل جلسات الحوار الوطني، وهذا يؤكد دور الحوار الوطني كمنصّة، حيث يدين المشاركون من خلفيات فكرية واحترافية متنوّعة العنف، ويعملون النظر في توجّهاتهم الأيديولوجية السابقة، ويشدّدون على ولائهم للدولة، وامتثالهم لمتطلبات الوحدة الوطنية.
مركز الحوار الوطني مؤسسة تديرها الدولة، نشأ تحت تأثير ضغوط محلية ودولية بهدف تبديد التوتر، وتعديل المفاهيم، وانخراط المجتمع في الحوار مع القيادة، وتقديم الولاء. ولذلك، لم تكن اللقاءات مبادرة مستقلة إلى حد بعيد، أي ناشئة وتديرها منظمات المجتمع المدني المستقلة، بالرغم من أن الحكومات وأطقم العاملين القائمين على تنظيم تلك الفعالية سعوا من أجل زرع ذلك الانطباع في المخيال العام، أي بكون اللقاءات منابر حرة لتداول وجهات النظر والتشاور. ووهبت الحماسة المبكّرة المحيطة باللقاءات الأولى طريقاً لعدم المبالاة والفتور، الأمر الذي حفّز أحد الصحافيين للتعليق على لغة جسد المشاركة في جلسات جدّة، حيث كان يبدو بعضهم وكأنه يشعر بمتعة القيلولة (نوم الظهيرة) في فترة ما بعد ظهر ساخن في فندق خمس نجوم. لقد تبدّدت الحيوية المحيطة بهذه المبادرة الجديدة على وقع الروتنة والإطّرادية(5).
رحب كثير من السعوديين بالمبادرة في بادئ الأمر، كونها منحت المثقّفين والخبراء من مختلف التوجّهات فرصة لناحية تقديم أفكار، ونتائج بحث، وأملاً بالتأثير في السياسات العامة، ولكن توصّل كثير منهم الى أن هذا الحوار لن ينجب تغييراً سياسياً جديّاً(6). وببساطة، لم يكن الإصلاح السياسي مدرجاً على الأجندة، كما أفصحت الحوادث اللاحقة، والتي تمّت مناقشتها في هذا الفصل. ويبقى التغيير السياسي الجدّي مجرد مراوغة. وقد أثبتت الحكومة بأنها مقاومة لكل نداءات التغيير الدستوري الذي يفضي إلى مجلس شورى منتخب، للحلول في مكان مجلس الشورى المعيّن. وكانت الغاية وراء كل لقاء هي الولاء للقيادة والإجماع على أجندتها الإصلاحية. فقد هيمنت الموضوعات الاجتماعية، والأمنية، والدينية، والاقتصادية، على اللقاءات الحوارية، دون وجود أفق لأجندة إصلاح سياسي جدّي يمكن أن تسلك طريقها إلى صدارة قائمة الموضوعات المعدّة للنقاش. وبتعبير أشد صرامة، فإن الحوار الوطني خطوة نحو تحديث الحكم التسلّطي، دونما أثر فعلي جاد على سير الإصلاح السياسي الذي يجري في السعودية. إنه يجسّد مقاربة راعوية وأبوية قوية إزاء المجتمع السعودي وشخصياته الفكرية والاحترافية العامة، التي كان من المقرر أن تتعلم ألف باء المناظرة بدلاً من تمرير أجندتها الإصلاحية إلى الحكومة.
وبدلاً من التقييم النقدي لمؤهلات الحوار الوطني، فإن الصحافة الرسمية السعودية أضاءت على ثقافة الحوار، التي أكّدت على رواية الدولة حول الأوضاع البدائية والمتخلّفة للمجتمع السعودي فحسب. وصفّق كثيرون للدولة كونها تربي مواطنيها على طريقة مناقشة الموضوعات العامة ضمن القيود المحدّدة للحوار الوطني الذي ترعاه الحكومة. ودعت الدولة السعودية مواطنيها للإفصاح عن توصيمهم للعنف في الشارع، مع توكيد أن النقاش لن يلمح مطلقاً إلى الدور المباشر للدولة ومؤسساتها الدينية في خلق ظروف مناسبة لبروز الإرهاب الجهادي، على المستويين العالمي والمحلي. ليس من بين المشاركين في المناقشات من تجرأ على ربط العنف بالسياق السياسي الأوسع، أو لتدابير السياسة الخارجية السابقة، من قبيل التورّط في الجهاد الأفغاني في الثمانينيات من القرن الماضي، حين أشبعت الحكومة رغبة الإسلامويين بالخضوع لأجندتهم، وزيادة وتيرة رعاية التعليم الديني والجمعيات الخيرية الإسلامية لجهة تعضيد أوراق اعتمادها الإسلامية. على الضد من ذلك كله، قام المشاركون بفحص المجتمع، ونزوعاته في المحافظة وعدم تسامحه إزاء مبدأ الاختلاف، ما يعتقد الجميع بأنها ساهمت في الأزمة الإرهابية في البلاد. ودعي المثقّفون وعلماء الدين للانخراط في عملية نقد ذاتي وأداء فرض الولاء للقيادة.
مهما يكن، يلزم الالتفات إلى أن لقاءات الحوار الوطني فتحت نافذة للإطلال منها على تشخيص المشكلات. وفي واقع الأمر، أن السعوديين الذين جاؤوا من مختلف المكوّنات الاجتماعية والخلفيات الفكرية لمناقشة الموضوعات الهامة التي كانت مصنّفة باعتبارها محّرمات (تابوات)، أو مجرد المناقشة خلف الأبواب المغلقة، يعتبر إنجازاً في حد ذاته، خصوصاً في بلد تمثّل سياسة الإملاء من أعلى إلى أدنى العلامة الفارقة للحكم فيه لعقود عديدة. ولكن هل تلك اللقاءات ستولّد تأثيرات مباشرة على السياسة، فهذا ما ينبغي رؤيته. ولحد الآن، فإن إصلاحات الحكومة في المجالات الاجتماعية والدينية والتعليمية أدمجت جوانب من توصيات اللقاءات الحوارية. في حقل التعليم الديني، قد يعثر المرء على آثار للأفكار التوافقية التي جرت مناقشتها خلال جلسات الحوار. على سبيل المثال، أعلنت الحكومة عن نيّتها إصلاح مناهج التعليم الديني في المدارس، وفصلت خطباء معروفين بأفكارهم (المتطرفة). كما أعلنت أن ألفي (2000) إمام مسجد خالفوا المحظورات المفروضة على الدعوة ضد التعصّب قد تم إيقافهم عن العمل، وأن 1500 تم إرسالهم لإعادة التأهيل التعليمي (سفارة المملكة العربية السعودية 2004). كذلك أعلنت عن برامج لتحديث التعليم بصورة عامة، وتحسين مهارات اللغات الأجنبية، في سياق الاستجابة لتحسين المستوى التعليمي للشباب وزيادة قدرتهم التنافسية في سوق العمل المفتوح. ولكن لا تزال الحكومة تمانع بصورة رسمية إفساح المجال أمام المرأة، بالرغم من أنها تمنحهن بصورة تدرّجية مساحة محدودة في المناسبات العامة وفي الصحافة. وتظهر الصحافيات في المناسبات العامة الرسمية وتعدّ تقارير عنها لمصلحة قنوات فضائية أسّست حديثاً، مثل قناة (الإخبارية). كما شاركت نساء الأعمال في اللقاءات الاقتصادية التي عقدت في جدة، ورافق بعضهن ولي العهد عبد الله (الملك حالياً) في جولات خارجية إلى الولايات المتحدة والصين والهند. وكانت هذه الإجراءات الرمزية موجهّة بصورة مباشرة للرأي العام الدولي، المتحمّس لرؤية الموجة الجديدة من الانفتاح الاجتماعي، وفك اللغز السعودي ورفع الحجاب عن أكثر أسرارها ضموراً. وأفادت القيادة السعودية من هذه الفرصة لتركيب/تشكيل صورة عن بلد يشهد تدريجاً تحديثاً اجتماعياً واقتصادياً، والذي، رغم ذلك لن يبقى مندغماً في تقاليده الإسلامية ووفياً لثقافته الأصيلة. فقد ارتفعت الأصوات النقدية، خصوصاً من أولئك العلماء التقليديين المهمّشين، للاحتجاج على الظهور المتزايد للنساء في الشأن العام، ولكن القيادة، وببساطة، شعرت بالثقة التامة بتجاهل تلك الأصوات.
ولحد الآن، فإن الحكومة تجاهلت نداءات بتأسيس وزارة منفصلة خاصة بالنساء والشؤون الاجتماعية، وقاومت طلب إلغاء قيمومة الأقارب الذكور على النساء، أو حتى السماح لهن بقيادة السيارة. فالمرأة غائبة بصورة كاملة من مشهد الانتخابات البلدية المحلية، سواء ناخبات أم مرشّحات. ويحتل إقصاء النساء السعوديات من الحياة العامة والقيود الصارمة التي يواجهنها في مجالي العمل والحركة درجة متفوّقة في أجندة منظمات حقوق الإنسان الدولية، ولكن دون أن تلفت انتباه القيادة السعودية للآراء النقدية من قبل هذه المنظمات. وتستعمل الحكومة في الغالب ذريعة خصوصية التقليد الإسلامي للسعودية، للنأي عن تطبيق المعاهدات الدولية في مجالي إزالة التمييز ضد المرأة والحريات الدينية.
الانتخابات البلدية 2005
تضافرت الضغوط الدولية نفسها التي حفّزت القيادة السعودية على إطلاق جلسات الحوار الوطني مع مطالبات داخلية بالإصلاح، ما أدى إلى الإعلان عن نية تحديث المجالس البلدية المحلية، والتي ستضطلع بمهمة التعامل مع تقديم الخدمات في ثلاث عشرة منطقة في السعودية. وفي أكتوبر 2003، أعلن مجلس الوزراء عن قرار توسيع مشاركة المواطنين في المجالس البلدية: وسيتم انتخاب نصف أعضائها، فيما تقوم الحكومة بتعيين النصف الآخر. وأدى الإعلان إلى تنظيم انتخابات بلدية في شباط/فبراير 2005.
بدأت المدن الإدارية الرئيسية بتجهيز مراكز تصويت، ودعي الناخبون الذكور المأهلون بالتسجيل واستلام بطاقات التصويت. في الرياض، لم يتجاوز عدد الناخبين المسجّلين 18 بالمئة من المؤّهلين للتصويت، ويمثل العدد 2 بالمئة فقط من إجمالي عدد سكّان المدينة (Menoret 2005: 2). وكان لافتاً تزايد مستوى الاهتمام، المنعكس في النسبة العالية من التسجيل والمشاركة في المنطقة الشرقية، موطن الغالبية من الأقلية الشيعية. في مدينة القطيف الشيعية الصغيرة، تم رصد 46 ألف ناخباً مسجلاً، نصفهم تقريباً من أولئك الذين في العاصمة.
وكان المرشحون في كل المدن تقريباً، رجال أعمال محليين وناشطين واحترافيين، جاؤوا من مختلف التوجهات. ويحمل معظم المرشّحين (60 بالمئة) شهادات جامعية، وبعضهم من ذوي التوجّهات الإسلامية، فيما يعرّف آخرون بميولهم نحو أجندة ليبرالية، أو ببساطة يتوسلون رأسمالهم القبلي. وقد حظي الإسلامويون بتأييدات من شخصيات عامة معروفة أو علماء دين، نوّهوا بتقوى المرشحين والتزامهم بالخير العام. واستهواءً باستراتيجيات حديثة في الحملات الانتخابية، عبر رسائل الجوّال والإنترنت، وكذلك الضيافة التقليدية، ضمن المرشحون الإسلاميون معظم المقاعد في المدن السعودية الكبــيرة مثل الرياض وجدة، والأصغر منها مثل المدينــة المنــورة، وتبوك، والطائف.
عكست نتائج الانتخابات البنية المتغيّرة لسكان المدن، التي تحتضن الآن قسماً كبيراً من الطبقة الوسطى السعودية. وقد نمت الطبقة بصورة ثابتة منذ السبعينيات من القرن الماضي. ومعظم أفرادها موظّفون في القطاع العام، ولكن حصل كثيرٌ منهم مؤخراً على فرص عمل في القطاع الخاص المتنامي. ووعد تحرير الاقتصاد بزيادة أعدادهم وتخفيض الاعتماد على التوظيف في البيروقراطية الحكومية. ولديهم خبرة في الإدارة والتوظيف، ويبدون روحاً تنظيمية عالية. وقد بحث مرشحو الانتخــابات عن المقام الاعتباري أكثر من مجرد تعييــنهم في منصب عام. وبعض هؤلاء على قدر كافٍ من الثــراء الذي يمكّنهم من تحمّل نفقات الحمــلات الانتخــابية الخاصة بهم، والتي تشمل ترفيــه مئات من الناخبين المحتملين، وتقديم الضـيافة قبل موعد الانتخابات.
وعكس نجاح ما يسمى بالإسلاميين المعتدلين في الانتخابات البلدية ضعف ذوو التوجّه الليبرالي، الذين لم تكن لديهم سوى شعبية محدودة وتداخل مع المجتمع السعودي. وأشار المعلّقون على الانتخابات إلى تهميشهم، حيث يفتقرون إلى منابر تواصل مع المجتمع، بخلاف الإسلاميين الذين أفادوا من دعم علماء دين بارزين في مؤسسات التعليم، والمساجد، والجمعيات الخيرية، والحكومة.
كانت الانتخابات ذات أهمية ولكن محدودة، فقد أنجبت حماسة غير مسبوقة وعكست جهوزية المجتمع السعودي للانخراط في الإجراءات الديموقراطية الحديثة، بالرغم من افتقاره لمؤسسات ديموقراطية ومجتمع مدني حيوي. وفي بعض الجوانب، أبرزت الانتخابات زخارف الديموقراطية، دون أن تفرض تحدّياً جدّياً على الحكم التسلطي في السعودية. وتفيد تقارير بأن أعضاء المجالس البلدية المنتخبين لم يلتقوا بعد مرور عدّة شهور من انتخابهم لعضوية المجالس البلدية. وقدّم بعض الأعضاء استقالتهم بعد سنتين من انتخابهم لعضوية المجالس البلدية، نتيجة الإحباط والعجز في التوصّل لقرارات في مجالس تقديم الخدمات.
وبالرغم من جهود الحكومة في إطلاق، وبصورة مواربة، فرصة تاريخية لإدماج المواطنين في تفعيل وإدارة المجالس البلدية المحلية الخاصة بهم، ويبدو أن (المواطنين السعوديين حملوا نظرة مريبة ونافرة إزاء تلك الانتخابات) (Menoret 2005). وذلك عائد إلى حقيقة النظرة إلى البلديات كونها تحوز على سلطة محدودة، إذ أن اهتمامها منصّب بدرجة رئيسية على إيصال الخدمات الأساسية، وليست لديها سلطة التأثير في مخصصات الميزانية أو استصطلاح (تطوير) الأراضي. بعد عامين من الانتخابات، شدّد معلّق سعودي على أن (المجالس البلدية أثبتت بأنها عاجزة.. فأكثر من نصف القرارات لم يتم تطبيقها. ومعظم القرارات الأخرى كانت بدعم من الحكومة المركزية (نيويورك تايمز، 26 أبريل 2007).
رغم ذلك، تبقى الانتخابات خطوة هامة لناحية تحديث الحكومة التسلّطية التي خضعت تحت تأثير ضغوطات دولية ومحلية للقيام بإصلاحات. وكان ينظر إلى السعودية بكونها تحاول اللحاق بالأنظمة التسلطية العربية الأخرى: فقد عكست نشاطية الانتخابات المحلية والوطنية في بعض الدول العربية سنة 2005 أملاً منبثّاً إزاء أجندة إصلاحية واسعة، تبدأ بالتغيير الاقتصادي والاجتماعي، ولكنها قصرت عن تعديل هيكلية الحكم التسلّطي، أو الحد من انتهاكات حقوق الإنسان، أو تقليص الإجراءات الأمنية القهرية للأنظمة. وكانت الانتخابات في السعودية نتيجة قرار من أعلى إلى أسفل تم تطبيقه في مجتمع لا يملك سوى عدد محدود من المؤسسات المستقلة، وقدر ضئيل من حرية الاجتماع. ويبقى المجتمع السعودي ضعيفاً في مقابل الدولة، التي تحظر العمل الجمعي، باستثناء تلك التي تجري تحت إشراف وترخيص الحكومة. وبالنظر إلى فعاليات عامة مثل الصالونات الأدبية، والنوادي الرياضية، وسباقات الجمال، وإلقاء القصائد، وانتخابات الصحافيين والغرف التجارية، فإن الدولة تفرض سيطرتها على إرهاصات المجتمع المدني الكامن والحراك الاجتماعي المستقل.
وعبر نزعة الأبوية والرعاية، تستوعب الحكومة جماعات وتنشئ شكلاً مشابهاً للبرلة. فليس ثمة ما يشبه هذه الاستراتيجيات سوى تأسيس لجنة وطنية لحقوق الإنسان.

([) ورقة قدمت الى ندوة »من أجل الوحدة العربية.. رؤية إلى المستقبل« التي عقدها مركز دراسات الوحدة العربية قبل أيام
(1) يجري أحياناً إسباغ نعت مرواغ على تحديث الحكم التسلطي فيسمى (تطوير)، وهي ظاهرة برزت في كثير من البلدان العربية، عقب فترة الحادي عشر من سبتمبر. يحدّد (Heydemann:2007) أربعة تطورات تعكس، في رأيه، عملية التطور وهي: الاستيلاء على واحتواء المجتمع المدني، إدارة عملية الاعتراض السياسي، حيازة فوائد الإصلاح الاقتصادي، وتنويع الروابط الدولية.
(2) أنظر: www.saudiembassy.net, بتاريخ 2 أغسطس 2003
(3) أنظر: Qusti 2007
(4) ظهر كثير من المقالات في الصحافة السعودية حول الحاجة إلى قبول (الآخر) عقب لقاء الحوار الوطني. ونالت صحيفتا (الوطن) و(أراب نيوز) قصب السبق في تعميم مبدأ التسامح عبر صفحات الرأي في الصحيفتين. أنظر: Qusti 2004
(5) شدّد المسؤولون السعوديون على عدم وجود حدود مفروضة على لقاءات الحوار الوطني. أنظر:Qusti 2007.
(6) إن أولئك الذين يدعون صراحة إلى الإصلاح السياسي في المملكة السعودية كانوا يعملــون من خــارج مركز الحوار الوطني. ستتم مناقشة عرائـضهم السابقة لاحقاً في هذا الفصل.
الحلقة الثانية
احتواء حقوق الإنسان
صادقت السعودية على أربع معاهدات تابعة لهيئة الأمم المتحدة: المعاهدة الدولية لإزالة كل أشكال التمييز العنصري (1977)، المعاهدة الدولية لإزالة كل أشكال التمييز ضد المرأة (2000)، المعاهدة الدولية لمناهضة التعذيب، وأشكال المعاملة أو العقوبة القاسية وغير الإنسانية أو المهينة (1997)، والمعاهدة الدولية الخاصة بحقوق الطفل (1996) (1). مهما يكن، في سنة 2004 كانت السعودية من بين قلة من الدول في العالم التي تفتقر إلى منظمات مستقلة محلية لتطوير، ومراقبة، والدفاع عن حقوق الإنسان.
ومع تنامي الضغط العالمي والانفتاح المتعاظم لقنوات الاتصال والإعلام، فإن خطاب حقوق الإنسان والتقارير الخاصة بانتهاكات السعودية لحقوق الإنسان يحقّق انتشاراً واسعاً في المجال الدولي العام، ووصل إلى الجمهور في السعودية نفسها. وواصلت منابر حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، ومنظمة العفو الدولية، ومنظمة مراقبة الشرق الأوسط، ومنظمات حقوق الإنسان العربية في مراقبة ونشر الانتهاكات الحقوقية في السعودية، والتي تركّزت على مأزق العمال المهاجرين، والسجناء السياسيين، والمتاجرة بالبشر والنساء، وكذلك حقوق الأطفال والأقليات.
وفي سنة 2004، عقدت مجموعة من الناشطين والإصلاحيين السعوديين لقاءات بوحي من فكرة تأسيس أول منظمة حقوقية مستقلة في البلاد، وأطلقوا عليها (اللجنة الأهلية لحقوق الإنسان). وشملت المجموعة صحافيين، وكتاباً، وأساتذة جامعيين، ومحامين من كل المناطق. وفي هجوم استباقي، أعلنت الحكومة عن إنشاء هيئة جديدة باسم (الهيئة الوطنية لحقوق الإنسان)، عقب مرسوم ملكي وقّع عليه رئيس مجلس الوزراء (أي الملك). وبحسب المرسوم الملكي: ترتبط الهيئة بمجلس الوزراء بصورة مباشرة، وأن هدفها هو حماية حقوق الإنسان، بناء على المعاهدات والمواثيق الدولية. ويتم تعيين رئيس الهيئة من قبل رئيس مجلس الوزراء مباشرة. وتتألف عضوية الهيئة من ثمانية عشر عضواً يتم تعيينهم كأعضاء بدوام كامل، فيما يعيّن ستة آخرون بنصف دوام، برئاسة تركي السديري(2). ولم تبدأ الهيئة عملها إلا سنة 2007.
وفيما بدا واضحاً أن الهيئة مجرد منظمة حقوقية حكومية أكثر من كونها منظمة مجتمع مدني مستقلة، فإن منظمة أخرى رأت النور، وقد ناضلت للحفاظ على شكل من الاستقلالية. وتأسست اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان لتطبيق مواثيق حقوق الإنسان الدولية الموقّعة من قبل السعودية، بناء على نشرية حكومية (سفارة المملكة العربية السعودية 2004). وتضم اللجنة واحداً وأربعين عضواً، يتبوأ معظمهم مناصب حكومية. وكما هي الحال بالنسبة للجنة حقوق الإنسان، فإن الهيئة الجديدة تحظى بمصادقة الحكومة أكثر من كونها منظمة مستقلة غير حكومية (مجموعة الأزمات الدولية 2004:20). دشّنت اللجنة موقعاً على شبكة الإنترنت (3)، وأصدرت نشريات خبرية، وطبعت تقارير سنوية، وتلقّت شكاوى. وتحوّلت إلى رابط الاتصال مع ممثلين من منظمات حقوقية دولية مستقلة مثل منظمة العفو الدولية ومنظمة مراقبة الشرق الأوسط. واستقبلت باحثين من منظمات دولية، وسهّلت مهامهم البحثية وزياراتهم للسعودية، لتصبح حارس بوابة، ومركز دخول لأولئك الذين اكتشفوا أوضاع حقوق الإنسان في السعودية.
خصّصت اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان قسماً خاصاً بالشكاوى على موقعها على شبكة الإنترنت. ويشتمل ذلك حالياً على سلسلة مفرطة من المظالم المتعلقة بانتهاكات حقوق العمال، وامتهان المرأة، ومخالفات أخرى على مستوى الأمن الشخصي. وبحسب لوائح اللجنة فإن الأفراد المتظّلمين مدعوون لإرسال ملخّصات عن حالاتهم، مع وعد بأن اللجنة سترفعها إلى السلطات المعنيّة او المؤسسات الحكومية.
وعلى أية حال، فإن القسم الخاص بالشكاوى في موقع اللجنة كان فارغاً سنة 2008، وربما يعكس النطاق المحدود للجنة في العمل والتأثير. رغم ذلك، فإن اللجنة تبنّت حالات سجناء سعوديين في معتقل غوانتانامو، وقامت بين حين وآخر بمواكبة لمشكلتهم. وبدرجة مماثلة، تمّت الإضاءة بصورة منتظمة على حالة السجين السعودي في المعتقلات الإسرائيلية. وتعلن اللجنة، أيضاً، عن حالات السجناء السعوديين في لبنان والعراق، حيث تم اعتقال كثيرين للاشتباه في تورّطهم في نشاطات إرهابية.
على أية حال، لم تقم اللجنة، لحد الآن، بالإعلان عن قضية سجناء الرأي، والناشطين السياسيين أو المعارضين المعتقلين في السجون السعودية دون محاكمة لسنوات عديدة. فقد تفادت ذكر أية مخالفة لحقوق الإنسان من قبل أجهزة الأمن السعودي، ووزارة الداخلية، أو هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد اضطلع محامون مستقلون منهم، على سبيل المثال، عبد الرحمن اللاحم، بالعمل على حالات متعلّقة بنساء تعرّضن للاغتصاب، ووفيات ناجمة عن هجمات الشرطة الدينية. وكان معظم الشكاوى التي نشرت على موقع اللجنة على علاقة بالعنف المنزلي ضد المرأة وامتهان الطفل، وحالات أخرى غير سياسية. لا تشغل اللجنة نفسها بالاهتمام بالحقوق العامة مثل حرية الرأي، والاجتماع، أو حق إجراء انتخابات وطنية أو مظاهرات في البلاد. إن حقيقة كون أعضاء اللجنة هم موظّفون حكوميون يثير شكوكاً حول حياديتها واستقلالها. في مايو 2008، اقتيد الأكاديمي السعودي متروك الفالح من مكتبه من قبل رجال المباحث، ولم يكن أحد زملائه في كلية العلوم السياسية في جامعة الملك سعود، وهو عضو في اللجنة، قادراً على عرض قضيته. وجاء اعتقال الفالح عقب رسالة بثّها على شبكة الإنترنت حول الأوضاع المزرية للسجون السعودية، حيث كان أحد زملائه، عبد الله الحامد، يمضي حكماً بالسجن لمدة ستة أشهر لتحريضه أقارب معتقلين من النساء تجمّعن أمام سجن بريدة حيث جرى حبس أزواجهن، وآبائهن، وأخوانهن بدون محاكمة لسنوات عديدة. تسلّط مثل هذه الحالات الضوء على القيود المفروضة على عمل اللجنة، ما يجعلها عرضة كي تكون مجرد خطوة تجميلية نحو تحديث الحكم التسلّطي دون توجيه تحدٍ جدّي إزاء الممارسات القديمة.
وبالرغم من تأسيس هيئة حكومية (هيئة حقوق الإنسان)، ومنظمة أخرى مصادق عليها من قبل الحكومة (اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان) مع تفويض بحماية ومراقبة حقوق الإنسان، فإن الأوضاع ما تزال سيئة، بحسب مصادر دولية (4).
في اللعب بالكلمات على الشفاه في موضوعة حقوق الإنسان، أفاد ولي العهد عبد الله (الملك حالياً) من صورته المركّبة حديثاً كنصير للإصلاح، فيما يستمر كثير من السعوديين في رؤية خروقات وامتهانات الحكم التسلطي في حياتهم اليومية. فإجراءات صغيرة مثل الانتخابات البلدية، وهيئة حقوق الإنسان، واللجنة الوطنية لحقوق الإنسان هي أعمال رمزية لتبديد التوتر، تستجيب للضغط الدولي وتؤكّد الدور القيادي للملك. على أية حال، فإن القيادة لا تستجيب طائعة للمبادرات الإصلاحية في حال كان انبعاثها من داخل المجتمع المدني السعودي. فإذا ما أريد لأية خطوة باتجاه مشاركة سياسية أكبر أن تنجح لا بد أن تكون برعاية الملك. وبنفس القدر، فإن حماية ومراقبة حقوق الإنسان يمكن تحسين أدائهما بصورة أفضل من قبل منظمات من أعلى إلى أسفل، موصولة بدرجة وثيقة بأعلى مستوى في القيادة السياسية. فالإصلاح من أعلى يبقى السبيل المقبول نحو المكاسب الصغيرة من قبل الجمهور. وأصبحت أجندة الدولة في الإصلاح المفتاح لتأهيل الجمهور لعصر جديد، أي عصر الملك الجديد.
ملك جديد
حين رحل الملك فهد في أغسطس سنة 2005، احترمت العائلة المالكة خط التوارث وعيّنت عبد الله ملكاً، فيما بقي كل أمير كبير قوي محصّناً في موقعه باعتباره رئيساً لمنصب حكومي أساسي.
وكان مؤمًّلا أن يضع ميلاد عبد الله سنة 1924، الوارث لاستراتيجية عبد العزيز بن سعود في الزواج من بنات وأرامل الخصوم التاريخيين، نهاية للعداوة بين إمارة حائل المدحورة (إنظر الفصل الثاني) والمملكة السعودية الناشئة حديثاً. فقد كانت والدة عبد الله الشمّرية، فهدة بنت الشريم، أرملة سعود بن راشد، الذي حكم إمارة الرشيد قبل سقوطها على أيدي القوات السعودية ـ الوهابية سنة 1921. وواصل عبد الله تقليد والده، وضمّ بين زيجاته الكثر بنات الشعلان من قبيلة عنيزة، الفايز من قبيلة بني صخر، والجربه من الفرع العراقي لقبيلة شمّر.
وتأسيساً على خلفية والدته، فإن فيضاً من الصور قد تم تركيبها حول عبد الله. صور الملك بوصفه حافظاً للميراث القبلي العربي ـ البدوي ترعرعت فيما كانت السعودية تنجرف نحو العولمة وثقافة المستهلك. وكونه تلقى تربية تقليدية في البلاط الملكي وبدون تعليم حديث رسمي، فقد أفاد عبد الله من ميراثه. وقد تسببت روابطه من جهة الأم، وتعليمه المحدود، إلى جانب الإعاقة المبكرة في الكلام، في تأخير بروز نجوميته بين كثير من أبناء مؤسس المملكة، إبن سعود.
لم يتمكن عبد الله من تأمين موقع دائم له في المملكة السعودية سوى في سنة 1962، أي بعد ثلاثين عاماً من تأسيسها، حيث أصبح قائد الحرس الوطني، القوة العسكرية المؤّلفة من المحاربين القبليين الأوائل الذين احتّلوا مناطق شاسعة لصالح آل سعود باسم الجهاد ضد الكفر في الجزيرة العربية. في سنة 1929، حين أنجزت الفتوحات، جرى تنظيم القوة القبلية فيما تم استئصال المجموعات المتمرّدة، بمساعدة القوات الجوية الملكية البريطانية. وتمّ حشد الموالين في وحدات صغيرة لتشكّل قوة شبه عسكرية تضطلع بمهمة حماية العائلة المالكة. وتحت قيادة عبد الله، تطوّرت هذه القوة لتصبح مليشيا قبلية حديثة، متكافئة مع الجيش السعودي، الذي يقوده الأمير سلطان. وفي سنة 1985، جعل عبد الله الحرس الوطني مشرفاً على التراث القبلي، والرقصات الشعبية، وسباقات الإبل، والشعر القبلي عبر مأسسة احتفال الجنادرية. وأصبح عبد الله النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء سنة 1975 والنائب الأول لرئيس مجلس الوزراء سنة 1982.
وحين أصبح ولي العهد، عبد الله، الحاكم الفعلي سنة 1995، عقب طول أمد مرض الملك فهد (1982 ـ2005)، وملكاً في أغسطس 2005، كان تحدّيه الرئيسي الاحتفاظ بالسلطة وسط مجموعة معمّرة من الأمراء الأقوياء، إذ يطمع كل منهم أن يصبح ملكاً.
ورث عبد الله مملكة ممزقة بفعل الجماعات المتعارضة أيديولوجياً، والبطالة، والفساد، وانعدام الأمن، والإرهاب، ولكنها تنعم، أي المملكة، بطفرة نفطية ثانية. وفي سنة 1995، أُرغِم حرسه الوطني في الرياض على مواجهة الإرهاب، حين تم نسف مبنى سكني هام للأميركيين الذي يقدّمون دعماً للتدريبات العسكرية. وتكرّرت الموجة في المنطقة الشرقية الغنية بالنفط بتفجير أبراج الخبر سنة 1996.
حاول عبد الله التعامل مع الهموم المحلية المستعجلة. وقد أخفقت عملية إعادة هيكلة الاقتصاد السعودي، إلى جانب الانضمام الى منظمة التجارة العالمية وتسريع وتيرة الخصخصة، في احتواء الشباب، والعاطلين عن العمل من السعوديين. وأصبح توظيف المرأة قضية بحاجة إلى معالجات عاجلة. وتفجّرت التوّترات الإثنية والمذهبية والمناطقية مع احتلال العراق، وتزايد الاستقطاب بين السنة والشيعة في المنطقة. وتم إخضاع النظام التعليمي للمساءلة لفشله في تخريج عمال مهرة، كما واجه انتقادات لتأجيجه نزعة التشدّد. فقدأصبح دين الدولة نفسه مشكلاً، وخضع للمساءلة ليس من قبل الولايات المتحدة فحسب ولكن أيضاً من قبل السعوديين.
وحثّ كثير من السعوديين عبد الله، حين كان ولياً للعهد خلال فترة مرض الملك فهد، على الاهتمام بالقضايا الاجتماعية والتعليمية والشبابية والاقتصادية الملحة. وثمة قلّة تعتبر هذه المشاكل انعكاساً للتهميش السياسي للمجتمع والفرص المحدودة للمشاركة السياسية. وبدأ البعض في الدعوة إلى تحوّل راديكالي في النظام السياسي من شمولي إلى ملكي دستوري.
وفيما بدا عاجزاً عن الانخراط في الإصلاحات السياسية الداخلية الجادة، استثمر عبد الله سمعته في الخارج. وتبقى السياسة العربية الإقليمية هي الأرض الخصبة دائماً لتعزيز مصداقية القادة العرب لصرف الانتباه عن العيوب في الداخل/أي أوطانهم. فقد صبّ عبد الله إهتماماً كبيراً على فلسطين، مقتفياً بذلك أثر الحكّام العرب السابقين. وقد فشلت مبادرته العربية للسلام، التي عرضت ابتداءً على توماس فريدمان، الصحافي في جريدة نيويورك تايمز، وأعيد طرحها في القمة العربية في بيروت سنة 2002، في جلب السلام في مقابل الأرض. اقترح عبد الله السلام في مقابل انسحاب إسرائيلي الى حدود 1967، ملحّاً على حق عودة اللاجئين الفلسطينيين، ودعا إلى دولة فلسطينية تكون القدس عاصمة لها، ولكن إسرائيل رفضت ذلك.
إحياء المبادرة في مارس 2007 لم يسفر عن نتائج ملموسة بين المتحاربين الفلسطينيين والإسرائيليين. ومع وصول حماس الى السلطة تفجّر النزاع الفلسطيني الداخلي بين هذه المنظمة وفتح. وتأسيساً على الأهمية الرمزية لمكة في تصوّر/مخيال المسلمين، سعى عبد الله لعقد الاجتماعات هناك للتوفيق بين الأطراف الفلسطينية المتحاربة. ولكن النتيجة كانت: استمرار القتال وإزهاق العديد من الأرواح.
وفي إبريل 2003، أزاح احتلال الولايات المتحدة للعراق منافساً إقليمياً. وتنفّس عبد الله، إلى جانب حكّام خليجيين آخرين، الصعداء، ونعموا بنشوة مصرع نظام صدام. قلة هي التي أدركت بأن الاحتلال سيقدم على إطلاق واحدة من أكثر الحروب مأساوية ودموية في تاريخ العالم العربي بالقرب من حدودهم. لم يتوقع أحد بأن النموذج الديموقراطي الموعود في العراق سيفرض أي تهديد للمستبّدين الآخرين في المنطقة. مهما يكن، فإن الأفكار حول الطريقة التي يمكن بها احتواء الحرب الطائفية المتواصلة في العراق، وتنظيم القاعدة المؤسّس حديثاً في العراق، باتت من القضايا العاجلة بالنسبة لعبد الله. والأهم من ذلك، برزت إيران من خلال برنامجها النووي كقوة إقليمية جديدة، تملي ليس نتيجةحصاد الحرب في العراق، ولكن تتدخل أيضاً في صميم نسيج المجتمع والسياسة في العالم العربي، من خلال رعايتها للمجتمعات الشيعية والجماعات السياسية السنيّة. وبوجود أقلية شيعية مهمة في المنطقة الشرقية الثرية بالنفط في السعودية، بدا عبد الله متوتّراً حيال بروز القوة الشيعية.
وقد عبّر عبد الله، سوياً مع الرئيس المصري حسني مبارك والعاهل الأردني عبد الله الثاني، عن خطر بروز ما أطلق عليه بـ (الهلال الشيعي). إن حماية مصالح نظرائهم من السنة في العراق كان في وضع إشكالي بالنظر إلى تعقيدات المشهد العراقي ووجود القاعدة، والتي تقّدم نفسها أيضاً كمدافع عن السنة. أدان عبد الله التقاتل الطائفي، وشدّد على وحدة الدولة العراقية. ومرة أخرى في مكة، حيث تعهّد القادة العراقيون السنة والشيعة المتحاربون، وكذلك علماء الدين، بتجريم سفك دم المسلم، لتثبّت ـ أي مكة ـ بأنها المكان الصالح لعقد اجتماع برعاية سعودية. على أية حال، لم يفلح لا هذا اللقاء ولا زيادة الوجود العسكري الأميركي في وقف التفجيرات الانتحارية التي تستهدف المدنيين في المدن العراقية.
([) ورقة قدمت الى ندوة «من أجل الوحدة العربية.. رؤية إلى المستقبل»، التي عقدها مركز دراسات الوحدة العربية.
(1) يراقب برنامج التنمية التابع للأمم المتحدة التطابق/التوافق مع المعاهدات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان أنظر:
UNDP 2008
(2) لجنة حقوق الإنسان على الرابط: www.haq.ksa.org
(3) الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان على الرابط: www.nshr.org
(4) أنظر: رقابة الشرق الأوسط 2008 أ، و2008 ب
الحلقة الثالثة
يتطلب النفوذ الإيراني المتعاظم في المنطقة قوة مقابلة لإحداث توازن معها. وكانت تنظر الولايات المتحدة الى السعودية على أنها القوة الوازنة، ولكن أخفقت في الإقرار بذلك. وبالرغم من أنه يجلس على مداخيل نفطية هائلة فإن مؤهلات عبد الله كانت ضئيلة للغاية حتى بين المسلمين السنة في المنطقة. وعلاوة على ذلك كله، فإن عبد الله لم يكن قادراً على استخدام عوامل كبر السن، والسلطة التقيدية أو الكاريزما لصالحه من أجل حيازة مكانة خاصة بين الحكّام العرب. وسعت السعودية بكل ما تملك من أجل الحلول مكان مصر بعد الانزواء اللاحق للدور المصري سنة 1979، ولكن لم يقدر عبد الله على ذلك، سوى بعد مرور ثلاثة عقود تقريباً، حين نجح في ملء الفراغ تماماً كما فعل أخوه الملك فيصل.
أفضت حرب الثلاثة والثلاثين يوماً بين إسرائيل وحزب الله في صيف 2006 وفشل السعودية في الدفع باتجاه وقف فوري لإطلاق النار إلى تآكل مصداقية عبد الله. وبينما كانت الصحافة الإسرائيلية تنشر العديد من المقالات التي تمجّد عبد الله والصحافة المملوكة للسعودية، والتي تعكس صدى البيانات السعودية الرسمية والتي تسبغ على حرب حزب الله مع إسرائيل نعت (المغامرة)، فإن سمعة الملك سواء داخل السعودية أو في العالم العربي الواسع باتت موضع شك واستفهام. وفي ذلك الصيف، دخل عبد الله في خلاف حاد مع الرئيس السوري بشار الأسد، الذي وصف حكّام العرب المنهزمين بـ(أشباه/أنصاف الرجال). وبعد تلك الحرب، أصبح لافتاً بوضوح الاستقطاب في السياسة العربية بين ما عرف بالمعتدلين تحت قيادة السعودية، والمتشدّدين تحت رعاية إيران، وتلاشت قدرة عبد الله على التوفيق بين المعسكرين.
وبإضافة الخلاف مع سوريا حول لبنان والتوتر السابق مع ليبيا حيال المحاولة المزعومة لاغتياله، لم يتمكّن عبد الله من احتواء عداء الشركاء الآخرين داخل مجلس التعاون الخليجي. وقد تسبّب تدهور العلاقات مع قطر حول خلافات حدودية والمقاربة الإعلامية الجريئة والشفافة لقناة الجزيرة في علاقات مضطربة مع الدولة الصغيرة ولكن الغنية واللافتة. كما طفا التنافس المصري السعودي القديم على السطح حين أعلنت مصر بأنها غير متحمسة لفكرة بناء جسر يربط شرم الشيخ والسعودية. ومازال كلاهما يتنافسان على قيادة العالم العربي، ويحثّان الخطى، وبدرجة متساوية، لناحية كسب جدارة تبريد البقع الساخنة في العالم العربي.
كان عبد الله، بوصفه الملك الجديد، بحاجة الى حملة إعلامية فاعلة تنقش في مخيلات شعبه والمجتمع الدولي بداية عهد جديد. كان تشييع جنازة الملك فهد يُبَث على القنوات الفضائية المملوكة للسعودية، تعقبها صور للملك الجديد وهو يتلقى قسم البيعة من قطاع واسع من الجماهير الممثلة لمختلف مكوّنات المجتمع السعودي. وقد طوّر أعضاء في العائلة المالكة شكل الوحدة وقبلوا عبد الله كملك. ويدرك الأمراء الكبار بأن حكمه لن يقوّض مواقعهم أو يهدّد سيطرتهم المتجذّرة على سياسات الدولة، أو مخصّصاتهم المالية، أو نفوذهم في الدولة. فقد عيّن عبد الله سلطان ولياً للعهد وصادق على بقاء الأمراء الآخرين في مواقعهم الوزارية. وحده منصب النائب الثاني للملك، المؤسس منذ عهد الملك فيصل، الذي بقي شاغراً.
بدأ عبد الله مباشرة بتفكيك الصورة القديمة عن العائلة المالكة واستبدلها بدفعة جديدة من التشييدات. فقد تم استبدال أمير (fa³ade؟؟) مقرّب من النزعة المحافظية، والتقاليد والقيم القبلية بأمير آخر حداثي، مناصر للإصلاح، ومبيد للفقر. جال على مناطق مختلفة من المملكة، ورقص مع رعاياها، ووعد بتخفيف وطأة العيش والحرمان. وكان لجولات الملك هدف واحد: ربط الجمهور بالعهد الجديد وتعزيز دوره كقائد. يبقى أن الملك أدرك بأن قدرته على الدفع باتجاه إصلاح سياسي فاعل قد تقلّصت من قبل أمراء كبار أقوياء آخرين، وخصوصاً من يمسكون بزمام السيطرة على الأمن الداخلي والخارجي للنظام، أي وزيري الداخلية والدفاع. وجلبت المواجهة الداخلية بين الدولة والقاعدة منذ 2003، الضوء إلى الدور المركزي الذي لعبته، فحسب، هذه الوزارات في السعودية. وبالرغم من كون عبد الله قائداً للحرس الوطني السعودي، فإن قدرته تركّزت في موازنة نفوذ الأمراء الآخرين أكثر من اهتمامه بتقرير مسار التطوّر العام في الشؤون السياسية للمملكة. وقد كان عليه قبول تشظي السياسة السعودية وانتشار مراكز صنع القرار داخل الدولة. وأصبح عبد الله بطل تحديث الحكم التسلّطي في السعودية(1).
إصلاح العائلة المالكة: هيئة البيعة
في أكتوبر 2007، وفي مواجهة خطر تشظي السياسة الملكية وإدغام المتنافسين الأقوياء على العرش، شرع عبد الله في مبادرة هي الأولى من نوعها لإصلاح الشؤون الداخلية للعائلة المالكة. وأعلن في مرسوم ملكي عن تأسيس ما سمي بصورة رسمية (هيئة البيعة)، والتي تحدّدت وظيفتها في ضمان توارث سلس على العرش بعد موت كل من الملك عبد الله وولي العهد سلطان. وكانت الهيئة قد نشأت في ديسمبر 2007، حين استقبل الملك عبد الله أعضاءها وحثّهم على (الوقوف موحّدين، وتسوية كل الخلافات بالحوار الشفاف، ومن دون السماح لقوى خارجية بالتدخل في شؤونكم الخاصة) (أراب نيوز، 11 ديسمبر 2007).
تتألف الهيئة من خمسة وثلاثين عضواً: الأحياء من أبناء مؤسس المملكة، إبن سعود، وأبناء أبناء المؤسس من الأموات. فالأمراء من كبار السن والمرضى يمثّلون من خلال أبنائهم. وتم تعيين الأمير مشعل، النائب السابق لوزير الدفاع وحاكم مكّة، في منصب رئيس الهيئة. أما القادم الجديد من خارج العائلة، خالد التويجري، رئيس ديوان المظالم، فتمّ تعيينه في منصب (أمين سر) الهيئة.
وينص دستور الهيئة على أن تصبح الأخيرة سارية المفعول فقط بعد موت الملك عبد الله وخليفته، سلطان. وبالنظر إلى أعمار الأحياء من أبناء إبن سعود، فإن الهيئة معنية بانتخاب ملك بالإجماع منهم أو من أبنائهم. وبموجب اللوائح التنظيمية الخاصة بالهيئة، تعقد الأخيرة، فور وفاة الملك، اجتماعاً من أجل تسمية الملك الجديد بصورة رسمية. وفي غضون عشرة أيام، يجب أن يقوم الملك الجديد بتسمية ولي عهده، أو أن يطلب من اللجنة ترشيح واحد من طرفها. في توقّع الحال الصحية بسبب كبر السن، أو المرض، فإن نظام الهيئة يشتمل على تشكيل لجنة طبية تقرر الوضع الصحي للملك وولي العهد. وتسلّم الهيئة تقريراً مختوماً وبصورة سرية إلى رئيس الهيئة، الذي يملك حق وضعه بتصرف بقية الأعضاء خلال اجتماع الهيئة.
وتعتبر هيئة البيعة آلية ممأسسة، وأن غرضها في الأساس هو تنظيم عملية انتقال العرش من ملك الى آخر، في حال لم يكن خط التوارث واضحاً في حال موت الملك عبد الله وولي العهد سلطان(2). وقد لا يكون مبدأ التوارث السابق، الذي يحدد انتقال الملك أفقياً بين أبناء إبن سعود ممكناً في المستقبل، وعليه طرحت الهيئة إمكانية تجاوز أمير أو أمراء كبار، وربما التحرّك عمودياً إلى أحفاد مؤسس السعودية. وقد يفرض كبر السن والمرض الصحي، اللذان لهما تأثيرات حالياً على الورثة الممكنين الباقين للعرش، تحدّيات في المستقبل على عملية التوارث. أبناء إبن سعود الباقون هم جميعاً في أواخر السبعين والثمانين من أعمارهم، ومن المحتمل أنهم يعانون من أمراض مزمنة، شأن الملك فهد. ومن أجل التحصين ضد اعتلاء العرش من قبل ملك معمّر، أو معوّق، لكون مبدأ الأسبقية الأفقية يستوجب احترامه كما كان في السابق، تسمح الهيئة بانتخاب الملك بتجاوز الأشخاص غير المناسبين أو حتى اختيار واحد من بين أعضاء الجيل الثاني. من الناحية النظرية، فإن الهيئة ستكفل الإجماع بين المتنافسين من خلال انتخاب الملك وولي العهد القادمين. ولكن تبقى رؤية ما إذا كانت العملية ستؤول الى توارث سلس في المستقبل، خصوصاً حين يدخل أعضاء الجيل الثاني حلبة المنافسة على القيادة في أعلى مستوى، عقب موت الملك عبد الله وولي العهد الأمير سلطان.
وبانتظار هذه الاحتمالية، قام كل أمير، من كبار الأمراء، بتعيين واحدٍ أو أكثر من أبنائه كوكلاء ومساعدين. أبناء الملك الحالي، ولي العهد، وزير الداخلية، وزير الدفاع، وأمراء كبار آخرون هم في مناصب حكومية أساسية، ومعدّة بصورة مناسبة للضغط من أجل أدوار قيادية في المستقبل. ومن المحتمل أن يرث أبناء الأمراء الكبار الحاليين وزارات آبائهم في المستقبل، في حال أي موت فجائي لأحدهم، وقد يثبت بأن ذلك أكثر تعقيداً فيما لو دخل أعضاء الجيل الثاني المنافسة على العرش. وقد يكشف أفق المنافسة على الملك بين محمد بن نايف، ومتعب بن عبد الله، بندر بن سلطان، خالد بن سلطان أو حتى الوليد بن طلال، عن أن ذلك يمثّل تحدّياً حقيقياً بالنسبة لهيئة البيعة. وفي الوقت الحالي، لا الملك عبد الله ولا كبار الأمراء الآخرين من بوسعه تبني مبدأ التوارث العمودي، والذي يقصي الأحياء من أبناء إبن سعود والمتحدّرين منهم من أجل حصر الملك في حدود خط واحد من النسب. وفي الوقت الحاضر، فإن الهيئة قد تكون الخيار الأفضل المتاح للعائلة المالكة لترتيب شؤونها الداخلية، في غياب تدخل حقيقي أو محتمل من المجتمع السعودي أو منافسة داخل البيت الملكي.
وتقدّم هيئة البيعة دليلاً على أن السياسة والقيادة هما شأن خاص بالعائلة المالكة، وخارج نفوذ أي جهاز آخر في المملكة. وتملي الملكية المطلقة، بصرف النظر عن أي ضغط، داخلي أو خارجي، قدراً أكبر من الاستيعاب والمشاركة السياسية. وقد أقصت العائلة المالكة المجتمع السعودي، أو ما يدعى غالباً (أهل الحل والعقد)، من التعامل مع قضية ينظر إليها باعتبارها امتيازاً عائلياً خالصاً.
وكانت تُعنَى الهيئة بتقديم المرشَّح للعرش الى الشعب السعودي، الذي سيمنحه في وقت لاحق المبايعة والولاء له. ولا توجد في السعودية مؤسسات أو جماعات ضغط تدفع باتجاه تعيين شخص ما في منصب الملك على حساب المنافس الآخر. وحتى المؤسسة الدينية غير ممثلة أو مورد استشارة الهيئة. وليس هناك هيئة تمثيل منتخبة قد تؤثر على قرار الهيئة. فالمعركة من أجل موقع ملك المستقبل تندلع وتحل بين العائلة المالكة في لقاءات سرية. ويكفل الترتيب الجديد استمرارية النظام الملكي ضد مخاطر الديموغرافيا، والتنافس والنزاع الداخليين، أو العزلة من المجتمع، أو جماعات الضغط خارج العائلة المالكة.
التنمية… بديلاً عن الإصلاح السياسي
بعد تأمين برقرطة التوارث الملكي، توّجه الملك وكبار الأمراء والمتعهّدون الملكيون إلى أنصارهم في محاولة لكسب قبولها. وقد جرى إحياء الآلية القديمة لتوزيع الشرهات (المعونات/الهدايا/ العطايا) مع الثروة الجديدة لعام 2003.
وبطريقة تبعث ذكريات السبعينيات، دخلت العائلة المالكة في سباق لتوزيع فائضات الدخل، وزيادة الاعتماد، وكسب الولاء. فالمداخيل ليست جوهرية الآن فحسب، ولكنها أيضاً مصادر للهبات والمنح. فكل أمير وأبنائه أصبحوا مراكز لتوزيع الحسنات (الصدقات)، وفرص العمل في مؤسساتهم المالية والتجارية الخاصة، وكذلك مخصصات أخرى التي لا يمكن للمواطنين الحصول عليها عبر بيروقراطيات دولة الرعاية الإعتيادية.
المنح الدراسية أعيدت إلى سابق عهدها بعد فترة انقطاع وتلكؤ في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي. وتم ابتعاث رجال ونساء للخارج في منح دراسية على حساب الحكومة، فيما سجّل آخرون في معاهد محلية حديثة التأسيس، وكذلك كليات مهنيّة. ولكن لم يحصل الطلبة على وظائف مضمونة بعد استكمال دراساتهم. وجرى التعامل مع التضخم المتزايد وأسعار المواد الغذائية عبر الزيادة المنتظمة في المرتبات الشهرية. وعكست الحكومة سياستها واعدة بدعم بعض المواد التموينية مثل الرز، والقمح، ومواد غذائية أساسية أخرى.
وبطريقة مماثلة لما سبقها في السبعينيات من القرن الماضي، أعلن الملك عن برنامج تنموي، يتضمّن إنشاء ست مدن صناعية جديدة. وبدأ العمل على مدينة الملك عبد الله الاقتصادية، شمال مدينة جدة، بتوظيف واعد في المعامل الصناعية ـ وبصورة رئيسية البتروكيماويات، الألومنيوم، الحديد، والمخصّبات ـ الخدمات البنكية، والشحن. ويفترض أن تقوم المدينة بتزويد فرص عمل جديدة ووحدات سكنية للعمال (Mouawad 2008). وتشمل الخطة بناء منازل سكنية، ومدارس، ومساجد لأفراد قوة العمل المستقبلية. لحد الآن، اعتمدت الحكومة على آلاف من عمال البناء الأجانب، وبدرجة أساسية من الصين والشرق الأقصى، لبناء هذه المدينة. وتسبب ارتفاع أسعار مواد البناء مثل الاسمنت والحديد في زيادة كلفة المشروع، وعليه امتصاص ملايين الدولارات من مداخيل النفط.
واشتملت الأجندة الإصلاحية للدولة على التواصل مع المجتمع الدولي لتبديد الدعاية السيئة المرتبطة بالحادي عشر من سبتمبر. فقد زار الملك عبد الله الولايات المتحدة، وعدداً من العواصم الأوروبية والأسيوية. والتقى البابا بنديكت في الفاتيكان، ودعا إلى حوار واسع بين الأديان الإبراهيمية. وفي 2008، رعى الملك عبد الله مؤتمراً في مكة، حيث التقى أكثر من 400 عالم إسلامي لمناقشة إمكانية ومستقبل الحوار بين الأديان. وفيما ناقش علماء المسلمين من كل أرجاء العالم آفاق وحدود هذا الحوار، فإن بعض علماء الدين السعوديين استنكروا ذلك، الأمر الذي تسبب في إحراج القيادة وتقويض جهودها في جلب علماء مسيحيين ويهود ومن ديانات أخرى كيما يكونوا وجهاً لوجه على الأراضي السعودية. وأصدر الشيخ عبد الرحمن البراك بياناً اعلن فيه بأن حوار الأديان غير إسلامي. وخشي علماء دين آخرون من أن تخضع الحكومة للضغط الدولي المطالب بالإعتراف وحرية الديانات الأخرى، وبناء كنائس في السعودية، كما حصل في الخليج، حيث يتوافر على كنائس مسيحية ومعابد هندوسية لاستيعاب العدد المتزايد من العمال المهاجرين من غير المسلمين. وفيما كان الملك يتواصل مع الأديان الأخرى، أصدر علماء دين سعوديون عريضة ضد الشيعة، يدينون فيها هرطقتهم، وكفرهم، ويحذّرون من نفوذهم في المجتمع السعودي نفسه.
([) ورقة قدمت الى ندوة «من أجل الوحدة العربية… رؤية إلى المستقبل»، التي عقدها مركز دراسات الوحدة العربية.
(1) قامت الصحافة السعودية بتمجيد عبد الله والتزمت الصمت بخصوص عجزه عن التعامل مع المطالب السياسية العاجلة. للتعرّف على تصريح نمطي حول الدور الكبير للملك عبد الله في الصحافة السعودية، أنظر: السعودية سنة 2008، في الصحيفة السعودية الالكترونية إيلاف
(2) نشر عوض البادي مميزات هيئة البيعة، كخطوة باتجاه إصلاح العائلة المالكة: أنظر: al-Badi 2008
الحلقة الرابعة
الأجندة الإصلاحية للمجتمع
وفيما كان الاحتجاج الإسلاموي في التسعينيات من القرن الماضي يتركّز على المطالبة بأسلمة الدولة، فإن المثقفين والناشطين السعوديين في القرن الحادي والعشرين، بمن فيهم الإسلاميون، ذهبوا بعيداً عن هذا الهدف ونادوا بملكية دستورية، ومشاركة سياسية أوسع، واحترام لحقوق الإنسان، وشفافية، وتقليص صلاحيات وسلطات وزارة الداخلية. وأمّل ناشطون في المجتمع السعودي بأن يكون الملك عبد الله قادراً على وضع حدّ للرقابة والتدابير الأمنية القاسية للوزارة، التي أحكمت قبضتها على السكان بذريعة الحرب على الإرهاب.
سعوديون يطالبون بالإصلاح السياسي
تبلور في فترة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر، توجّه جديد داخل السعودية، يتألف بصورة رئيسية من ليبراليين وإسلاميين وغيرهم. وعُرِف المناصرون لهذا التوّجه بدعاة الإصلاح الدستوري(1). وكان معظم هؤلاء أكاديميين، وخبراء، وكتّاباً، وتجّاراً، بمثابة توليفة من الأفراد من ذوي توجّهات أيديولوجية متباينة في السابق. ولدى بعضهم علاقة بالحركة الإسلامية في التسعينيات من القرن الماضي، والبعض الآخر قوميون سابقون (ناصريون وبعثيون) وشيوعيون. وأمضى كثيرون أحكاماً بالسجن في الماضي. جاؤوا سوياً، متعالين على تبايناتهم الأيديولوجية، ينشدون أجندة إصلاحية شاملة، توحّد شعباً يحمل نظرات سياسية متباينة بل وحتى متعارضة.
ودعا هؤلاء الى الاصلاح المؤسس على النص الإسلامي بما لا يؤول إلى تقويض دور القيادة السعودية. وشجّعتهم رغبة الملك بتبني لغة الإصلاح، والتواصل مع الجمهور في محاولة لاحتواء الإرهاب ومكافحته.
والتمس الإصلاحيون الدستوريون من عبد الله تأسيس مجلس شورى منتخب، واستبدال مجلس الشورى المعيّن المؤلف من 120 عضواً الذي ورثه من الملك فهد. كما نادوا بفصل السلطات، واستقلال القضاء، واحترام حقوق الإنسان. وفي الفترة ما بين 2003 و2005، رُفِعَت أكثر من ست عرائض إلى عبد الله تطالب بالحريات الأساسية والمشاركة السياسية.
أطلق كثير من المراقبين على موجة العرائض نعت (ربيع الرياض)، الذي يسوّق السعودية في القرن الحادي والعشرين الى دولة مؤسسات بدلاً من دولة أمراء. وفي يناير 2003، طالبت واحدة من أهم العرائض بحكم دستوري في السعودية. وكشفت شخصيات مثل عبد الله الحامد، ومتروك الفالح، وعلي الدميني، ومحمد سعيد الطيب، وأكثر من مئة من الموقّعين على العريضة عن أجندة إصلاحية جديدة تمحوّرت حول نقاط عدة: أولوية الإصلاح السياسي، تأصيل الدستورية في الفقه الإسلامي، تعزيز الوحدة الوطنية، مركزية القيادة السعودية، المساواة والعدالة الاجتماعية.
في العرائض اللاحقة، سلّط الموقّعون أنفسهم على مخاطر تجاهل النداءات من أجل الإصلاح السياسي وتهميش المجتمع في المشاورات المستقبلية وعملية صنع القرار. وفيما واصل ـ الإصلاحيون الدستوريون ـ في إطلاع القيادة بقدر كبير من الاحترام، مع ضمان الولاء والطاعة، عكست لغة العرائض اللاحقة إحباطهم وخيبة أملهم إزاء عدم رغبة الملك في الاكتراث بمطالبهم. وحصلت مجموعة من الناشطين المشتغلين على هذا الحراك على رسائل مختلطة. فقد تلقوا تشجيعاً من جهة في القيادة، فيما نالوا توبيخاً من أمير آخر. ودعي كثير من مقدّمي العرائض (الملتمسين) للاجتماع في وزارة الداخلية للتحقيق والتحذير، بعد لقائهم بالملك، الذي عبّر لهم عن رغبته بالاستماع لمطالبهم. والتزمت الصحافة المحلية الصمت حيال موجة التعبئة، وعجزت عن نشر أي من العرائض التي راجت بحرية تامة في شبكة الإنترنت، وطبعت في وقت لاحق في كتيبات خارج السعودية.
فقد تبدّد حلم الإصلاحيين حين أقدم وزير الداخلية القوي، الأمير نايف على اعتقال العديد من الموقعين على العريضة في مارس 2004، ونالوا فيما بعد أحكاماً بالسجن تتراوح بين 7 ـ 9 سنوات(2). خضع الإصلاحيون تحت تأثير وهم بأن عبد الله سيشرع في الإصلاحات حال أن يصبح ملكاً. على أية حال، إن أقصى ما كان بمقدورهم القيام به هو الإفراج عن المعتقلين بأمر ملكي في 2005، وإسقاط التهم الموجّهة ضد المعارضين والناشطين الآخرين، وقد تمّت مصادرة جوازات وحرمان كثير منهم من السفر للخارج أو التواصل مع الإعلام الدولي (MacFarquhar 2005; Fattah 2007). وعليه، أخفق عبد الله في وقف موجة الاضطهاد التي نشرها أخوه القوي الأمير نايف في البلاد. وتواصلت الاعتقالات، مع عجز عبد الله في إحكام السيطرة على جموح أخيه، وجرت جميعها تحت ذريعة الحرب على الإرهاب (Middle East Economic Survey 2004). وفي فبراير 2007، قادت موجة اعتقالات إلى سجن أكثر من خمسة عشر شخصاً، لم تعرف جرائمهم بعد. وشملت موجة الاعتقالات مدوّنين وكتّاب الإنترنت الذين عبّروا عن تعاطفهم مع المعتقلين السياسيين، أو كشفوا عن تغوّل التدابير الأمنية في السجون.
وبحلول 2008 بلغت موجة العرائض نهايتها، حيث تم إسكات كثير من الإصلاحيين بعد إطلاق سراحهم من السجن، وفي بعض الحالات كانت حريتهم مشروطة بالابتعاد عن أي نشاط مستقبلي. أما بالنسبة لأولئك الذين التزموا بالمشروع واستمروا في إصدار العرائض أو نشر آراء نقدية فتمت إعادتهم للسجن، لتمضية أحكام بالسجن ذات صلة بنشاطاتهم. فقد عاد عبد الله الحامد، الذي تم الإفراج عنه في 2005، إلى السجن سنة 2007، مع أخيه عيسى، في أعقاب التحريض على مظاهرة صغيرة من قبل نساء سعوديات قبالة بوابات سجن مشهور في بريدة. أما الإصلاحيون الآخرون فأعلنوا انسحابهم من مجموعة الإصلاح الدستوري وكتبوا مقالات ينتقدون فيها رفاق دربهم السابقين. ومن الصعب التحقّق ما إذا كان ذلك ناشئاً عن ضغوط أو قرار شخصي محض. وعلى أية حال، بدا واضحاً أن الدولة كانت قادرة على احتواء حركة الإصلاح الدستوري ورسّبت الانقسامات الداخلية بين الناس، الذين اختلفت توجّهاتهم الأيديولوجية السابقة بدرجة كبيرة. كان تلاقي الإصلاحيين جميعاً تحت مظلة جامعة بقائمة مشتركة من المطالب تجربة قصيرة الأمد، حصدت زخماً تحت تأثير ضغوط محددة كانت تواجه السعودية. وتبقى الدولة قوية في بعثرة الاتجاهات السياسية البارزة، واضعة إياهم تحت تصرف سلطة قهرية مهولة، وجماعات أخرى راغبة في إدانة أي مؤشرات على التسييس. وتواصل استخدام علماء الدين الرسميين، إلى جانب القضاة المعينين، لإدانة المعارضين والناشطين السياسيين. وقد واجهت نداءات من أجل الدستورية بياناً يدين الطبيعة غير الإسلامية لدساتير من صنع البشر، والتذكير بأن دستور السعودية هو القرآن. وبقي الإصلاحيون مجموعة نخبوية، عجزت عن الوصول إلى قطاع واسع من المجتمع السعودي. وقام مؤيدون من الشباب للإصلاحيين بتعميم قضيتهم، وبعثوا برسائل إلى منظمات حقوقية دولية وعربية، ونشروا رسالتهم في الإصلاح عبر الإنترنت. على أية حال، بقي الإصلاحيون غير منظمين وعاجزين عن تعبئة الجمهور على الأرض.
أقليات: البحث عن اعتراف
في الوقت الذي قدّم الإصلاحيون الدستوريون مطالبهم، انخرطت أقليات مثل الشيعة في المنطقة الشرقية والإسماعيلية في الجنوب الغربي في حراك تركّز على مطالب تخص أوضاعهم كأقليات دينية في السعودية. فقد وجد الشيعة في السعودية، الذين أوقفوا صراعهم مع النظام سنة 1993 وعادوا الى السعودية، فرصة، بعد عقد من الزمن، في الحركة الإصلاحية الدستورية. التحق بعض الناشطين الشيعة بالإصلاحيين الدستوريين ووقّعوا عرائض سابقة. وأصبحوا داعمين فاعلين لحركة الإصلاح الدستوري، متخلين عن رؤيتهم الضيقة لنشاطهم السابق، والذي كان يتمحور حول قضايا محدودة بتحسين أوضاع المجتمع الشيعي. وكان الناشطون الشيعة حريصين على أن ينظر إليهم كجزء من وطن أكثر من كونهم جماعة منفصـلة، في منطقة حيث يهيمن الشيعة في العراق، عقب إطاحة صدام في 2003، الذي كان بداية قلق ليس بالنسبة للسعودية فحسب، وإنما للأنظمة العربية الأخرى(3).
حصل ناشطون ورجال دين شيعة معروفون مثل حسن الصفار، وتوفيق السيف، وجعفر الشايب، ونجيب الخنيزي على ضوء أخضر للدخول إلى الشأن العام. وكان رجل الدين حسن الصفار قد تلقى دعوة بالمشاركة في واحدة من لقاءات الحوار الوطني، وشارك في أحد اللقاءات مع سلفيين سعوديين متشدّدين.
ونشر كتّاب شيعة مقالات في الصحف المحلية تدعو إلى التسامح الديني، ووضع نهاية للتمييز ضد (الآخر). وتم انتخاب جعفر الشايب، ناشط معروف، في مجلس بلدية القطيف سنة 2005. وركّزت شخصيات عامة شيعية على موضوعات مثل التسامح الديني، والوحدة الوطنية. ولقيت انتقاداتهم للتطرف الديني والتعصب قبولاً من قبل الصحافة الرسمية المحلية على وقع ضغط الهجومات الإرهابية. وشأن علماء دين وكتّاب وصحافيين سعوديين آخرين، جرى تجنيد الشيعة للتطوّع في الحرب على الإرهاب من قبل نظام تأهب لاستثمار هواجسهم الجدّية بشأن الجماعات السنيّة الراديكالية لكسب المزيد من النفوذ في السعودية. ويعدّ الشيعة أول مجموعة تم استهدافها في فتوى وهابية سابقة، وصمتهم بـ (الرافضة)، الذين شوّهوا الإسلام. وكان للنفوذ المتنامي للشيعة في العراق أثر ضئيل لناحية تبديد التوتر الطائفي في السعودية، فيما تواصلت فتاوى تكفير الشيعة بصورة عامة بالصدور من قبل علماء دين سعوديين معروفين مثل ناصر العمر، وسفر الحوالي، وعبد الرحمن البراك وآخرين. في المقابل، تفادى بعض العلماء الصحويين مثل سلمان العودة ذكر الشيعة في الخطب والبرامج الإعلامية.
يشدّد الآن الناشطون الشيعة، الذين استلهموا في الثمانينيات من الثورة الإيرانية سنة 1979، وطالبوا بتغيير ثوري، على أهمية مفاهيم شاملة للمواطنة، بصرف النظر عن الانتماء المذهبي. وفي سنة 2003، وقّع أكثر من 400 رجل دين، وأكاديمي، وخبير، وكاتب شيعي على عريضة بعنوان (شركاء في الوطن)، طالبوا فيها بالاعتراف بمذهبهم والتمثيل في الحكومة، ومجلس الشورى، وهيئة كبار العلماء، والمنظمات الإسلامية الدولية برعاية السعودية، ورفعوها إلى عبد الله، ولي العهد آنذاك. وسلّطت العريضة الضوء على استمرار التمييز الديني والاقتـصادي ضد الشيعة، بالرغم من المصالحة الرسمية ووعود الحكومة سنة 1993. قدّم الموقّعون البيعة للقيادة، وأكّدوا على مركزية الوحـدة الوطنية، التي قالوا بأنها لا تتحـقق إلا عبر المــساواة، وإنهاء التمييز في التعليم، والتوظيف، وتجريم التعصب والكراهية الدينية، وحظر الفتاوى ضد مذهبهم واحترام المحاكم والطقوس الدينية الشيعية.
وفي الوقت الذي أحجمت الحكومة عن عمل كل ما من شأنه منع الفتاوى ضد الشيعة، فإن المؤسسة الدينية، ممثلة في المفتي العام عبد العزيز آل الشيخ، تحاشت التطرّق لمسألة الشيعة، فيما أصدر، أحياناً، علماء آخرون فتاوى تكفّر الشيعة وتحذّر المسلمين بأنهم متآمرون خطرون. الحرب الطائفية في العراق التي أعقبت الاحتلال، وتنامي نفوذ حزب الله في لبنان، جلبت موجة من الفتاوى التي تدين الشيعة وتصوّرهم على أنهم عملاء كفرة لإيران. وكان عالم وهابي نافذ، ناصر العمر، أصدر كتيباً بعنوان (الرافضة في بلاد التوحيد). وينص الكتيب بوضوح على أن الشيعة مذهب خارج عن الإسلام الحقيقي. وأفرد قائمة بالامتيازات التي يحوزونها مثل، المدارس، المساجد، الحسينيات في المنطقة الشرقية، والتي يعتبرها مؤشراً خطراً، ما يعكس تفوّقهم (العمر د.ت).
وقام ـ العمر، لاحقاً، بتقصي سيطرة الشيعة على القطاعين الاقتصادي والتعليمي في المنطقة نفسها، ونشاطهم التبشيري خلال موسم الحج. وتوصّل إلى أن الشيعة آثمون بفعل ممارساتهم الشركية، ويجب إيقافهم قبل أن ينشروا طقوسهم وعقائدهم الضالة. وأصدر شيخ صحوي آخر، سفر الحوالي، بياناً شديد اللهجة، يرّد فيه على مزاعم الشيعة بأنهم يتعرضون للتمييز في السعودية، وحذّر الحكومة من تبني موقف تصالحي. وقارن/قابل التطوّر في المنطقة الشرقية بنظيره في منطقته، عسير، وخلص إلى أن الشيعة أفادوا من الثروة النفطية بينما بقيت منطقته متخلفة. وزعم بأن الشعور بمعاناة التمييز لدى الشيعة نابع من جريرة علمائهم، الذين يفرضون ضرائب عالية عليهم، وهم على استعداد لتسديدها (Al-Rasheed 2007: 90). وأخيراً، حذّر الحكومة بأنها إذا كانت ستستجيب للمظالم المزعومة لدى الشيعة، فإن الجماعات والمناطق الأخرى في السعودية ستطالب بمعاملة متساوية، بما يهيئ فرصة للعصيان المدني، والاحتجاج، والفوضى وانقسام البلاد على سمت خطوط مناطقية ومذهبية.
يتعارض ذلك مع ما طالب به ناشطون شيعة، أي وقف التمييز وعدم المساواة، والذين يخشوا بأن تفضي إلى تصعيد مشاعر العزلة والنزعات الانفصالية.
وفي يونيو 2008، وفيما كان الملك عبد الله يرأس مؤتمراً دولياً في مكة لتطوير حوار الأديان، حضره كثير من ممثلي الشيعة الإيرانيين، وقّعت مجموعة مؤلفة من اثنين وعشرين عالماً سعودياً رسالة تدين الشيعة(4). وقد حضر المؤتمر آية الله هاشمي رفسنجاني، رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام (في النص الأصلي: رئيس مجلس الخبراء وهذا خطأ على ما يبدو) والرئيس السابق، الذي قام بجولة حول المدن السعودية. شجب الشيخ الشيعي توفيق العامر، مستخدماً منبر خطبة الجمعة، الفتوى السنيّة ودافع عن الشيعة ضد الرأي المستنقص لقدرهم من قبل النواصب، وهو النعت الإزدرائي الذي يستعمله الشيعة، لأولئك السنة الذين يكرهون أهل البيت. وقد تمّ اعتقاله بعد الخطبة، ولكن تم إخلاء سبيله فيما بعد. إلتزمت الحكومة الصمت حيال فتوى الاثنين وعشرين عالماً وهابياً، الذين استمروا في عقد ندوات خاصة، وإلقاء خطب في مساجد الرياض. ومع ذلك، أوفدت الحكومة الشيخ السني محمد النجيمي لمقابلة العالم الشيعي حسن الصفار في محاولة لامتصاص التوتر المذهبي، وتوضيح أن العلماء الرسميين لم يجيزوا الفتوى.
وعموماً، فإن الحراك الشيعي خلال هذه الفترة أدّى إلى ظهور لافت في الشأن العام، تمظهر في السماح لهم باستعلان طقوس العزاء السنوية في أماكن مصمّمة خصيصاً لذلك. على أية حال، وقع الشيعة بين حدي وعود الحكومة وفتاوى العلماء الراديكاليين. وآثروا التعالق مع الحكومة وانتظار التحسّن التدريجي في أوضاعهم. ونجحت الدولة في تفتيت المعارضة الشيعية، تماماً كما كانت قادرة على تبديد حركة الإصلاح الدستوري من خلال وضع اليد/السيطرة على لهجة الإصلاح. وبقي بعض الناشطين الشيـعة خارج السـعودية، ربما كخــطوة في سبــيل بلوغ المـدى الأقصى بخيـارتهم في المستقــبل. على أية حال، هناك أصــوات شيعــية نقدية عالية في واشنطن ولندن. ويجري التعبــير عن كـثير من المطالب التي يحملونـها من خلال مواقـع خبرية ومنتديات حوارية على شــبكة الإنترنت. وقد تــثبت المنـابر الإعلامـية الشيــعية الجديدة بكونها ذات أهمية في تعبئة القوى في المستقبل.
ثمة أقليات أخرى بدأت تبرز أيضاً مثل الإسماعيلية في نجران ومدن طرفية أخرى في الجنوب الغربي، والتي برزت للعلن لأول مرة سنة 2003. وكان ناشطون إسماعيلون رفعوا عريضة إلى القيادة السعودية بعنوان (الوطن للجميع والجميع للوطن). وكما هو الحال بالنسبة للشيعة، فقد شدّد الإسماعيليون على أنهم ينتمون إلى السعودية، ويقدّمون الولاء للقيادة. وشكا هؤلاء من الحرمان الاقتصادي والتمييز الديني. وسلّطوا الضوء على قضية سجناء الرأي الإسماعيليين، والانتهاكات في السجون، والعقوبة الجماعية. وعارضوا بشكّل محدّد ما وصفوه فتاوى التكفير، التي تضعهم خارج دائرة الإسلام، وطالبوا القيادة بإيقافهم وإنزال عقوبة بأولئك العلماء الوهابيين التي يصدرونها. ولفتت العريضة الإسماعيلية الانتباه إلى سياسة الحكومة في توطين غير الإسماعيليين في منطقتهم لجهة تعديل التركيبة المذهبية لهذه المناطق. وتشمل تلك السياسة مصادرة أراض تابعة للإسماعيليين وتوطين غرباء في أوساطهم. كما اعتبروا افتقار المنطقة ـ عسير إلى مشاريع تنموية ومراكز تعليمية متقدّمة معوّقات أمام الاندماج والوحدة الوطنية.
أصبحت جماعات دينية أخرى منها، على سبيل المثال، الصوفية في الحجاز أشد وضوحاً. وصدرت مبادرات متنوّعة لتسليط الضوء على الخصوصية الثقافية لهذه المنطقة الحضرية، وحماية تراثها وفنها المعماري الإسلامي، والتأكيد على تعدّديتها التاريخية الدينية، وتوثيق تنوّع ماضيها الإسلامي والذي سمح للمثقفين وعلماء الدين، والشخصيات العامة في الحجاز لإجراء مقابلات مع وسائل الإعلام الدولية، وكان بعضها نقدياً للغاية إزاء ما وصفوه بالهيمنة، والتطرّف الوهابي، ونبذ مدارس الفكر والفقه الإسلامي الأخرى. وطالما أنهم يقدّمون فروض الولاء للقيادة السعودية ويؤكدّون دورها في حماية واحترام التنوع في السعودية، بما في ذلك الحجاز، فإن ذلك يسمح لهم بالإفصاح عن تحفّظاتهم بشأن الحركة الوهابية وعلمائها. وكان ذلك مقبولاً في الوقت الذي أرادت القيادة تطويع/تجنيد كل المناطق لمكافحة نزعة التعصب والإرهاب. وقد وجد الحجازيون، شأن الإصلاحيين الدستوريين، والشيعة والاسماعيلية، فرصة لشجب المذهب الوهابي، الذي قام روّاده بتكفيرهم بسبب ممارساتهم الصوفية، مثل زيارة قبور الأولياء، والاحتفال بالمولد النبوي، وممارسات طقسية أخرى يصفها الوهابيون على أنها أشكال من الهرطقة. وشجبت فتوى وهابية الشيخ علوي المالكي، أحد الشخصيات الدينية الرئيسية في الحجاز والمعروف بتوجّهه الصوفي، ما أدى إلى إقصائه عن المنابر الدينية الرسمية. وحين توفى سنة 2004، حضر قادة سعوديون كبار جنازته، في محاولة لتظهير سياسة الحكومة الجديدة في الاعتراف بالتنوّع الديني في البلاد والتواصل مع أتباعه/أهل دعوته.
باتت الحقوق الدينية للأقليات قطب الرحى الذي تحوم حوله نشاطات كثير من الجماعات. فقد تخلى الشيعة عن لهجتهم الثورية ومالوا إلى التداخل مع الدولة، حين تريد الأخيرة إبراز سياستها الجديدة في الإدماج. وقد طوّرت كل الجماعات الأقلوية قنوات إعلامية بديلة لتعبئة أتباعها وفضح الممارسات الجائرة. وحيث أن الإسماعيليين قادمون متأخرون، فإن الشيعة يحوزون على تاريخ طويل من الصراع مع النظام، كما تمّ استعراض ذلك في الفصول السابقة. وببساطة، لا تستطيع السعودية اليوم تجاهل مطالبهم، بالنظر إلى السياق الإقليمي الجديد بعد احتلال العراق. وإذا كانت الدولة تستطيع العمل بصورة خاطفة لكبح جماح الحراك الشيعي، كما فعلت مع الاتجاه السلفي المتشدد، فإنها تدرك بأن أية مواجهة مستقبلية مع إيران قد تدع السعودية عرضة لاضطرابات في المدن الشيعية في المنطقة الشرقية. ولحد الآن، فإن القيادة حاولت بناء جسور مع إيران، وتدعو للحوار والدبلوماسية. ولكن تبقى قطاعات من المجتمع السعودي متقبّلة فتاوى راديكالية، تدين الشيعة وجماعات دينية من خارج التيار العام(5).
([)ورقة قدمت إلى ندوة “من أجل الوحدة العربية… رؤية إلى المستقبل”، التي عقدها مركز دراسات الوحدة العربية.
(1) جرى توثيق النضالية السياسية لهذه المجموعة، سوياً مع عرائض مختلفة أرسلت إلى القيادة، في كتاب طبع في بيروت بعنوان: دعاة الإصلاح السياسي 2004.
(2) في سنة 2005، لحظ سيمون هندرسون قمع توجّه الإصلاحيين في السعودية: أنظر Henderson 2005.
(3) بدأ خطاب جديد حول التعايش بالظهور بين الناشطين الشيعة: أنظر: إبراهيم 2007.
(4) نشر بيان الاثنين وعشرين عالماً وهابياً على شبكة الإنترنت.؟ أنظر (بيان 22 عالماً وهابياً حول الشيعة) 2008، al-Sadoun 2008
(5) يواصل الشيعة التعبير عن مخاوفهم بشأن العدد المتزايد من الفتاوى ضدهم، عقب احتلال العراق. تفاصيل أخرى أنظر: فتاح وأبو السمح 2007.
الحلقة الخامسة

المرأة والبحث عن المساواة
كانت النساء لفترة طويلة من الزمن الأقلية الصامتة في السعودية، بالرغم من أنهن يتفوّقن، ربما، على الرجال من الناحية العددية. فهنّ مقصيات من المناصب العامة، ومحرومات من التصويت في الانتخابات البلدية. وقد فرضت الحكومة قيوداً صارمة على حركتهن وتوظيفهن. ويعود الإقصاء والتمييز ضد النساء الى عوامل كثيرة، تشمل التفسيرات الإسلامية الوهابية الضيّقة، والأعراف القبلية، ونزعة المحافظة بصورة عامة. وبينما توجد هذه العوامل في البلدان الخليجية المجاورة، إلا أنها وحدها السعودية التي يمكن للمرء أن يجد أشكالاً متطرفة من الفصل على أساس الجنس، وتعدّد الزيجات غير المنضبط(1)، ومحدودية الفرص الوظيفية والظهور في المجال العام. وفيما لم يتم السماح للنساء بالمشاركة في الانتخابات الوطنية والمحلية في كل دول الخليج، فقد تم تعيين بعضهن في مناصب وزارية عامة، في الكويت على سبيل المثال.
استعملت الدولة السعودية، في ما مضى، القيود الصارمة على المرأة لتعزيز متبنياتها الإسلامية وإبداء احترامها للشريعة. فقد أصبحت النساء رموزاً لورع/تدين القيادة، وإشارات للجمهور للتدليل على التزام الدولة بالإسلام. فقد كانت النساء إشارة مرئية على موجة الأسلمة التي تتبناها الحكومة في الثمانينيات من القرن الماضي في رد فعل على التحدّي الداخلي إزاء النزعة الإسلاموية، على سبيل المثال بعد استيلاء جهيمان على الحرم المكي سنة 1979، والاحتجاج الإسلاموي في التسعينيات من القرن الماضي. على أية حال، في القرن الحادي والعشرين وتحت تأثير/وعلى وقع اللهجة الإصلاحية تبنّت الدولة مقاربة أكثر انفتاحاً للقضية. وقد شجّع ذلك النساء السعوديات على رؤية القيادة بكونها مدافعاً عن حقوق المرأة ومتعهداً بتحرير تدريجي بما لا يفضي إلى انحراف خطير عن المعايير العامة للشريعة الإسلامية. فقد سمحت القيادة، وخصوصاً الملك عبد الله للنساء بحضور أكبر، على سبيل المثال، في الأصعدة الاقتصادية، والتعليمية، والاجتماعية. كما عبّر وزير الخارجية سعود الفيصل وشقيقه تركي، السفير السابق في واشنطن، عن دعم تحرير المرأة، ولكنهما شدّدا على أن المجتمع السعودي المحافظ لا يزال غير مستعد للقيام بتغييرات جوهرية قد تثير عداوة ونفور قطاع كبير من المجتمع. ويتوقع كلاهما أن يتم السماح للنساء بقيادة السيارة في المستقبل، حين يكون الجميع جاهزاً لخطوة ثورية من هذا القبيل.
وفي الوقت نفسه، شدّد الأمير نايف، وزير الداخلية على رفضه لأي تغيير فجائي يؤول إلى أن تصبح النساء السعوديات مثل النساء الغربيات. وأكّد على أن المرأة السعودية تتمتع بكامل حقوقها كما حدّدها الإسلام. مثل هذه الكلمات تظهر أحياناً في سياق توجيه الى علماء الدين وممثلي هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد أشادت كثير من النساء بالملك عبد الله لقبوله بتطلعاتهن. على أية حال، فهؤلاء يرغبن في أن يقوم الملك بوضع حد لنفوذ العلماء الوهابيين المتشدّدين، الذين يقاومون أي انفتاح في الشأن العام أمام النساء ويمضون في إصدار فتاوى تدعو الى تأطير المرأة ضمن الأدوار التقليدية التي تدور حول البيت وتربية وتعليم الأبناء.
وقد تلقّت النساء السعوديات إشارات مواربة في ما يتعلق بأفق التغيير الاجتماعي الذي تقوده الدولة. وأكثر من ذلك، فليس الكل يناصر تحريراً أكبر للمرأة، فقد التحق بعضهن بالإسلاميين المتشدّدين الذين يصوّرون دوراً تقليدياً للمرأة، بالرغم من أن أجندة تحرير معتدلة قد تمت صياغتها من قبل بعض الشخصيات الإسلاموية الصريحة. على سبيل المثال، ناقش القاضي عبد العزيز القاسم والشيخ الصحوي سلمان العودة بأن إقصاء المرأة في السعودية هو اجتماعي أكثر منه حكم إسلامي. فقد تداخل التراث والممارسات القبلية مع الحكم الإسلامي، ما أدى إلى تفسيرات مضلّلة للنصوص الإسلامية. ومطالبا العلماء بمحاولة الفصل بين ما هو اجتماعي وما هو ديني في سبيل التوصّل إلى فهم أفضل لحال المرأة في الإسلام. وتوافق القاسم والعودة على أن ليس هناك نصوص إسلامية واضحة تدعم منع المرأة من قيادة السيارة. وبقي إسلاميون متشدّدون آخرون، مثل سفر الحوالي، وفياً للتفسيرات الصارمة والتي تسهم في تكبيل النساء وإقصائهن المتواصل.
وبدا الأكاديميون ورجال الأعمال في وضع أكثر بروزاً وتصميماً على المطالبة بمشاركة أكبر في الاقتصاد، والتوظيف، والمساهمة في الشؤون الاجتماعية والتعليمية. وبالنسبة للنساء الناشطات اللاتي قمن بقيادة سياراتهن في الرياض سنة 1990، في اعتراض علني على قرار منع النساء من قيادة السيارة، فقد جرت إعادة تأهيلهن وإرجاعهن لوظائفهن. ومنذ سنة 2003، استغلت النساء الفرصة للتعبير عن دعم القيادة في مكافحة التطرّف الديني، الذي يعتقدن بأنه المسؤول عن تخفيضهن/إخضاعهن.
ويجادل كثيرون بأن إقصاء المرأة يمثّل الوجه الآخر للتعصّب الذي أنتج الإرهاب والتفجيرات الانتحارية. وقد سلّطت كثير من الأكاديميات والكاتبات الضوء على التواشج/التعالق بين العنف والفصل على أساس الجنس الذي ما زال سارياً في السعودية. وقد ظهرن في لقاءات الحوار الوطني، وخصوصاً اللقاء الذي تطرّق لقضايا المرأة، لتسليط الضوء على الحاجة لرفع القيود المفروضة على توظيف المرأة. وواصلت عديد من النساء المطالبة بالحق في حرية الحركة وإنهاء قيمومة/سيادة الذكر عليهن. واستعرضن التعديّات الجائرة في المحاكم في قضايا الطلاق، ورعاية الأطفال. وكانت مقدّمة التلفزيون السعودي، رانيا الباز، تعرّضت للضرب المبرح من قبل زوجها. وقد غمرت صور وجّهها المشوّه وسائل الإعلام الدولية، وصفحات مواقع الإنترنت السعودية. وتم نشر قضيتها بعد توثيق محنتها في كتاب، طبع في فرنسا بمساعدة منظمة فرنسية. كما تعرّضت المرأة، التي باتت معروفة باسم فتاة القطيف، لاغتصاب جماعي من قبل سبعة رجال. وواجهت تهمة التواجد في حالة (خلوة غير شرعية)، مع رجل غير محرم، حيث واجهت حكماً بالسجن ومئتي جلدة، فيما واجه غاصبوها أحكاماً بالسجن لمدد قصيرة ومتساهلة. وقد انتشرت قضيتها أيضاً خارج البلاد. وأصدر الملك، تحت تأثير ضغوطات من الولايات المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان الدولية، بياناً يعفو فيه عن الفتاة. وتم فسخ عقد زواج امرأة من زوجها، بخلاف رغبتيهما، من قبل محكمة سعودية بذريعة (عدم تكافؤ النسب) حيث ينتمي زوجها إلى مجموعة قبلية لا تتوافق مع نظيرتها التي تنتمي إليها الزوجة، وهو سبب يسمح للقاضي بإلغاء عقد الزواج بناء على بعض التفسيرات الدينية لشروط/متطلبات الزواج الشرعي. وقد عبّرت مجموعة صغيرة من النساء عن الرغبة في تشكيل منظمة مستقلة للدفاع عن حقوق المرأة، ودعوة القيادة لرفع الحظر المفروض على قيادة للمرأة للسيارة. ولحد الآن، لا توجد منظمة نسائية من هذا القبيل، اللهم إلا عدّة جمعيات خيرية، خاضعة تحت إدارة أميرات معروفات، لتقديم العون للنساء.
وعارضت نساء أخريات الفكرة، باعتبار أن أي تغيير هو نتاج مؤامرة غربية لتقويض التقاليد الأصيلة وأعراف البلد، إضافة إلى تحطيم تماسك الحياة العائلية في السعودية. ووقعت المجموعة على عرائض تحثّ القيادة على تجاهل النقد الخارجي والضغط الداخلي من النساء السعوديات اللاتي وصفنهن بـ (المتغربات)، و(عديمي الاستقامة). وأكّدن على أن النساء في السعودية ينعمن بميزة كونهن غير مسؤولات عن الرفاه الاقتصادي للمنازل، والتحرر من عبء قيادة السيارات، وكونهن في الحقيقة ينعمن بالسعادة بوضعهن الحالي، الذي تمليه الشريعة. وتشارك بعض النساء من الطبقة الراقية/العليا وجهات النظر تلك، والتي عبّروا عنها في سياق مقابلات مع وسائل إعلام غربية.
وفي ما يبقى التناظر/النقاش حول المرأة ساخناً وانقسامياً/ خلافياً داخل السعودية، فإن منظمات حقوق الإنسان الدولية تسلّط الضوء على قضيتهن. وبحسب تقرير صدر مؤخراً، يبقى التمييز على أساس الجنس ممارسة شائعة/دارجة. ويعتقد بأن قيمومة الذكر على النساء البالغات هي مصدر التمييز على أساس الجنس. وتعني القيمومة أن المرأة يجب أن تحصل على ترخيص من الأقارب الذكور في حال السفر، العمل، الدراسة، أو الزواج.
وهذا يحدّ أيضاً من قدرة النساء على الإبلاغ عن التعدي والعنف إلى السلطات المختصّة أو صنع قرارات تتعلق بقضايا ذات صلة مثل الصحة، والأطفال، والعمل، والمستقبل. وتعتبر هذه القرارات امتيازاً خاصاً بأقاربهن من الذكور. وتزعم الدولة، بدعم من علماء الدين، أنها ببساطة تطبّق الشريعة الإسلامية، ولكن دون الاعتراف بالتفسيرات المتعدّدة التي طوّرها علماء الإسلام الآخرون في الماضي. وتواصل الدولة الدفاع عن/التمسّك بتفسير واحد، الذي يصدف بكونه الأشدّ صرامة في العالم الاسلامي.
التعبيرات الأدبية الجديدة: جنسنة (Sexualisation) السياسة والعنف
بحلول عام 2000 بدأ جيل جديد من الروائيين السعوديين الشباب بالبروز في المشهد الأدبي السعودي والعربي(2). فقد نشروا رواياتهم خارج السعودية، وبصورة رئيسية في بيروت والقاهرة. ووجدت هذه الروايات مكانها على رفوف معارض الكتب في مدن سعودية عدّة، بالرغم من بعض التوصيفات الجنسية الصريحة والجريئة. وتمّت ترجمة بعض الروايات إلى اللغة الإنكليزية، وشملتها المراجعات الغربية للأدب العربي في صحف إنكليزية راقية، والمراجعات الأدبية(3).
ويهيمن موضوع متواتر على الموجة الجديدة من الأدب وهو: الإرهاب. فقد اختار بعض الروائيين الحفر/نبش نفسية الإرهابيين الشباب، وموضعتهم في بيئة إاتماعية لجوارات مدقعة، وفضح إحباطهم الجنسي المزعوم والعلاقة المضطربة مع الجنس الآخر، وتوصيف نزواتهم بشأن البكور السبعين اللاتي ينتظرنهم في الجنة، وإدانة علماء الدين الذين أخضعوهم لعملية غسيل دماغ ممتدّة (al-Hamad 2005; al-Huthlul 2004). فقد جرى استدراج الشباب المضلّلين، الذين يمروّن في تجارب مضطربة نتيجة للتغيرات المتسارعة التي اجتاحت المجتمع، أعقبها الذنب والعار، الى معالجة عبر الاستشهاد، الموضوع الذي هيمن على العديد من الروايات. ويلزم ملاحظة أن من السهل رسم كاريكاتور عن إرهابي، رغم البحث الأكاديمي الجاد حول أولئك الذين يقومون بأعمال إرهابية داخل السعودية وعالمياً. وينطوي هذا الفن على رسالة سياسية قوية وكذلك واضحة، مغلّفة بإثارة جنسية. أنتج بعض المؤلفين نصوصاً أدبية سطحية حول أزمة سياسية وأمنية معقّدة. وعثروا على حل للإرهاب في الفرص الوظيفية والأعمال، للنأي بالشباب بعيداً عن الضجر، والمغامرة، والعنف. وبحث آخرون عن سبيل للخروج عبر الحد من دور الدين في الشأن العام، واستبداله بثقافة جماهيرية حديثة وتسلية، مثل كرة القدم، والمسرح، والموسيقى، والسينما.
اشتغل عديد من الروائيين السعوديين، منهم تركي الحمد، وهاني النقشبندي وصحافية سعودية، آلاء حثلول، على التنقيب في عملية حيث تصبح (جنسنة) السياسة وسيلة نهاية، لإدانة، بصورة أساسية، النص الديني الصارم في البلاد، مورد اللائمة لجميع الأمراض. ويندرج هؤلاء، بسهولة، في خانة الكتّاب السعوديين الليبراليين بسبب نقدهم الجريء للشأن الديني، دونما ضرورة التحقيق في العلاقة الوثيقة بين الدولة وناموسها الديني، وكلاهما كانا عاملين مساهمين في الإرهاب الذي تفجّر في القرن الحادي والعشرين. ويتلطى الجيل الجديد من الروائيين السعوديين خلف القصة الخيالية لتقديم رسائل نقدية قوية لشجب نزعتي المحافظة والتعصب في الإقليم والمجتمع في السعودية.
وفاجأ روائيون، وخصوصاً النساء، الوسط الأدبي بسب رواياتهم الجريئة حول مغامرات جنسية خاصة، الحقيقية والمتخيلة معاً. عناوين مثل (بنات الرياض) (نساء المنكر)(4) بقلم رجاء الصانع وسمر المقرن على التوالي، جذبت اهتماماً واسعاً وتأرجحت بين التقريض/الإشادة والإدانة والاستنكار. وبعد فترة طويلة من التواري عن الشأن العام، وصفت كاتبات شابات وبصورة تفصيلية تجارب جنسية غير شرعية وجموحات بطولاتهن، وتالياً الكشف عن الأسرار الأكثر حميمية والعزيزة في حياتهن الخاصة. وكما كان متوقعاً، فقد اعتبر النقّاد الأدبيون الليبراليون في السعودية تلك الروايات بأنها بداية تحرر جنسي وتحرير المرأة، فيما أدان الاسلاميون والمحافظون أولئك الروائيين ودعوا إلى حظر كتبهم. وقد أصبح هذا الفن، الشبيه جداً بذلك الذي نعم به المراهقون في أجزاء أخرى من العالم، رمزاً لتحرّر المرأة السعودية في عيون كل من المعلّقين الغربيين والسعوديين. وبفعل التواري خلف شخصيات خيالية، قدّمت الروائيات السعوديات رسالة قوية الى مجتمعهن، ببساطة وشفافية بما يفضي إلى بعثرة الصورة التقليدية عن الأم الورعة، والأخت المطيعة، والبنت الخاضعة/المستسلمة، واستبدالها بأخرى عن المرأة الجريئة التي تنخرط بجسدها وإشباع شهوتها ونزواتها. فقد اقتفين جيلاً من الروائيين الذكور الذين اشتغلوا، وبدرجة مماثلة، على التعبير عن الرغبة الجنسية في مجتمع محافظ، على سبيل المثال ثلاثية تركي الحمد حول نمو/تطور الرياض في السبعينيات من القرن الماضي، وعمل غازي القصيبي في موضوعات مماثلة. وتساهم النساء الآن في هذا النوع من الأدب والمجازفة إزاء غضبة المجتمع، رغم كون ـ هذا الفن ـ حظي بالتهليل خارجه.
الروايات التي تتعامل مع الإرهاب والرغبة الجنسية هي تعبيرات عن خصخصة السياسة وجنسنتها في البلاد، حيث النشاطات السياسية محجّمة وحرية التعبير محدودة. وفيما بات كثير من السعوديين غير قادرين على الانخراط بحرية تامة وبصورة مباشرة في السياسة دون مواجهة خطر الاعتقال، عثر كثيرون على سلوى في الذوات السياسية المخيّلة والمجنسنة. وقد اعتاد السعوديون على القول بأن ثمة ثلاثة محرمات ثابتة في هذا البلد: السياسة، والدين، والجنس. واليوم، وحدها السياسة التي بقيت محظورة. فقد توارى (السياسي) من الصعيد التقليدي للنضالية السياسية والحراك الى الذات ودسائسها. وتحت تأثير سياسة الحكومة الاجتماعية والاقتصادية (infitaú؟؟)، فإن النزوات الجنسية ونقد نزعة المحافظة الدينية هما على أجندة كل من القيادة والدوائر الليبرالية في المجتمع السعودي.
هذا النوع من الروايات التي تدعى بالليبرالية أثارت ردود فعل من كتّاب آخرين يحملون أجندة إسلامية. وكتب الروائيون الإسلاميون قصصاً قصيرة لدحض الاتهامات الليبرالية ذات الصلة بالإرهاب واستعراض الرسالة النبيلة للجهاد في أماكن مثل أفغانستان في الثمانينات من القرن الماضي، أو البوسنه في التسعينيات من القرن الماضي. وقاموا بتخليق صورة مضادة للشباب المسلم الملتزم، الذين يقاتلون من أجل رفعة/سيادة دينهم والدفاع عن المسلمين (al-Hodayf 2006). على أية حال، لم يجرؤ أي روائي على تمجيد أولئك الانتحاريين الذين تورّطوا في العنف داخل السعودية. فأرواحهم وبيانات النعي تبقى مستورة في العالم الافتراضي للإنترنت. وفي موضوعة الرغبة الجنسية، يحتفي الروائيون الإسلاميون بالحب العذري الذي يؤول الى الزواج، والعائلة، والأمن، والعلاقة الشرعية بين الرجل والمرأة.
ويشجب هؤلاء العلاقة الجنسية غير المشروعة، ويتبنون نبرات أخلاقية ووعظية تجعل كتاباتهم قاصرة في أسلوبها الأدبي وموضوعها. فالسعودية على وشك أن تخرّج روائيين يضاهون الأسماء الكبيرة في البلدان العربية. ومع بزوغ تكنولوجيا الاتصال الجديد يكون قد اختصر المسافة أمام تطور هذا النوع الفني الذي يحظي بأهمية دولية لافتة. ربما كان عمل عبد الرحمن منيف، مؤلف (مدن الملح) تطوّراً فريداً ارتبط بالصدّمة المبكرة للنفط.
المنابر الافتراضية: تجهيل/
استتار السياسة
وفّرت تقنيات الاتصال الحديث مجالاً عاماً بديلاً لكل السعوديين للتعبير عن آرائهم، وإرسال أفلام قصيرة وصور، والتعبير عن وجهات نظرهم حول كل جوانب الحياة تقريباً. فقد أصبحت منتديات الحوار على شبكة الإنترنت رائجة منذ سنة 2003، تلتها غرف الحوار المعروفة باسم (بالتوك)، ومواقع التدوين، اليوتيوب، وفيسبوك وغيرها، وكذا أدوات التواصل الإلكتروني المرئي والصوتي. واستخدم كثير من الشباب السعودي الوسائل الجديدة تلك للمغازلة مع الجنس الآخر أو مع أفراد من الجنس نفسه، ونشر فضائح، والتواصل مع الأصدقاء، والأشخاص المتماثلين ذهنياً، وتشكيل تجمّعات افتراضية تبحث عن التواصل مع الآخرين. ويدخل الشباب من كلا الجنسين على شبكة الإنترنت للتعبير عن أنفسهم، وليس بالضرورة الإفادة مما تقدّمه التكنولوجيا الجديدة. فلم يعد هؤلاء مجرد متفرّجين، بل هم مشاركون شرهون في لقاءات التواصل العالمي.
يكتب بعض الناس المحبطين سياسياً تعليقات حول الأوضاع السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية في مدوّناتهم(5). ويشارك آخرون في منتديات الحوار، باستعمال أسماء وهمية لتوجيه نقد للمسؤولين، وإدانة الجور، ونشر الإساءات المتعلقة بحقوق الإنسان. وقد نشأت مئات من المنتديات الحوارية، ولدى كل واحد منها توجّه سياسي محدد. وتنتشر على شبكة الإنترنت منتديات حوارية ليبرالية، وطنية، جهادية، إسلاموية، مؤيدة للحكومة، تستهوي آلاف الأعضاء والمعلّقين على صفحاتها. وتتعامل مواقع حوارية شعبية أخرى مع موضوعات التسلية، والجنس، والرياضة، والموسيقى. وانسحب دعم العنف الجهادي، والفتاوى الراديكالية، وصور الشهداء الى شبكة الإنترنت. وظهرت منتديات حوارية جهادية جديدة في الفترة ما بين 2003 ـ 2008، وكان بعضها قادراً على البقاء على الشبكة لفترة طويلة من الزمن، فيما اختفت مواقع أخرى أو وقعت في فخ القرصنة من قبل الخصوم أو أجهزة المباحث.
والتحقت الحكومة بالسباق لفرض رقابة على الإنترنت عبر علم خالص ومؤسسة تقنية/تكنولوجية. وتحت ذريعة حماية الإسلام، والأخلاق، والفضيلة، يتم حجب سيل كبير من المواقع على شبكة الإنترنت بصورة منتظمة. وتراقب الحكومة بانتظام المواقع السياسية والحقوقية. وتستخدم أيضاً موقعاً عالمياً لاصطياد الإرهابيين المحتملين، وأولئك الذين يبثون رسائل وخطبا راديكالية. وأطلقت الحكومة برنامج إعادة تأهيل إلكتروني، (السكينة) لتشجيع الحوار مع أولئك الذين ضلوا وخضعوا تحت تأثير ثقافة الإرهاب. وهذا الموقع الافتراضي يكمّل برنامج المناصحة العامة، وتمَّ تنفيذ مبادرة المناصحة في مراكز التوقيف الخاص، حيث يجري حبس المؤمنين المحتملين بهذه الأيديولوجية إلى وقت إعلان التوبة والتراجع وإدانة معتقداتهم الخاطئة السابقة. وفي هذه المرحلة، يتم الإفراج عنهم للعودة للاندماج في المجتمع.
ويبقى موضع ارتياب ما إذا كانت تكنولوجيا الاتصال الجديد ستشجع على تغيير سياسي جدّي. ولحد الآن، فقد سمحت هذه التقنية للسعوديين بالتعبير عن أنفسهم دون التعرّض لغضب النظام السياسي الذي يبقى مغلقاً أمام دمقرطة حقيقية وفاعلة. ولحد الآن، فإن عالم الاتصال الافتراضي ساهم في الاستقطاب المتزايد للمجتمع السعودي على طول الخطوط الأيديولوجية، والمناطقية، والقبلية، والمذهبية. فالرسائل الراديكالية التي غالباً ما يتم حظرها في المجال العام الحقيقي، تجد مكانها على شبكة الإنترنت. فالتباهي حول الأصول القبلية، وتمجيد العنف الجهادي، والإنكار على الشيعة، وتقويض سلطة علماء الدين، وتشجيع التجديف، والاحتفاء بالجنس وموضوعات أخرى يجري التعبير عنها بحرية تامة بين جيل الشباب السعودي الضليع في الكمبيوتر.
ويتعرض، غالباً، أصحاب الأصوات النقدية الذي يستعملون أسماءهم الحقيقية على شبكة الإنترنت للاعتقال. فقد تم حجب صفحات مدونين، وانتهى الحال بواحد أو اثنين منهم الى السجن بعد نشر آراء نقدية. وهيأت شبكة الإنترنت تحوّل المجتمع السعودي من السريّة إلى الشفافية. فلم تعد أزماته الفردية، والاجتماعية، وعيوبه ومعضلاته الخطيرة أسراراً خفيّة محصّنة في مقابل الدخلاء/الأجانب. فالسعوديون يفحصون، اليوم، أنفسهم عبر الوسائل الجديدة من البث والاتصال ويكشفون عن أسرارهم للعالم الخارجي. ومن الناحية الفعلية، فقد سقط الحجاب. ومن الصعب، بل المستحيل، العودة الى الوراء. وعلى أية حال، قد لا يؤول سقوط الحجاب إلى تجريد أو تعرية ممارسات الحكم التسلطي في المدى القصير، بالرغم من أنها قد تكون نتيجة حتمية لا مهرب منها في المدى الطويل. وحينذاك فحسب، سنكون قادرين على التحقّق ما إذا كان تحديث الحكم التسلطي كان إجراءً ناجحاً، بدلاً من التغيير السياسي الجدّي للانتقال بالسعودية إلى ما بعد الإصلاحات الشكلية.
([) ورقة قدمت إلى ندوة «من أجل الوحدة العربية… رؤية إلى المستقبل»، التي عقدها مركز دراسات الوحدة العربية.
(1) تبيّن مها يماني أن تعدّد الزيجات يحظى بتشجيع مباشر من علماء الدين التابعين للدولة. وتدرس يماني الظاهرة من وجهة نظر قانونية واجتماعية. انظر يماني 2008
(2) وتشمل الأسماء عبده خال (1989 و2003) وهاني نقشبندي (2007)، وحتى أمراء بدأوا بنشر روايات اجتماعية وتاريخية، ممزوجة بسيرة ذاتية: أنظر، على سبيل المثال، آل سعود 2004. وكانت رواية آل سعود قد منعت كونها تغوص في حياة أمه البلوشية الأمة، والتي عاشت في حريم الملك سعود
(3) ترجمت رواية رجاء الصانع، بنات الرياض إلى عدّة لغات أوروبية. وتحيط الرواية بحياة افتراضية لأربع نساء سعوديات من خلال رسائلهن الإلكترونية.
(4) بالإضافة إلى الصانع، تعرضت كل من الصحافية سمر المقرن، والكاتبة زينب حفني للإدانة بسبب الرسائل الجنسية الصريحة في روايتيهما. وتم نقل ظهورهما الإعلامي على موقع يوتيوب، مرفقاً بتعليقات كتبها المشاهدون. وتحظى حفني في الدوائر الغربية، بحفاوة خاصة باعتبارها مؤلفة تقدّمية تتحدث وتكتب عن الجنس والمحرمات. أما بالنسبة لجمهورها السعودي فينكر عليها ذلك، ويدينها.
(5) المدوّنات السعوديات هن أيضاً ناشطات على شبكة الإنترنت: أنظر Sheikh 2007.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى